أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أبو الحسن سلام - مسرح باكثير بين التسجيلية ودراما الأوتشرك















المزيد.....



مسرح باكثير بين التسجيلية ودراما الأوتشرك


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2978 - 2010 / 4 / 17 - 23:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



• مهاد نظري:
عرف المسرح التسجيلي ، بوصفه لونا من ألوان المسرح السياسي في عصرنا الحديث . ولقد ولد خلقا فنيا ترقّى ليكون صاحب التجارب المتعددة ( في الإخراج السينمائي وفي التصوير السريالي ، وفي التأليف المسرحي) المعتمد على ما يعرف بإعادة إنتاج الظواهر التاريخية في نضال الشعوب ضد القهر الاستعماري ، وهي الوجهة التي يتبناها ما يعرف بالمسرح التسجيلي في مجاورة فكرية للمسرح الملحمي الذي يعتمد على إعادة إنتاج الظواهر الاجتماعية بغية إعادة النظر من وجهة تفكيك أنساقها وخطابها.
وعندما نقول إن المسرح التسجيلي ولد ، فكان اتجاها فنيا مسرحيا مكتمل النمو ؛ فإننا نعني ذلك تماما. فإذا كان الاتجاه هو مجموعة النظريات التي تنضوي تحت اتجاه فكري أو أدبي أو فني أو نقدي؛ من حيث خطوطها الفكرية وأسسها النظرية بوصفها ملتقى طرق التفكير المتفرع إلى عدد من الطرق والأساليب ، بوصف كل منها طريقا يتسم بمعالم محددة تؤدى إلى حقائق خاصة بها ، تميزها عن غيرها من النظريات برؤية فكرية ذات أسلوب متفرد ،قادر على أن يحدث صدى لدى مستقبلي منتجه الإبداعي أو الفكري أو النقدي الفكري أو الفني ؛ سواء أكان المتلقي من أهل التخصص الفكري أو الفني أو من المثقفين ؛ فيترسّخ بنيانه ، ويتكرر فيشكل تيارا أو رأيا عاما ، ويعترف به عالميا ، ويكون له إتباع يدعون له ويرعون خصائصه المبتدعة وعناصره ذات التأصيل والجدة – في آن واحد – ويتدعم خلال الكتابات النظرية والتنظيرية التي تقننه بعد أن تحلله تحليلا فنيا ، لتضعه في إطار منهجي يتيح لمن يرغب دراسته ، وتداوله ، ومن ثمّ يرتقي مع مرور العهد على تعاطيه وتفاعله مع ثقافات العصور المختلفة عليه إلى مصاف التراث العالمي ؛ إذ يصبح ملكية عامة مشاعة لإنسانية جمعاء في كل عصر ولكل فكر ذي نظر.
وإذا كان النشاط الفكري والإبداعي لا يلبي حاجة البيئة التي أنتجته في ظل تفاعلاتها الموضوعية، مع ذاتية المبدع ؛عبر معاناته أو مع ذاتية المفكر يعد خلاصه من حالة المعاناة ؛ فإن تأثيره يكون ضئيل القيمة ؛ ومن ثّم يكون انتشاره محدودا . وعلى ذلك فإن الاتجاه لا يصبح اتجاها دون تمكّن الفكر الذي تأسس عليه هذا الاتجاه أو ذاك من الإقناع ؛ فالتأثير ؛ ومن ثّم كسب التأييد العام. والأمر نفسه قائم بالنسبة لإبداع إذ لن يصبح اتجاها فنيا أو أدبيا دون قدرته على الإمتاع والإقناع والتأثير العابر للعصور الثقافية والتفاعل معها تأثيرا وتأثرا على تبايناتها ما بين المثاقفة والتناص والتقارب والتباعد. وصولا بالمنتج الإبداعي إلى إعمال فاعليات تطهير النفس بإدماجها في حالة إنسانية تخلصا من قيم سلبية وتثبيتا لقيم إيجابية ، أو وضعها في حالة إدهاش ؛فتأمل وتفكيك ؛ يغير النفس ويغير المدركات حول قضية ما مطروحة.
ومع أن التفاعلات الموضوعية للبيئة العربية متباينة عبر مراحل تاريخية مرت بها البلدان العربية في العصر الحديث ، بدءا من وقوعها تحت عجلة الاستعمار العسكري ، ونضال أبنائها البواسل من أجل التخلص منه ، مرورا بمقاومة مفكريها ومثقفيها ومبدعيها لمحاولات تفكيك أواصر وحدتها؛ التي كانت معلقة على شعرة _ أشبه بشعرة معاوية – على نحو ماحدث في بلاد الشام أو ما عرف بسوريا الكبرى وما حدث بشأن وحدة وادي النيل بين مصر والسودان ، وصولا إلى نكبة فلسطين، بعد الهزيمة النكراء التي منى بها الأنظمة العربية المهترئة في محاربة جيوشها غير المدربة وغير المؤهلة للحرب أمام عصابات الصهاينة، مما أدى إلى تشريد الفلسطينيين خارج وطنهم ، وتزايد تهافت السياسات العربية الحاكمة - صوريا- في ظل الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي. وعلى الرغم من أن الكاتب المفكر "على أحمد باكثير" له إنتاج مسرحي غزير حول القضايا السياسية – الآنية الساخنة - في عصره المسكون بمقاومة المحتل الأجنبي وحملات العصابات الصهيونية للاستيلاء على دولة فلسطين العربية بمساعدة الدول الغربية ودعمها ومباركتها. وأغلبها مسرحيات قصيرة ، ما بين فصل أو عدد من المشاهد القصيرة ؛ التي تجرى مجرى الكلمة الميدانية المقاومة .؛ مما يقرب تلك المسرحيات من أسلوب مسرحية ( الأوتشرك) التي ابتدعها الكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف قبيل الثورة البلشفية التي وقعت بعد رحيله . وهي لون من المسرح عبارة عن تقرير درامي أو منشور درامي ، يتعرض لمواقف أو أحداث يومية لافتة وذات أثر اجتماعي آني التأثير ، وهي أشبه بمقال يحمل وجهة نظر كاتبها في حدث آني أو قضية لافتة للنظر أو رأي ما ، غير أنها تتخذ من طريقة الكتابة الدرامية أسلوبا تعرض بوساطته. ولقد انتفعت السلطات السياسية الإعلامية في الاتحاد السوفيتي بذلك الأسلوب الدرامي في كتابة التقارير أو التحقيق الدرامي المناسب لمقاصدها ، الساعية وراء قياس الرأي العام في الشارع السوفيتي ، وهو هدف إعلامي يدخل في نطاق سياسات الرسمي - الإعلام السياسي –
وإذا قلنا إن مسرحيات باكثير السياسية المنشورة والمحققة ، وغير المنشورة أو غير المحققة لم تشكل اتجاها مسرحيا تسجيليا ؛ فإن ذلك يستوجب البحث عن على ذلك ؛ على الرغم من كثرتها العددية !!
