أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 5]















المزيد.....

ضحايا [ الجزء 5]


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 3006 - 2010 / 5 / 16 - 09:45
المحور: الادب والفن
    


عجز عن رفع رأسه. شعر أن كل جسده يستعد للموت. تراخت أعضاءه و صار عاجزاً عن التحكّم بها. عاوده الدوار و الرغبة في التقيؤ. فتح عينيه، الرؤية غير واضحه. فجأة ظهر وسط ذاك الضباب الكثيف، الذي خيل له أنه غزى الغرفة مع بداية غروب الشمس، وجه ألِفَهُ و أحبَّهُ، عيونه حزينة و قلبه كسير. كم يحن إليه... ناداه:
- سعيد ...سعيد... يا مسكين ، هل كانت حياتك ثمناً عادلا لما صُرفَتْ من أجله ؟...
شعر به يقترب منه. يقف أمامه. رفع يده بتردد. لامس كتفه، ربت عليه و جذبه. حاول ان يضمه. لكنه إختفى... ناداه ثانيةً. ترجّاه ان يعود و يجلس الى جانبه كما كانا يفعلان في الماضي عندما تشتد مرارة الذكرى و لا يقوى العجوز على إحتمالها فيشرب و يبدأ بسرد مأساته باكياً .
ظلم نفسه أو ظلمته الحياة ؟؟ لا يدري و لم يهمه ما يفعل .
سعيد كان شاباً مَلَأ الرضى و الأمل روحَهُ . كان في الثانية و العشرين من العمر عندما عُيِّـنَ معلماً "بجبل عامر" قرية قيصر و كان قيصر طفلاً في سنته الأولى بالمدرسة. أحب بساطة الأهالي و الطبيعة الجبلية الساحرة رغم قسوتها. كان شاعراً عاشقاً. أُغرِمَ بالفاتنة ابنة السبع عشر ربيعاً "فاطمة". أبوها الذي يعمل في مقاطع الحجارة كان مُعدماً كأغلب سكان القرية. لكنه كان طيباً و كريماً. بارك زواج فتاته من الشاب المحترم المبجَّل. كانت أسعد أيام حياته تلك التي قضاها في تلك الربوع الدائمة الخضرة ...
أحب منظر الجبل حيث تكسوه خُضرة الربيع و تُغطي قمته ثلوج الشتاء. تعوَّدَ مع زوجته الحبيبة تسلق صخوره الكبيرة و التجوال في أطراف الغابة بين أحراشه العطرة حيث يرعى النحل و تتراقص الفراشات.
كان سعيد سعيداً مؤمناً تقياً رصيناً. شكر الله على النعيم الذي منحه إياه و إستكان للدنيا التي هُيأَ له انه إمتلكها بأسرِها. زوجته الجميلة كانت وديعة و مُغرمة بحياتها الجديدة. معها صارت دنياه لحنَ حبٍ و هناء دائم. كم كان سعيداً بذاك اللحن العذب المتواصل.
عندما رزق طفله الأول شجعته فاطمة بكل براءة على الرحيل إلى المدينة. قالت له أن مستقبل الأطفال و دراستهم هي ما يدفعها لطلب ذلك. طلبت منه أن يوفر لهم حياة محترمة و فرصة للنبوغ في إحدى المدن الساحلية الجميلة. فكَّر بجدية بإقتراحها و قرر في النهاية ترك تلك القرية الهادئة. فاطمة حَلُمَتْ بالمدينة منذ أدركت سحر جمالها و شبابها الغض وسلطته على النفوس. شعرت أن مثلها يجب أن تعيش في عالم أرحب و في نعيم مادي حقيقي...
تغيّرت حياتها في المدينة. دب الاختلاف في الأسرة الصغيرة الهادئة. كانت طلباتها صغيرة و مشروعة لكنها كانت تتعارض مع ميلِهِ الطبيعي للسكون و الهدوء و الانزواء. إعتاد أن يقضي يومه بين العمل و المسجد و البيت. لم يكن يرى أهمية لأي فظاءات أخرى. عمله يشغله كثيراً و لا يجد وقتاً كافياً ليُلبّي طلباتها الساذجة.
ضحك دوما من تفاهة تفكيرها و إعتبر رغباتها صبيانية مجنونة.
إحتجت لأنها شعرت بأن رفضه كان حرمانا مبالغا فيه. كل ما رغبَتْ به هو زيارة المسرح و السينما و التجوّل في أرجاء المدينة الكبيرة الساحرة. قرأت في القصص الكثير عن هذا العالم الجميل و أرادت أن تكتشفه لكنه كان يرد بابتسامةٍ و لا مبالاة...