وتلك هي إشكالية هذه الدراسة. وللوفوف على أسبابها ؛ يجب أولا إثبات ملامح الاتجاه التسجيلي ، وعناصره على مسرح باكثير السياسي ، على أساس أن المسرح التسجيلي هو في الأساس مسرح سياسي تحريضي . . فالتحريض هو عاموده الفقري نحو تكوين رأي عام حول قضية سياسية تشكل ظاهرة تاريخية ؛ بدءا من أسلوب عرض القضية ، ثمّ تفنيدها ، مع ضرورة توكيد العرض والتفنيد بشواهد ووثائق وأدلة وقرائن ثبوتية ، في إطار مسرحي – أي بشروط فن المسرح -. فأين من ذلك مسرحيات باكثير السياسية ؟ تلك هي الركيزة الأساسية التي ترتكز عليها إشكالية هذه الدراسة.. وذلك لا يخرج عن تحليل معطيات الذات المبدعة المفكرة والمتفاعلة مع محيطها المصري و اشتباكه مع المحيطين : العربي والعالمي في ظل التقلبات السياسية والاقتصادية والثقافية.

• المسرح بين الشرط الذاتي والشرط الموضوعي للإبداع:
لا شك أن التحريض عمل من أعمال الخروج على أوضاع قائمة ، مستقرة بالنسبة لفئات أو طبقات اجتماعية وسياسية محصنة بقوانين رادعة للغالبية التي ما وضعت تلك القوانين إلاّ لتقييد دورها وردعها عن مجرد التفكير في التمرد على الأوضاع المريحة لواضعي القوانين – النخبة الحاكمة وهرمها السياسي والاقتصادي – وهنا يكون التحريض عمل شرير بالنسبة لهم . ومن هنا يمكننا القول إن الدور الذي يلعبه المسرح السياسي القائم على التحريض هو فن شرير بالنسبة للأنظمة الحاكمة المستبدة ، وهو – في آن - عمل يسعى نحو خير الغالبية المستضعفة أو المقهورة تحت تسلط الأنظمة الفردية الدكتاتورية التي لا تقوم السلطة فيها على التداول ، أو تحت وطأة مستعمر محتل للبلاد ، أو تحت وطأة النظام الاستبدادي داخليا والقهر العسكري أو الاحتكاري الرأسمالي العالمي الخارجي معا .
فهل يمكن القول إن فن المسرح عند باكثير هو فن الشر ، الذي أراد به الحض على مقاومة الجماهير لشرور الأشرار الذين يرزح وطنه تحت وطأة احتلالهم لأراضيه والسيطرة على مقدراته وقدراته الاقتصادية وعلى أسواقه ، ويعمل جاهدا على بث عوامل الفرقة بين عناصره الداخلية والحيلولة دون تقاربه وتوحد دوله ؟!
إن هذا التساؤل الافتراضي يستلزم الإجابة ، ولكنه يستوجب قبل ذلك الوقوف عند هذا التعبير الذي يمكن أن ينعت به أحد المتزمتين فن المسرح بأنه فن الشر ، حيث يراه بعض المتزمتين المتشددين في موضع الشبهات ، بوصفه لونا من ألوان الانتحال . وهنا نصل إلة جوهر الإشكالية في هذه الدراسة ؛ حيث يقف باكثير وهو المفكر الإسلامي المستنير موقفا الاعتدال في توظيف فن الكتابة المسرحية في خدمة قضايا وطنه وقوميته ودينه في مواجهة شرور الأشرار في الداخل وفي الخارج ، في فترة تعد فترة الذروة في الكفاح الوطني والقومي المسلح ضد المحتل الإنجليزي العسكري وضد عصابات السطو الصهيوني المدعم عالميا بقوى الغرب وطاقاته السلطوية والمالية والإعلامية . هكذا كان موقف باكثير ، مفكرا إسلاميا ، وداعية من دعاته الذين وظفوا ما يجيدونه من أساليب وأدوات في خدمة الفكر الذي يعتنقونه ، وما يعتنقونه من فكر إسلامي يحض على تجنب الشبهات ، والمسرح – أبو الفنون – في عرف الأصولية المتشددة والمتزمتة موضع شبهة بوصفه فن التجسيد الصوتي والمرئي الذي ينتحل فيه الممثلون بالأصوات والحركات ذوات افتراضية ليست هي ذواتهم ، حتى وإن رأي فنان مسلم يؤمن بأهمية توظيف فنه لخدمة الدين ومعتقداته ؛ فهو يواجه برأي أو فتوى ترى ( أن ما يمكن تحقيقه بوسائل وأساليب لا شبهة فيها ، فلا حاجة لتحقيقها بوسائل وأدوات تكتنفها الشبهات.) فما البال بفن التمثيل!! وفيه ينتحل الممثل الصفات الخارجية والصفات الداخلية لشخصيات متخيلة استرشادا بمدرسة الأداء النفسي . والانتحال كما هو معلوم وجه من وجوه التزييف – بالقياس الأخلاقي – والتزييف نشاط من أنشطة الشر – أيضا –
ولكن الفنون حين تنتحل – أو بالمعنى الفني – تقتبس صفة شيء ، لتضفيها على شيء آخر بوساطة الاستعارة الفنية التي استفاضت في التنظير حولها نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني في مجال النقد العربي ، وعولت عليها نظرية المحاكاة الأرسطوية التي تستهدف تطهير النفس البشرية من عواطفها الضعيفة ؛ من أجل السمو بالنفس البشرية . وما من شك في أن السمو بالنفس البشرية لا يمكن اعتباره عملا شريرا؛ وفق أي قياس ، ولكنه عمل خيّر ؛ يشكل الهدف الأسمى للأديان كلها ، كما أن التطهير بالمسرح يقابله السمو عند الأديان ؛ وهما يتلاقيان في الهدف ، ويعتمد كل منهما على ركيزتين ، الدين هدفه السمو بالنفس البشرية ، والمسرح الجاد هدفه السمو بالنفس البشرية ، والدين يرتكز على ركيزتي الإيمان والخشوع لتخقيق حالة السمو ، فالإيمان هو تصديق كل معطيات الرسالة الدينية ، والخشوع هو انقطاع المؤمن عن كل ما حوله عند اتصاله بربه. كذلك يرتكز المسرح في تحقيق حالة السمو للنفس البشرية على ركيزتين
* أولهما: الإيهام : أي تصديق كل معطيات العرض المسرحي ، المنتحلة أو المستعارة .
* ثانيهما: الاندماج : أي الانقطاع عن كل ما حول الممثل عند اتصاله بالشخصية التي يجسدها أمام الجماهير، الذي يرى ويسمع ما يتلقاه على أنه حقيقي وليس زيفا – حقيقي افتراضا –
• باكثير والدفاع عن المسرح:
لفد أدرك باكثير المفكر المستنير ، والشاعر الرائد والمجدد في القصيدة وفي المسرح الشعري والنثري ، أن المسرح حين نشأ كان في خدمة الدين ، وأن التطهير بوصفه هدقا للمسرح اليم والمسرح الحديث والمعاصر الجاد ، يقابل السمو بوصفه هدفا للدين ، وأن كلا من الدين والمسرح قد ارتكزا على عنصرين أساسيين ، يشاكل كل منهما الآخر فالخشوع عند الصلاة يشاكله الاندماج في فن الممثل ، والإيهام في فن المسرح إرسالا واستقبالا يشاكل الإيمان بالنسبة للمؤمن – مع الفارق – لذلك لم ير في المسرح شرا ، ولا بأسا ، لم يره وباء يجتاح القيم التي عمل الدين على ترسيخها . لقد نظر إلى المسرح بوصفه الفن الذي غزى المشاعر بلا مقاومة ، وتربع على عرش حضارات الأمم القديمة وثقافات الأمم الحديثة دون انتخاب ، وبذلك أحدث في تلك الأمم أحداثا ، قلما تنسى ؛ إذ صوّر قيمها ، بحيث ينظر إليها نظرة تقدير ؛ لما هو جدير بالبقاء ، لحضها –موضوعيا – على الفضيلة والطهر والعفاف والشرف والمروءة والمعروف ، وتوخي الصدق والحق والعدل ، ولحثها على استئصال قيم متدنية ، غلفت بالرذيلة ، مع بثه للقيم الذوقية والجمالية – تلك الني ترشد المتلقي إلى السلوك الموضوعي القويم ، وتؤكده في نفسه . كما ترسخ الحس السليم الداعي إلى إنسانية الإنسان.
لقد أدرك باكثير الداعية الفنان ، أو الفنان الداعية أنه إذا كانت سوءة كل وباء هي القضاء على الأخضر واليابس ، فإن المسرح وقد استند إلى الفكر وإلى المشاعر ، ليعيد تصوير شريحة من الحياة التي يعيشها البشر في زمان ومكان ؛ محملة بما يعتمل في فكره المسرحي المبدع وفي وجدانه؛ ليعرضها على أؤلئك البشر أنفسهم ؛ فإنه يجتاح الفكر الضعيف والسطحي والقيم الزائفة والمتدنية ، والإرادة المرتعشة التي لا تثق في قوتها وفي قدرتها على الصمود في وجه كل ما يهدف إلى اجتياحها.

المسرح التسجيلي بين باكثير وفايس
• المسرح التسجيلي ، كما يقول بيتر فايس نفسه : " المسرح التسجيلي ، مسرح تقريري ، فالسجلات والمحاضر والرسائل والبيانات الإحصائية ونشرات البورصات والتقارير السنوية للبنوك والشركات الصناعية والبيانات الحكومية الرسمية ، والخطب والمقابلات والتصريحات التي تدلي بها الشخصيات المعروفة والريبورتاجات الصحفية والإذاعية والصور والأفلام والشواهد الأخرى للعصر الحاضر ، هي التي تكون أساس العرض . فالمسرح التسجيلي يستوعب كل اكتشاف . كل مادة موثوقة ، ثم تعكسها مرة ثانية على المسرح ، بعد التعديلات في الشكل، دون تغيير في المحتوى،" فإذا وقفنا عند مسرحيات باكثير السياسية المنشورة والمحقق منها سنجدها تقوم على الكثير من العناصر التي ذكرها بيتر فايس في توصيفه للمسرح التسجيلي . وإذا قيل إن مصطلح المسرح التسجيلي لم يكن قد تبلور وتم تداوله في مجال الفنون المسرحية أو السينمائية عندما كتب باكثير نصوصه السياسية في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، مواكبة للأحداث الجسام التي كانت تجري على أراضي الدولة العربية الفلسطينية ، فذلك مردود عليه ، بأن عدم اهتزاز فروع الأشجار لا يعني أن الرياح غير موجودة ، فلقد عرفت الكتابة المسرحية العربية كيف توظف اللغة الفصحى مع اللهجة العامية مع بداية المسرح العربي الحديث 1847 على يد مارون النقاش وعرفتها على يد العراقي ناعوم السحار في مسرحيته ( لطيف وخوشابا) حيث تتحدث بنت الطبقة العليا ( خوشابا) باللغة الفصحى ويتحدث حبيبها (لطيف) باللهجة العامية العراقية في مطلع القرن العشرين 1910 وكذلك كتب فرح أنطون ( مصر القديمة .. مصر الجديدة) بمستوى لغوي فصيح وبمستوى لهجوية مصرية. وكان ذلك كله سابقا على ما طرحه توفيق الحكيم ثم طبقه في كتاباته المسرحية ، تحت ما أطلق عليه ( اللغة الثالثة) التي لا هي فصحى ولا هي عامية. غفير أنه يحسب لتوفيق الحكيم أن حول تلك الممارسة إلى تنظيرة بني على أساسها أسلوبه في كتابة الحوار المسرحي الخالي من الروابط إذا اعتبر الحروف زوائد يمكنه الاستغناء عنها تقريبا للأرداء التمثيلي والتلقي الأكثر جماهيرية وتفاعالا اتصاليا أسرع في الفهم والتأثير.
ونخلص مما تقدم إلى أن القدرة على الاختيار المدقق للمادة ، ثم القدرة على تشكيلها في أسلوب يقوم على توليف جزئيات تلك المواد المعلوماتية والإخبارية ، مع التقارير والريبورتاجات والصور والإحصائيات والأحاديث المنسوبة لأشخاص لهم حيثية سياسية أو اجتماعية ، بقصد تكوين رأي عام ، محرض على تغيير خلل سياسي ما ؛ هو ما يحدد إذا ما كانت الدراما تسجيلية أم هي غير ذلك. ومعنى ذلك أن المسرح التسجيلي يشكل جزئية من مكونات الحياة العامة ، تعكس بشكل ما وجهة نظر الجماهير العريضة " وذلك " عن طريق ممارسة النقد على مستويات مختلفة ضد التمويه والتزييف والأكاذيب .

• حول تأصيل التوجه التسجيلي في المسرح المصري:
تبعا لما تقدم فإن المسرح في عرف باكثير ، يستهدف تربية الحس السليم ، والذوق الرفيع ، وتربية السلوك ، وتطهير النفوس ، وتغيير العادات والمسلمات السطحية ، ويحض على التمسك بقيم المواطنة على طريق التحرر والعدالة والتمدن . وحض على مقاومة الدخيل المستعمر ، والحض على رفض الاستغلال وفي المقاومة تكون الصلابة ، والحرص على التجدد والتجديد ولقد كان باكثير أحد ريادات المسرح الشعري العربي الحديث والمسرح السياسي التسجيلي، إذ عالج بمسرحياته السياسية مواقف وحوادث سياسية في وقت حدوثها ، معالجة حض على مواجهة جماهيرية ، لعواقبها وآثارها ، ، أو استباقا مقاوما لها قبل وقوعها بما يلحق الضرر بالبلاد ، وهنا لم يكن أمامه سوى الوثائق والظاهرة ، وإعادة توظيف ما يلائم الموقف المعروض من المخزون التراثي القومي ، بعد تفريغه من مضمونه القديم وإحلال مضمون حدثي يناسب الموقف المعاصر ، بحيث يضع المجتمع أمام مسؤولياته ، دعوة لمشاركة واعية
قد يبدو غريبا أنه، حتى يعد ظهور المسرح التسجيلي في أوروبا اتجاها فنيا إلى جانب الاتجاهات والمدارس الأدبية والفنية ، وعرفناه في مصر وبعض البلاد العربية ؛ فإن من تناولوا مسرح باكثير السياسي في أطروحات علمية وأبحاث ، لم يتعرضوا أو يشيروا مجرد الإشارة إلى الخاصية التسجيلية ودورها التحريضي في مسرحه . والغريب أيضا أن ينسب مسرحه السياسي إلى المسرح الملحمي ونظريته في التغريب. ليس هذا فحسب ، بل لم تعن بالإشارة – مجرد الإشارة – إلى إلي مفهوم المسرح السياسي ، وإنما جملة ما أشير إليه في هذا الصدد ، هو نسبة أعماله المسرحية السياسية إلي الوعي الوطني في عمومه – مع أن الوطنية هي هدف من أهداف السياسة ، كما أن التبعية قد تصبح في نظر البعض هدفا من أهداف العمل السياسي ، في ظل نظام سياسي ضعيف ، وما السياسة في ذلتها سوى منهج عمل يرتكن على نظرية ما في الحكم ، وله أساليبه المختلفة.