مع مرور الأيام إزداد شوقها لمعانقة هذه الحياة الجديدة التي تمر نابضة صارخة تحت نافذة شقّتها. الألحان الجميلة التي يرددها بائع الحلويات تُطربها و أصوات السيارات التي تمزِّق السكون هاربةً بسرعةٍ مجنونة إلى اللانهاية ثم تتلاشى في الليل البهيم تُثير بنفسها أشجاناً و تملأ عيونها بدمعٍ لا تفقه أسبابه.
في كل الليالي تشعر أنها أرض عطشى تشتاق لقطرات المطر في وحدتها الموحِشـة، تنظر إلى الزوج المستسلم للنوم بجانبها و تلعن القدر. تُردد كما لو أنها تحاول ان تُقنع نفسها:
- يا له من قدر شحيحٍ قاسٍ... إني زهرة تذوي في سجن ذهبي كريه. حارسي متخاذل سلبي جبان. المسكين يعتقد أن نقل ملكية البيت بإسمي سيُسعدني. إنه يسلّمني مفاتيح باب السجن لأصير أنا السجينة و السجّان. نعم لقد أُغرِمتُ بهِ من قبل لكنني لم أُحبُهُ يوماً فلماذا هذا الحزن الذى يتملَّكني كلما وقع نظري عليه... كم أصبحتُ أكرهه.

تنهدَت بحسرة و وضعت يدها على فمها و خرجت راكضةً إلى الحمّام. تقيأت، رفعت رأسها و نظرت إلى وجهها في المرآة. ما كل هذا الشحوب !! ؟
- أُريد حريةً بلا قيود. أُريد أن أركض على الشاطئ ليتلاعب الهواء البحري اللطيف بشعري لم أعد أحتمل الاستمرار في هذه المسرحية فقد أضحت ثقيلةً مُملة.. سأتركه و أطلب الطلاق.
ذاك اليوم، تركها نائمة في الصباح عندما ذهب إلى عمله. لم يَـشَـأ أن يُزعجها فهو يحبها و يشعر بضيقها و حزنها. قرر أن يفاجئها بإقامة طويلة تقضيها مع عائلتها عسى أن يعود لها مرَحُها و حبورُها.
حين أفاقت كانت قد حزمت أمرها على السفر. قفزت من الفراش و جعلت تجمع ثيابها في حين يتردد صدى غناء بائع الحلويات في الشارع .
توقفَت فجأة. نظرَت من الشباك المفتوح إلى الفضاء الممتد. تذكّرَت موطنها، تساءلت أين ستذهب عندما ستغادر البيت. إنه بيتها. ملكها وحدها وعليه أن يقبل قوانينها أو يتركها و يرحل. لامست عقلها أفكار مجنونة اقشعرَّ لها جسدها. ضمت يديها إلى صدرها . إنها لم تغير بعد ثيابها. مازالت ترتدي الثوب الحريري الشفّاف الذي يغطي بعض جسدها. ابتسمت لذةً و لمعت عيناها. أحست أنها تولد من جديد بكل طموحها الذي أنفلت من القيد فجأة. فتحت فاها و بلهفة شربت الهواء البارد الذي تجعله رائحة الحلويات في الدكان المقابل ألذ. التقت عيونهما. تبادلا النظرات بوقاحة و تحدٍ. لوَّح لهاً داعيا إياها لتذوق معروضاته، عندها أشاحت بوجهها وقد إرتسمت على وجهها علامات الرغبة و التحدي.
في المساء من ذات اليوم زارت الدكان، وقفت بالباب مرتبكة مضطربة. تقدم منها و بصفاقته المعهودة عرض عليها تذوق كل لذيذ مما صنعت يداه. أغمضت عينيها متلذذةً بطعم قطعة البقلاوة التي إختارتها. تأملها ثم قال :
- أقطف من كل بستان في هذه المدينة الساحرة زهرة لمن هن رقيقات مثلك حتى يعُـدنَ. هل عانقت عيناك سحر البساتين التي تذوب عشقاً للمدينة ؟
كان يردد كلاماً تافهاً بلا معنى. يقول ما يخطر على باله فقط ليطول مقامها عنده. شعر أن شيئا بأعماقه يصرخ أن لا تذهبي... لا تبتعدي... إني أريدك...
تنهدت ، مالت نحوه و كما لو كانت تكلم نفسها قالت:
- اعشق الطيران لكن ليس لي أجنحة لأحلق.