على أن غياب تأصيل مفهوم المسرح السياسي في الدراسات الأكاديمية لمسرح باكثير السياسي ، وغيبة اكتشافها لريادة باكثير للمسرحية التسجيلية ؛ وسبقه لارتياد ذلك الشكل قبل بيتر فايس (1916- ) الشاعر والروائي والتشكيلي والسينمائي والمخرج والكاتب المسرحي – الهارب من النازية – بنحو عشرين عاما ؛ هو ما يحاول هذا البحث أن يصححه ؛ إنصافا لريادة الرجل وجهوده الخلاقة في مجال الآداب والفنون ، الفاعلة على أرضية واقعنا السياسي المعيش – في فترة كتابه لها –
من الحق أن نقول إن هناك وجوها كثيرة للاتفاق بين باكثير وفايس ، في نظرة كل منهما للواقع الإنساني في ظل القهر التاريخي والقهر الاجتماعي . ومن أمثلة ذلك ، تناول كل منهما لفكرة (الخلاص) بمفهومها السياسي ، وليس بمفهومها الديني . ففي مسرحية باكثير السياسية ( مسمار جحا) وهي استلهام من التراث الشعبي العربي ، وفي مسرحية فايس ( أنشودة غول لوزيتانيا) * فلقد صور باكثير الشعب العربي المصري في محاولته للخلاص من الاستغلال الداخلى والخارجي ، في حين صّور ( فايس) شعب أنجولا " في محاولته للخلاص من الاستغلال الخارجي المتمثل في الاستعمار البرتغالي ، الذي استمر لمدة خمسمئة عام . كان كل منهما يتكئ على ظاهر تين تاريخيتين ، هما: ظاهرة الاستغلال وظاهرة الكفاح للخلاص منها. فالاستغلال : وهو فعل عنيف تأسس على الجبر الاجتماعي أو القهر الاجتماعي الواقع من طرف قوي على طرف ضعيف دون حق له في ذلك ؛ سواء وقع القهر عن طريق السلطان الأجنبي أو السلطان الوطني الداخلي ، هو ظاهرة تاريخية ارتبطت بتاريخ الوجود الكوني في عالم الكائنات كله وليس في عالم الإنسان فحسب – وإن كان الوعي بوجوده قد ارتبط بالفكر السياسي في حين كان الإحساس بالاستغلال ظاهرة تاريخية ارتبطت بالنشاط الاجتماعي وحتمية أسلوب تقسيم العمل في المجتمعات البدائية وما تلاها من مجتمعات عبودية وإقطاعية ورأسمالية فردية أو رأسمالية دولة تدعي أنظمتها بأنها اشتراكية. أما ظاهرة الخلاص : فهي ظاهرة تاريخية أيضا ارتبطت بالكائن الحي المستضعف ، ومحاولاته المستميتة والمتباينة والمتكررة في سبيل كسر طوق الجبر ونير القهر الاجتماعي المطبق على عنقه . وهي محاولات متدرجة ومتصاعدة ، وتجريبية ، بمعنى أنها لا تنجح دون تخطيط وتنظيم وتنظير وتوحيد قوى المواجهة الوطنية ، واختبار للقدرة على المواجهة ، قبل أن يأتي دور المواجهة في معركة فاصلة ، بعد تجارب مرحلية ممهدة ، على طريقة حلقات الهجوم ضد نظام السيطرة الاستغلالية القاهرة ، وهي محاولات تمهيدية لاكتشاف مراحل الضعف فيها.
ومع أن كلا الظاهرتين ( الاستغلال والخلاص منه )، ظاهرتان تاريخيتان ؛ إلاّ أنهما ظاهرتان اجتماعيتان – أيضا- فإذا كان المسرح التسجيلي قد عنى بالظاهرة التاريخية والكشف عنه وفضح الفاعلين فيها ، في سبيل تمليك الوعي للجماهير ، لتقف في وجه الاستغلال ، والخلاص من كل صوره وأشكاله ، إحسانا للحياة المشتركة للإنسان ؛ وكان المسرح الملحمي قد عني بالظاهرة الاجتماعية ، والكشف عن أسبابها والفاعلين فيها ؛ في سبيل تمليك الوعي للطبقة العاملة ؛ لتتسلح ضد استغلال الرأسمالية العاتية ، إحسانا للحياة الإنسانية غير الطبقية ،فقد ارتكز كلا المسرحين ( التسجيلي والملحمي) في الوصول إلى تحقيق ذلك بأسلوب فن المسرح وشروطه الفنية الخاصة .؛ فإن ذلك التوحد في توجه كلا المسرحين ؛ قد أملى على الدراسات الأكاديمية – التي لاحظتها- لمسرح باكثير السياسي الأخذ بالنتيجة الجاهزة ارتكانا إلى المفهوم السائد الذي ينسب النص المسرحي الذي يعالج قضية سياسية إلى الملحمية ، دون درس تحليلي للعناصر الدرامية وللعناصر الفنية ، باعتباره الأساس الذي يحقق التأصيل العلمي في مجال الفن بعامة والفن المسرحي ، وهذا ما لم يحدث بالنسبة للدراسات التي تعرضت لنصوص باكثير المسرحية السياسية. باعتبارها الأصل الذي يجري القياس عليه ( مادة البحث) . ولما كان باكثير قد عرض في نص ( مسمار جحا) لظاهرة اجتماعية وتاريخية في آن ، وهي ظاهرة الاستغلال وواجهها بظاهرة اجتماعية /تاريخية أيضا ، هي ظاهرة الخلاص ، مستخدما أساليب التغريب ، أو متأثرا بها ، حيث وظف الحدوتة التراثية القديمة المستلهمة من حكاية من حكايات (جحا) ، بعد أن فرغها من مضمونها القديم وملأها بمضمون حيث يقوم على الترميز ، حيث جعل جحا معادلا رمزيا للاستعمار الإنجليزي الدخيل الذي سمح له تحت ظروف قهرية أن يدق مسماره في حائط ليس مملوكا له – هو المعادل الرمزي لمصر - ثم اتخذ من ذلك المسمار حجة للبقاء ، ( الاحتلال) محتجا بأنه يقبع تحت المكان الذي دق فيه مسماره. هكذا صور باكثير في مسرحيته تلك بالترميز موقف المستغل في مواجهة مقاومة شعب بأكمله حضا للشعب على مقاومة ذلك المستعمر ، وكذلك الأمر عند فايس في ( أنشودة غول أنجولا) حيث يقاوم شعب أنجولا الأسود الاستعمار البرتغالي الممتد لمئات الأعوام .يقول بيتر فايس " المسرح التسجيلي ، يقف ضد كل الفئات التي يهمها غلق ذلك الجو السياسي المضبب والمظلم والمزيف ، الذي يقف ضد ميول أغلبية الجماهير ، واضعا الشعب في وسط من التخدير ، يجد ذلك المسرح نفسه في موقف مشابه لموقف المواطن الذي يود أن يستطلع الأشياء بنفسه ، فيكتشف أن يده مغلولة ومقيدة ، ويضطر في النهاية إلى اتباع الوسيلة الوحيدة الممكنة : وسيلة الاحتجاج العلني ، كالتجمع المؤقت في الخارج ، باللافتات والتسجيلات مع مجاميع أخرى!
إن المسرح التسجيلي يعكس رد الفعل تجاه الأوضاع الحاضرة، مطالبا بتوضيحها"
ومع أن كل من بريخت وفايس قد استهدفا بمسرحهما قضية الصراع الطبقي ، من منظور إجتماعي سياسي ،أو من منظور اجتماعي له جذور تاريخية عميقة ، وصولا إلى الخلاص من المجتمعات الطبقية ؛ إلا أن باكثير ، أراد بمسرحه الخلاص من فكرة الاستغلال والقهر الخارجي ، الذي يجد عونا من مستغل داخلى. ومع أن فكرة الخلاص في المسرحين الملحمي والتسجيلي ، لا تتحقق إلا بتملك الطبقات الدنيا المقهورة ( الطبقة العاملة وحلفاؤها) بالوعي الطبقي ؛ فإن باكثير يهدف في مسرحه السياسي إلى تملك المقهورين في عمومهم دون تمييز طبقي بينهم إلى تملك الوعي القومي الوطني . فالخلاص عند الملحمية والتسجيلية ، خلاص من المجتمع الطبقي بأن تصبح طل الطبقات طبقة عاملة ( منتجة لما سيوزع على الجميع دون تفريق بين أحد وآخر بالعدل ، بحيث يأخذ كل واحد من أفراد المجتمع على قدر حاجته) وبذلك يتضح شكل الخلاص عند مسرحيهما بالعمل الجماعي الطبقي الواعي المنظم ، بينما يتضح شكل الخلاص في مسرح باكثير، على يد المخلص الفردي، كما في مسرحيات ( مسمار جحا – الفلاح الفصيح ، الدودة والثعبان ، مأساة زينب ، أحلام نابليون ، دار ابن لقمان )
• صورة المخلّص بين الغيبية والغياب في مسرح باكثير:
يفرض النسق الثقافي العام في كل مجتمع من المجتمعات نفسه على رؤية ذلك المجتمع في التصدي للمشكلات المصيرية التي تواجهه ، ويعمل خلصاؤه الوطنيون على الخلاص منها. ولأن ثقافة الشاعر الأديب الروائي المسرحي علي حمد باكثير ثقافة دينية إسلامية ؛ تؤمن بفكرة ( الكل في واحد) استنادا إلى الحديث النبوي : " إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" لذلك فإن الحلول في مسرحه ، هي منوطة إما بالاتكال على الغيب ، وإما أن تكون منوطة بالزعامة أو بالبطولة الفردية ، وهذا ما نجده في نهايات الأحداث في نصوصه المسرحية التي تركز على معالجات بعض القضايا السياسية ، سواء فيما يختص بعلاقة الحاكم المستبد العادل بالشعب ،أو فيما يختص بعلاقة الشعب بالمحتل الأجنبي و طرق مقاومته . وللفصل في ذلك نقف عند كل تصنيف من التصنيفين المشار إليهما حول صورة المخلص ، في مسرحه .
• صورة المخلص الغيبي :
تتجلى صورة المخلص الغيبي في آخر ما نطقت به شخصية ( زينب) في مسرحية ( مأساة زينب) هذا الدعاء:
"زينب: يارب أتقذ الكنانة وادفع بلاءها وارفع لواءها وأصلح رجالها وارحم نساءها، واجعل لها جيشا من بنيها يعزها ويحميها. يارب أنت العليم وأنت الخبير. وأنت المولى وأنت النصير."
أما صورة المقاومة ، وبخاصة ، والشخصية موقنة بالهلاك ، فهي صورة رومنسية ومثالها يتكرر في هذه المسرحية نفسها ، وفي مسرحية (أحلام نابليون) ، ومع شخصية واحدة ، هي بعينها زينب :
" ( يقترب الضابط من زينب ويسر إليها كلاما)
زينب: ( تفاجئه بلطمة على خده) خذ هذه لك
الضابط: (محتجا) أيتها ال..
زينب: ( تعاجله بلطمة على الخد الآخر) وهذه لهتشنسون
( يلمس كل من الطنبورجي ونصوح خده كأنه يتحسس أثر اللطمة فيه)
الضابط: ( يصيح) عبد العال أغا .. خذها وأقطع رقبتها. ( يسوقها عبد العال أغا وزبانيته نحو داخل البيت)

* صورة المخلص الغائب المنتظر:
وتتمثل صورة المخلص الغائب المنتظر ، في عدد من مسرحيات باكثير التي تعالج قضايا سياسية، كما هو واضح في نص( أحلام نابليون):
" محي الدين: ألا تحبينني يازينب؟
زينب: أنت تعلم أني أحبك يامحي الدين وأقدرك ، ولكنني لا أستطيع أن أتزوجك.
محي الجين : فيم يازينب ؟
زينب : أنت لا تستطيع أن تجعلني سلطانة . هل تستطيع ؟
محي الدين: لا.
زينب: ولا أن تعيد وحدة الأمة العربية التي مزقها الصليبيون والتتار والأتراك والمماليك . هل تستطيع ؟
محي الدين : لا .
زينب: ولا أن تجعل القاهرة عاصمة الدولة العربية الكبرى التي يدين لها كل بلاد الشرق . هل تستطيع ؟
محي الدين: لا.
زينب: فكيف تريد ان تتزوجني يامحي الدين ؟
محي الدين: السعادة يازينب لا تتوقف على هذه المطالب.
زينب: لكن الحياة تتوقف عليها يامحي الدين ، ولا سعادة بغير حياة.
محي الدين: هذه أوهام يازينب.
زينب: كلا ليست بأوهام.
محي الدين: لن تتحقق أبدا.
زينب: بل هي آتية لا ريب .
( يستمع الجميع إلى هذا الحوار بينهما مدهوشين متعجبين)
محي الدين: قد ذهب من منّاك بها وتخلى عنها وعنك.
زينب: إن تخلى عنها فهو غريب . ولكني أنا منها وهي مني فلن أتخلى عنها أبدا. سأظل أنتظر وأنتظر وأنتظر.
محي الدين: إلى متى يازينب؟
زينب : كالحالمة ) إلى أن يجيء الفارس البطل على فرسه الأدهم ويومئ بإصبعه فإذا الأمة العربية يجمعها علم واحد . وإذا القاهرة عاصمتها المزدانة وإذا أنا على عرشها سلطانة.. " (ستار الختام)
يعمد باكثير ، إلى توظيف الشخصية القناع التي ، يلجأ إليها كتاب المسرحيات السياسية ؛ متقنعين خلفها محملينها بآرائهم الوطنية الحماسية، فهاهو يضبط متلبسا بالتخفي وراء (زينب) متخذها قناعا تحمل عنه آراءه . وكثيرا ما يكون القناع في المسرحيات المحملة بالقضايا السياسية قناعا شفافا يظهر وجه المؤلف، بخاصة عندما يحمّل شخصيته القناع بكلمات حماسية ونبر عال ناقل لآراء رومنسية، على نحو ما رأينا في شخصية ( زينب) التي لا أدري إن كان يقصد بها زينب الرشيدية التي تزوجها الجنرال مينو فيما بعد أم هي محض صورة مختلقة ، أرادها رمزا لفكرة القومية العربية ، بخاصة وأن نبر الخطاب القومي والزعامة المصرية للأمة العربية التي يتطلع القوميون العرب لإحيائها كان نبرا زاعقا عبر ميكروفونات الناصرية في الستينيات من القرن العشرين. وباكثير ينتمي للفكر الإسلامي العربي القومي.