- سأحملك لو سمحتِ بقلبي و نعبر معاً إلى عوالم سحرية.
أمسك يدها الصغيرة المرتجفة رغبةً. إحتضنها بقوة كمن يخاف أن تفلت منه. ثم قبَّلها بحرارة و بعينيه وعود آسرة.
عندما عادت إلى بيتها شعرت بالهوان و الذل، بكت بحرقة. لم تفهم ما الذي فعلته بنفسها. تساءلت : كيف هانت عليها كرامتها إلى ذاك الحد.
كم هن غريبات مثيلات فاطمة... يلذُّ لهن أن يلعبن دور المظلومات المغلوبات على أمرهن حتى أمام أنفسهن. الدموع عملة ككل عملة يستعملنها لابتزاز العطف حتى و إن أخطأنَ ..
حين عاد زوجها كانت هادئة كما لم يعتدها يوما. احتضنته و أغرقته قُبلاً و دموعاً. تخلّصَت في حضنه من وقع خطيئتها.
بعد أيام، أخبرته أنها تعرفت على صديقة طيبة، استأنست بها في وحدتها القاتلة. اعتذرت عن فظاظتها في معاملة زوجها المحب الطيب، شعر بصدق كلماتها و صدق دموع توبتها. غمرته السعادة لسعادتها و شعر بالندم لأن ضيقها كله بسبب تقصيره. قرر أن لا يحرمها هذه العلاقة البريئة التي حصلت عليها أخيراً فمنحها مساحةً أكبر من الحرية.
مرت الأيام سريعاً و امتلأ البيت الصغير أطفالاً. صار له ثلاث بنات و ولد و زوجة يعبدها. ملأ الرضاء نفسه. كان مُسالماً و طيباً فتنازل لها على كل شيء حتى دوره كأب. صار ضيفاً لطيفاً غير متطلِّب تقتصر اهتماماته على العمل و زيارة بيوت الله.
في المقابل عاملته كما تعامل أطفالها بلطف و لين. كانت مشاعرها نحوه تتسم بالشفقة أكثر من العطف.
منذ تلك الحادثة تغيرت كثيرًاً. لم تعد تطلب شيء بعد أن صارت صاحبة الكلمة الأولى بالبيت. لم يعد يسمع منها ضيقاً و لا شكوى. يراها دوما باسمةً راضية. تنتظره عند الباب بإبتسامة رقيقة رءوفة. تمسح عن جبينه التعب و الضجر بقبلة الأم الحانية. أغرقت الجميع إهتماماً و لطفاً لتُرضي ضميرها. صارت عنايتها بهم تعويضا عن لحظات السعادة المحرَّمة التي تسرقها من الدنيا و من نفسها.
بين أحضان "عادل" كانت تشعر بذنب أكبر. تقصيرها في حقه يدفعها لتعويضه عن بعدها بفيض من المشاعر و اللهفة المجنونة. تذوب حباً له. تميل عليه بدلال و تطالبه بحب أكبر. كلما زاد جنونها ضحك و أحتضنها بحنو. تنصهر في جسده حتى تفقد كل كيان مستقل. قبلاته و لمساته ترمي بها في عالم خيالي من المتعة و اللذة. لذة محرمة بقدر ما هي غالية و عزيزٌ فقدُها. تتجرد من كل كرامتها في سبيل ما يهبها من سعادة.
تحول انشغالها به إلى هوس، ترتشف كلماته إرتشافاً. تحتويه بروحها قبل جسدها بغيرة الأنثى و حب العشيقة. و في كل يوم ترنو إليه من نافذتها كقديس في هيكل الآلهة. تضطرب و تكاد تقفز رغم الهوة التي تفصل بينهما لتمنعه من الحديث إلى الطالبات الجامعيات الفاتنات اللاتي لا ينتبهن لوجوده و لا يُعيرنه اهتماما. خشيت أن يمُلّها و أن تسلبه أخرى. صور لها تيهها و غرامها أنه مرغوب و أنها لو لم تستجب لكل طلباته مهما كانت خطرة ستفقده إلى الأبد. ركعت تحت قدميه و تزينت بإسراف و تصابت لتبدو أجمل.
قال لها أنها مصابة بلوثة فضحكت و قبّلته بنشوة ليصمت. نظر إليها بشفقة و ابتسم .