ونلاحظ فكرة المخلص الغائب المنتظر أيضا في صيحة ما قبل الموت الذي سيطيح برأس ( الجوسقي) في مسرحية (الدودة والثعبان)، بعد أن طلب مصافحة يد نابليون ، ، فلما مد نابليون يده ليصافحه ( يلطمه الجوسقي بيده اليسرى لطمة قوية رنّت في القاعة . مفاجأة أذهلت الجميع) فيأمر نابليون به ليقتل ، ومعه رفيقه ( مصسلحي) ، فإذا بالجوسقي يصيح:
" الجوسقي: تذكّر تأويل الرؤيا . نحن أثرنا الثعبان حتى التهم الدودة. وغدا سنطرد الثعبان) (ستار الختام)
والأمر نفسه نجده في ختام أحداث مسرحيته ( دار ابن لقمان) على لسان شجر الدر: تقوم من أريكتها فتنظر في المقتعد حتى تجذب واحدا منها فتضعه حيث كان فخر الدين جالسا عليه ليلة قابلته آخر مرة ، فتسويه في رقة وحنان ، وتتنهد وهي تتمتم) آه لو عاش إلى اليوم ذلك البطل العظيم ! واها عليك يافخر الدين ! كلما جادت الأيام علينا بنصر ذكرناك فاثارت شجوننا ذكراك.
( تغيم عيناها بالدمع وترفع بصرها إلى السماء) ياإلهي ما ضر لو عاش حتى يرى ثمرةجهاده في نصرة دينك وإعلاء كلمتك ، إذن ياربي لجلس مكاني على هذا الكرسي رجل عربي قوي أمين ، يوحد كلمة العرب والمسلمين ، ويصون بلادهم من طمع الطامعين ، ويحيي ما أمات الحكام من نظام الإسلام ، وينشر العدل والطمأنينة والسلام."_ستار الختام)
وهنا يتقنع على أحمد باكثير أيضا هذه المرة خلف شحصية" شجر الدر" ويحملها بآرائه وطموحاته في أمة عربية قوية مرة ثانية تحت قيادة بطل زعيم مستبد عادل ( من المؤسسة العسكرية) ونلاحظ في ذلك ربما مغازلة للزعامة العسكرية القائمة على راس البلاد في الستينيات ، تلك الزعامة الفردية العسكرتارية الواقفة على رؤوس شعوبنا حتى الآن دون قدرة على تجميع الشتات العربي ، بل العمل النشط في تمزيق قها)
زالأمر نفسه نراه في مسرحيته( قصر الهودج) ، فهاهي سلمى تمجد الزعامة الفردية ( في شخص الخليفة : المستبد العادل) :
" سلمى: شكرا لزين الخلفا
أكرمني وأنصفا
فلأجزه من الوفا
ومن ثنائي ما يجب
الفتيات: العيش .. يحلو حيثما يحب ( تمشي سلمى زويدا وخلفها الفتيات)
سلمى: الله يبقي عهده
عهد السلام المستتب
والله يعلي مجده
على النجوم و الشهب
آمين. يارباه آمين استجيب
الفتيات: " " " " " " "
سلمى: أدم به فخارنا
واحم به ذمارنا
واحفظ به ديارنا
من كل عاد مغتصب
الفتيات: آمين.. يارباه آمين استجب!
( يتوارى الجميع عن الأبصار)
صوت سلمى: مليكنا إمامنا
صوت الفتيات: مليكنا إمامنا
صوت سلمى: في كفه زمامنا
صوت الفتيات: في كفه زمامنا
صوت سلمى: فاقت به أيامنا كل العصور والحقب " ( ستار الختام)
ومثلها الفلاح افصيح ، التي يغير مصر الحكم فيها موقف فلاح بسيط ، لا يملك سوي صوتا شجاعا. ومثل ذلك أيضا -مسرحية شهرزاد ، التي تنقذ فيها شهرزاد جنس بنات جنسها ، وتغير مصر الحكم الذكوري. هكذا وقف مسرح باكثير المعني فيه بمعالجات القضايا السياسية عند فكرة المخلص - المستبد العادل - الغائب المنتظر . بينما نرى فكرة الخلاص في مسرحه السياسي معقودة على التغيير المأمول على يد الوعي الجماعي المنظم ، الذي يواكب حركة الكفاح المسلح ضد العصابات الصهيونية في الأربعينيات ، ومواكب لنضال الفدائيين المصريين البواسل في منطقة القنال ضد جيش الاحتلال البريطاني ، قبل حركة يوليو 52. وفي النضال السياسي جنبا إلى جنب مع النضال المسلح . وهكذا كتب باكثير مسرحية المعالجات السياسية ، ونصب فيها الزعامة الفردية للغائب المنتظر الذي بيده خلاص الأمة العربية وتوحيدها وتأمينها وسلامة أهلها ، بما يتوافق مع ثقافة البعد الواحدي المحرك للتاريخ ، وهو ما يشكل تراجعا عن صورة الخلاص في مسرحه السياسي ذي الوجهة التسجيلية.

• المسرح التسجيلي والتحقيق الدرامي:
يلجأ المسرح التسجيلي إلى أسلوب التحقيق الدرامي في بنائه وصياغة الحوار ، ويعد هذا الأسلوب أهم عناصر بنائه الرئيسية ، إلى جانب السعي نحو تكوين رأي عام حول قضية سياسية ، مشتبكة مع الواقع ( آنية ) اعتمادا معلومات ومواد إخبارية تتراكم يوميا ، من جميع الاتجاهات ، تلك التي تطرح بشكل غير منظم – حسبما يقول بيتر فايس نفسه - وما يترتب على ذلك من استخدام أسلوب عرض القضية ، ووضع أطراف الصراع في وضع المواجهة ، ليفند كل طرف من أطرافها أسبابه ودوافعه في دحض وجهة نظر معارضه ، من أجل إثباتها وإقناع الجمهور بعدالة ما يطرح ، وبصحة مواقفه المبدئية التي يعبر عنها بأسلوب التحقيق الدرامي ( الأوتشرك) حيث اللجوء إلى ممارسة النقد ضد التمويه لاكتشاف حقيقة ما تعرضه وسائل الإعلام أو تموه به وتدلس على الجماهير لصالح الفئة المنتفعة ، ووجه الاستفادة من تلك المغالطات والتفسيرات الخاطئة للظاهرة الاجتماعية . كذلك ، يحرض المسرح التسجيلي جمهوره ضد تزييف الحقائق ، ويتساءل : لماذا تحذف شخصية تاريخية أو مرحلة تاريخية من الوعي العام ، ومن يربح من ذلك التشويه المتعمد للمراحل الجادة والمهمة وأي شرعية اجتماعية يهمها إخفاء الماضي ؟ وما هي الكيفيية التي يمارس بها ذلك التزييف ؟ وما هو رد الفعل ؟؟ ويحرض المسرح السياسي أيضا – حسبما يرى بيتر فايس – حضا لممارسة النقد ضد الأكاذيب ، للكشف عن آثار الخيانة التاريخية والحاضر الذي بنيت عليه تلك الأكاذيب ، ومن وراء إخفاء الحقيقة وبث الأكاذيب بديلا عنه.
إن من يقرأ نصوص باكثير سيظفر بذلك كله في مسرحه السياسي وبخاصة في نصوصه المسرحية القصيرة ومنها تلك النصوص الثلاثة التي كتبها عن تلهف بعض السياسيين في السودان أيام الاحتلال البريطاني لمصر والسودان ومحاولات حاكمهم العسكري عليها باصطناع عوامل الفرقة بين شعبي وادي النيل ، حيث كانت مصر والسودان أقرب ما تكون إلى الدولة الواحدة ، والشعب الواحد ، حيث كتب باكثير ثلاث مسرحيات بأسلوب الريبورتاج : التحقيق الدرامي ) حول محاولة الحاكم البريطاني على السودان تنصيب ملك من ذيول التبعية له ملكا على السودان ، دون أن ينجح في تحقيق ذلك الأمر على أرض الواقع ، لوقفة الشعب السوداني المؤمن بوحدة شعبي مصر والسودان في دولة واحدة ، وتلك المسرحيات هي: ( ملك السودان) ، ( مسرحية ( بالرفاء والبنين) ومسرحية: (الحاجز المستحيل ) والأمر نفسه فعله في تسجيل موقف تعليمي مما يجرى من تغلغل أفراد من خلية صهيونية من بين اليهود المنتمين للحركة الصهيونية في مصر ، كشفا لدورهم في التجسس لحساب العصابات الصهيونية التي تعمل بكل طاقاتها تحت ظل الحماية أو الانتداب البريطاني على فلسطين على الاستيلاء على دولة فلسطين وتشريد أهلها بالإرهاب والتصفيات الجسدية وهدم القري وإحراق البيوت بسكانه. كما في نص ( من خلف المعركة) الذي يسجل واقعة حقيقية ، سجلها دوار الأمن والتحقيق الجنائي في مصر في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات ، حيث نشطت الخلية الصهيونية والعملاء في أعمال التخريب والتدمير التي شهدتها القاهرة ، من إحراق بعض المحلات المملوكة لليهود لإرغامهم على الرحيل إلى فلسطين المغتصبة ، ليكونوا نواة لشعب دولتهم التي اعترفت بها الأمم المتحدة وفق قرار تقسيم فلسطين بين الفلسطينيين وعصابات الصهاينة ، ذلك القرار الذي رفضته الدول العربية حينذاك ، ورفضه الفلسطينيون أنفسهم. كذلك كتب باكثير نصوصا درامية تكشف عن ألاعيب زعماء إنجلترا التي لم تنطل على الساسة المصريين المحنكين ، كما لم تنطل على شعب مصر ، ومنها مسرحية بعنوان: ( مسرحية لم تنجح) وهي عبارة عن لقاء ثنائي بين السير ونستون تشرشل، والمستر إتلى رئيس حزب العمال البريطاني في عام 1953 ، وهو عبارة عن مناقشة بين سياسي مخضرم ، مع رئيس حزب العمال البريطاني تنقصه خبرة السياسي العجوز ، وتدور الحوارية النقاشية حول مشكلة حقيقية أيضا ، عجز رئيس الوزراء عن حلها؛ حيث حادثة اختفاء طيار بريطاني ، وادعاء حكومة تشرشل بأن مصر هي التي اختطفته!! بينما يكتشف البوليس أنه يغوص في الملذات بالحي اللاتيني في باريس !! بعد أن وجهت الحكومة البريطانية إنذارا لمصر في بدايات حكم ثورة يوليو 1952 . وكانت تلك خطة تشرشل للعودة إلى احتلال القاهرة والإسكندرية بعد أن اقتصر وجود قواته في منطقة القنال. هكذا تفضح هذه المسرحية ألاعيب المستعمر وبذل كل جهوده ووسائله الرخيصة لتحقيق غايته ، حتى وإن دنس شرفه بتكليف فلذة كبده بعمل مخل بالشرف.
وإذا كان مثل ذلك اللون من الكتابة الدرامية التحريضية ، والتي ترفع الغطاء عن عورة زعيم ساسة الإمبراطورية العجوز ، قد مارستها كتابات بيتر فايس في مسرحه التسجيلي ؛ فإن الهدف التحريضي نفسه بالشكل المسرحي نفسه بكل عناصره ؛ قد تحقق في عشرات النصوص المسرحية في مسرح باكثير السياسي، قبل أن يلتحق بيتر فايس بالمسرح وفنونه ، كاتبا ، ليس هذا فحسب؛ بل قبل أن يعمل بالإخراج السينمائي بما يزيد عن عشرين عاما.- كتب فايس للمسرح مسرحيته الشهيرة ( اضطهاد واغتيال جان بول مار، كما قدمته فرقة تمثيل مصحة شارنتون تحت إشراف السيد دي صاد ) وهي التي ترجمت في لغتنا العربية تحت عنوان( مارا- صاد) عام 1964 ، بينما كتب باكثير المسرحية السياسية مع بداية الهجمة الصهيونية على فلسطين ، وفي أثناء احتلال الجيوش البريطانية لمصر والسودان ولفلسطين والأردن في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي. نعم ، لقد كتب على أحمد باكثير المسرحية السياسية التسجيلية بكل عناصرها التحريضية مستخدما أسلوب التحقيق الدرامي – أسلوب عرض القضية والمواجهة بين أطراف الصراع - تفنيد كل طرف لما عرضه الطرف الآخر ، بحججه أمام جمهور واع يقف موقفا الحكم على ما يعرض عليه من الطرفين ؛ وصولا إلى تكوين رأي عام حول القضية المطروحة ؛ ومن ثمّ تصبح القضية التي عرضها وفند دفوع الخصم حولها ؛ قضية جمهور العرض المسرحي نفسه، تتحول القضية إذن من إطارها الفردي في ظاهره إلى إطار تاريخي ، يكون فيه طرفي الصراع بمثابة نموذج من نماذج الصراع البشري حول ظاهرة تتكرر منذ نشأة المجتمعات البشرية إلى الآن. والكاتب بتحقيق ذلك يكون قد نجح في تحريض جمهور عرضه المسرحي . المسرح التسجيلي لا يعمد إلى تقديم طريقة تفكير للآخرين ؛ وإنما يكتفي بعرض الظاهرة التاريخية ، ويترك للآخرين طريقته في التفكير حول مغزاها ، واتخاذ الموقف المؤيد لها وفي ذلك يستند فايس إلى فقرة من مقولة المركيز دي صاد ، في خطاب أرسله من سجنه إلى زوجته حيث يقول : " مجنون من يحاول تقديم طريقة تفكير للآخرين"
والمسرحيات التسجيلية عند باكثير ؛ شأنها شأن المسرح التسجيلي عند بيتر فايس ، لا يحاول تقديم طريقة تفكير للآخرين ، وإنما يعرض الواقعة كما هي بوثائقها أو بموثوقيتها، التي تسجل أسماء الأشخاص التاريخية المتصلة بالواقعة أو المتورطة فيها مقترنة بما حدث منهم وما حدث عليهم
ومثال ذلك نصوصه المسرحية القصيرة الثلاث عن السودان في عهد الاحتلال البريطاني لمصر والسودان في الأربعينيات ففي مسرحية ( ملك السودان) يتعرض لواقعة حقيقية ، حول محاولة الحاكم العام البريطاني على السودان في 1946 لتنصيب أحد العملاء السودانيين ملكا على السودان ، وإعداد العدة لاحتفال أراده البريطانيون احتفالا جماهيريا ، فحشدو مجموعة من الزنوج ألبسوهم ملابس أفرنجية ، وحملوهم بالأعلام ولقنوهم بعض الهتافات بحياة الملك المزمع تنصيبهم ، واطمأنوا لما هيئوا له ، فإذا بلحظة التنفيذ ، إذ ينقلب السحر على الساحر ؛ فما أن ظهر الملك المتهيئ للتنصيب إلاّ ويفاجأ الجميع بتحول الاحتفال إلى مهزلة ، وفضيحة تاريخية لهم ؛ عندما أخذ الزنوج يخلعون سراويلهم ويرقصون وجذوعه عارية ، في وجوه الحاكم البريطاني العام والملك الأضحوكة الذي أراد البريطانيون اصطناعه ملكا على شعب السودان:
" الحاكم العام: هل نفذتم التعليمات كلها ؟
أبو الخلول: بحذافيرها يا صاحب السعادة . كل شئ على ما يرام.