بيد أن الملل تسلل إلى نفسه. شعر أنها تخنقه بغيرتها في حين أن زوجته تلزم البيت ككل النساء المحافظات حتى أنها لا تُشْعِرُهُ بوجودها. لم تتدخل بخصوصياته يوماً و لم تطالبه بأي اهتمام رغم علمها بخياناته و سوء أخلاقه. تحيى معه في سكينة و استسلام و لما تغادر البيت لتزور والديها، يكون هو حارسها الشخصي الذي يحميها من كل النظرات. يسدل عليها نقابها و يقودها كدابة ثم يحشرها في السيارة كأي متاع دون أن تحتج أو تُطالب بحقوق، ترعى بيته و أطفاله الثمانية بأمانة. تعلم أنه يكسب الكثير و أنه يصرفه على متعته الشخصية و رغم ذلك و رغم العوز و الحاجة تحمد اجتهاده و تدعو له في كل صلواتها.
ما أتعس السيد سعيد و ما أتعس الذكرى. في ذاك اليوم الشتوي القارص كان متوعكاً فلم يُغادر البيت. خرجت فاطمة لمرافقة طفلتها الصغرى إلى المدرسة. سمع طرقاً على الباب. تحامل على نفسه و قام ليفتحه. رحّب بالزائر مُبتسماً و دعاه إلى الدخول. فهو يعرفه منذ أكثر من عشر سنوات. طوال هذه المدة ، لم يحصل بينهما أي خلاف أو اختلاف و لو كان بسيطا. علاقتهما أتَّسمت دوماً بالاحترام المتبادل. كل يوم عند ذهابه إلى المدرسة يُحَيِي عادلاً و في المساء، يواظب هذا الأخير على حضور الدروس الدينية التي يلقيها المعلم في الجامع. أُعْجِبَ بهذا الأمي الذي يسعى لفهم أمور دينه. شرح له الكثير من الإشكاليات و ساعده في حفظ ما تيسر من الذكر الكريم. استلطفه و مع الأيام توطّدت العلاقة بينها. كم أشفق عليه و كم ساعده...
طلب منه الجلوس لكن عادل قال له بحزم:
- أريد بيتي، الشتاء قارص هذه السنة و أخشى على أبنائي البرد و المرض.
لم يفهم... فسـأله :
- من حقك أن تخشى على أولادك لكن ما شأني أنا ببيتك ؟ عن أي بيت تتحدث ؟؟
- عن بيتي . أريد أن أنتقل للعيش فيه قبل أن يشتد البرد لذا أحب أن تغادروه.
أحس السيد سعيد بالدوار. ردد في داخله :
- إني اهذي. عقلي يصور لي أشياء غير معقولة. أنا ببيتي و الحمى تتلاعب بي .
مد يده ليتأكد انه وحده و انه يكلم خيالا. فإصتدمت بجسـدٍ ينبض حياةً و قوة. أمسك الدخيل يده الممدودة، هزه بعنف ليفيق و ردد بصوت آمر.
- عليكم أن تُخلوا البيت اليوم بدون تأخير. غداً سأنتقل للعيش فيه مع عائلتي. لا تضطرّني لاستدعاء الشـرطة.
- غير معقول... مؤكّد أنني أهذي...
- اقرأ... أرأيت ؟؟ كلها أوراق قانونية و مسجلة في الدوائر الرسمية. أنتم من سيخرج و اليوم . أُريد بيتي و أيضاٌ إبنتي ضُحى و الطب الشرعي سيُثبت ذلك.
شعر بلكمة عنيفة تهوي على رأسه و قبضة حديدية تعتصر قلبه المسالم الضعيف. أصابه الدوار فتهالك على الأريكة. لم يفهم أغلب الكلمات. لم يقدر عقله على إستيعاب الوضع الجديد.
- البيت ؟؟ كيف و متى حدث ذلك ؟؟ و الصغيرة ضحى ذات السبع سنوات ، أليست إبنتي المدللة الحبيبة ؟؟ ما كل هذا الجنون ؟؟
قام متثاقلاٌ لا يقوى على السيطرة على خطواته. ترك الباب مفتوحا و انطلق نحو المدرسة. سار مترنحاً في الشارع. كادت تدهسه عربة مسرعة. صاح به السائق و نعته بأبشع الصفات لكنه لم يكن يُدرك ما الذي يحصل حوله. في عقله الذي يغلي كمرجل تتردد كلمات بائع الحلويات : " أريد بيتي و أيضا إبنتي ضحى و الطب الشرعي سيثبت ذلك".
كيف حصل ذلك و متى ؟؟ أين كان هو ؟؟ كيف لم يلاحظ ؟؟ و ضحى الصغيرة المدللة أليست إبنته ؟؟ أمسك رأسه و صاح في الشارع الفسيح وسط جموع الناس :
- لااااااااااااااا... هذا غير معقول.
عندما بلغ المدرسة ، دخل قاعة الدرس مباشرةً. لم يلتفت إلى زميله و لم يرد على دعابته. أمسك يد البنت بقوه و سحبها ورائه. دفع زميله الذي وقف بطريقه مستفسراً. خرج بسرعة و الطفلة تجري لتلحق به باكية مرددة:
- " بابا، بابا، يدي تؤلمني"
لكنه لم يسمع شيئاً. صوت بائع الحلويات صار آلاف الأصوات التي تُردد ذات الكلمات القاتلة المدمرة .
- "إبنتي ضحى ، إبنتي ضحى ، بيتي ، إقرأ أوراق الملكية ، الطب الشرعي ، إبنتي ضحى... "
بلغ أخيراً المستشفى . دفع البنت الصغيرة الباكية أمامه إلى إحدى القاعات و انتظر. كانت القاعة خالية. سـأل نفسه عمّا سيقوله للطبيب لكنه لم يجد الكلمات المناسبة. جاءت الممرضة أخيراً و طلبت منه الدخول إلى قاعة الفحص. لا يذكر تماما ما قاله لكنه يذكر أن الرجل المسن الجالس هناك ربت على كتفه و قال له :
- أنت مريض . يجب أن ترتاح أولاً.
- لن أرتاح حتى أعلم الحقيقة. أمسك بيد الطبيب العجوز و ردد باكياً:
- أرجوك أريد أن أعرف الحقيقة.
كانت دموعه حارةً غزيرة، لم يتمالك نفسه فبدأ بالعويل كثكلى. إقتربت منه الممرضة و حقنته في الوريد. لم يشعر بوخزة الإبرة. كانت روحه هائمة في عالم آخر. بعد أن إنتهت الممرضة دفع الطفلة أمامه و خرج.
وقف في الردهة و نظر حولهُ. شعر أن أقدامه غير قادرة على حمله... دخل قاعة الانتظار و تهالك على أقرب كرسي، دون أن يفلت الطفلة. جلست قبالته و كانت تبكي بصمت. نظر إليها بحنان . إنها إبنته الصغيرة المدللة. أشفق عليها . مسح دموعها بأصابعه. بدت زهرة رقيقة بريئة. مَن تجَّرأ على تلطيخها بهذا الشكل ؟؟ أراد أن يحتضنها لتهدأ لكنه لم يقدر على الاقتراب منها. جعلت تبتعد شيئا فشيئا. مد يده ليمسكها لكنه لم يبلغها. إنها تهوي، سمع بكائها. كانت تردد "ّبابا، بابا"، البئر الذي هوت به عميق جداَ. لا يمتلك اية حيلة لأنقاذها. صاح " النجدة " لكن صوته بقي مكتوماً.. قرر أن يقفز لينقذها. لن يساعدها غيره. إنه أبوها
عندما أفاق كان ممداً على سرير في المستشفى و البُنَية نائمة على كرسي بجانبه. لا يدري كم بقي مُمدداً هناك. ربما بعض ساعات. طبع على جبين الصغيرة قبلة بثها كل حبه و حنانه ثم حملها بين ذراعيه و ضمها إلى صدره. شعر أن قلبه يكاد ينفطر حزناً و أسفاً على مستقبل طفلته المسكينة. تأمل وجهها الملائكي ثم وضعها على السرير. كانت مغرقة في النوم و إبتسامة بريئة مرسومة على وجهها الصغير. إستدار و خرج بسرعة لكنه عاد بعد بضع خطوات و وقف عند الباب، نظر إليها ثانية ثم هرب راكضا.
قالت له إحدى الممرضات انه ليس الأب الشرعي فإنطلق يجري باتجاه المجهول، إختفى و إختفت أخباره. بحثوا عنه في كل مكان دون جدوى.
قال بعضهم أنه إنتحر، و قال آخرون أنه سافر إلى بلاد أخرى في حين أكّدَ أحدهم أنه رآه تائهاً في بعض المدن البعيدة و قد أصابت عقله لوثة.





#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضحايا [ الجزء 4 ]
- المراة بين الدعارة الشرعية و سفاح المحارم [الجزء 2 ]
- المراة بين الدعارة الشرعية و سفاح المحارم [الجزء 1 ]
- ضحايا [ الجزء 3]
- ضحايا [الجزء 2 ]
- ضحايا [الجزء 1 ]
- الذكورة البدائية و السوط المقدس
- عندما تؤمن النساء بأمجاد -ذكورة- مقدسة


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رويدة سالم - ضحايا [ الجزء 5]