الحاكم العام: وتدريب الجنود هل تم على ما ينبغي؟
أبو الخلول: آه يا سيدي لو رأيتهم في التجربة الأخيرة أمس وهم يرتدون الملابس الأفرنجية ويحملون الأعلام ويهتفون بحياة ملك السودان لأدهشك نجاحهم الكبير.
الحاكم العام: هذا شئ جميل
أبو الخلول: نعم ، حتى الفتيات اللآتي جلبناهن من قبائل الشلوك قد أتقن لبس الفساتين بمهارة عجيبة وسيشتركن في الاحتفال
الحاكم العام: إذن سيكون الاحتفال رائعا جدا.
أبو الخلول: كل ما أخشاه أن تقوم الأحزاب المعادية بمظاهرات طائشة قد تشوه من جمال الاحتفال.
الحاكم العام: لا.. لا تخش هذا فقد أقمنا جنودا مسلحين على مفارق الطرق لمنع هؤلاء من الوصول إلى الميدان ( يقع نظره على الصورة المعلقة في صدر القاعة) عجبا !! هذه صورة الإمبراطور باقية في مكانها ... لماذا لم تنزلوها ؟
أبو الخلول: لقد أنزلنا الصورة الأخرى ووضعنا في مكانها صورة مولانا ملك السودان .. أما صورة الإمبراطور فإن مولانا أمرنا ببقائها رمزا للصداقة بين الأمتين!
الحاكم العام: هذا تعطف كريم من صاحب الجلالة .. أين جلالته الآن ؟ ألم يفرغ بعد من ارتداء ملابسه؟
أبو الخلول: لعل اختيار العمامة هو الذي أخر جلالته .. فجلالته متردد أيلوثها على طربوشوالطربوش عنوان السيادة المصرية ، أم يلوثها على قبعة ! وهي لا تنسجم مع العمامة !
الحاكم العام : لماذا لا يلبس عمامته الصوفية التقليدية ، فهي أليقبملك وأجلب لرضا الشعب عنه ؟
أبو الخلول: لكن جلالته يريد أن يظهر فيهذا الاحتفال بمظهر جديد . مظهر ملك لا مظهر شيخ طريقة .. ها هو ذا قد أقبل "
يتجلى في هذه التقديمة الدرامية فن صناعة العملاء، تأسيسا على المظاهر الزائفة ، والحشد التلقيني للجماهير المخدوعة أو المتظاهرة بالخديعة ، ومظاهر التأييد الزائف المصطنع ، بهتافات ملقنة ، من ناحية وبالتهديد إن لزم الأمر وبالرشوة أو بالعطايا لإي محاولة تزييف الواقع ، وهنا يأتي دور المسرحية التسجيلية في فضح ذلك الزيف وكشف تلك الأكاذيب ، وفضح المستفيدين منها
( يدخل المغرور فيقوم له الحاكم العام ومن معه. يصافحه المغرور وينحني له قليلا فينحني له الحاكم أيضا)
الحاكم العام: لا يا صاحب الجلالة من اليوم فصاعدا لا ينبغي أن تنحني لي ولا لغيري. بل علينا نحن أن ننحني لجلالتك.
المغرور: شكرا لك يا صديقي العزيز .. ما رأيك في هذا الزّي الذي ارتديه؟
الحاكم العام: جميل جدا يا صاحب الجلالة ولكن أين النيشان الإمبراطوري؟ فمن حقه أن يزين صدر جلالتك في هذا اليوم العظيم .
المغرور: معذرة يا صاحب السعادة .. لقد نسيت أن أحمله .. اذهب يا أبا الخلول فائتني به ( يخرج أبو الخلول)
الحاكم العام : اسمح لي يا صاحب الجلالة أن أقدم لك تهنئة دولتي وتهنئتي بيوم تتويجك السعيد الذي سيفتتح به السودان عهدا جديدا من السيادة والرفعة"

• المفارقة الدرامية:
تقوم البنية الدرامية في المسرحية التسجيلية على المفارقات الدرامية شأنها شأن الدراما في المدارس والنزعات المسرحية الأخرى. ، وتتمثل في هذه المسرحية في مفاجأة الاحتفال:
( يتبدى الاحتفال بمجيء شرذمة من ( الحزب المأجور ) إلى الميدان وهم يهتفون بحياة ملك السودان وباستقلال السودان وبالصداقة السودانية الإنجليزية.
الحاكم العام: ( يلتفت مغضبا إلى أبو الخلول) أهؤلاء هم كل أعضاء حزبك؟
أبو الخلول: ماذا أصنع يا مولاي إن كثير منهم قد خافوا من نقمة الأحزاب الأخرى عليهم فلم يجرؤوا على الحضور اليوم
• المغرور: ويل لهم ! أيخشون الأحزاب الأخرى ولا يخشون نقمتي وعذابي
كما تتبدى المفارقة الكوميدية في المظهر الذى انتهي إليه الاحتفال بحضور قبائل الشلوك:
"أبو الخلول: على كل حال سنحضر طوابير الشلوك الآن فنملأ الميدان وبذلك نبطل كيد أعدائنا الذين دبروا هذه المقاطعة
المغرور : ( محتدا) أحضرهم حالا .. ماذا تنتظر بعد ؟
أبو الخلول: سمعا يا صاحب السعادة سآمر بإطلاقهم الآن ( يتحرك نحو الباب ليخرج)
الحاكم: ستأمر بإطلاقهم ! ما معنى هذا؟ أهم محبوسون الآن ؟
أبو الخلول: نعم يا صاحب السعادة لأننا لو تركناهم مطلقين لربما يهربون بالملابس التي كسوناهم إيّاها فلا يشهدون الاحتفال!
الحاكم العام: حسنا افعل ما بدا لك ."
(تحضر طوابير الشلوك إلى الميدان وقد ارتدوا جميعا الملابس الإفرنجية وهم يحملون الأعلام ، ويقودهم جماعة السودانيين العرب . وبين هذه الطوابير طابور من فتيات الشلوك قد ارتدين الفساتين الملونة . والجميع يرددون الهتافات التي تلقنوها )
أبو الخلول: مارأيك يا صاحب الجلالة الآن؟ لعلك راض عن تدبيري
المغرور: بارك الله فيك يا أبا الخلول إنني مغتبط جدا الآن.
أبو الخلول: الحمد لله إذ رضيتما عنّي.
الحاكم: هيا يا صاحب الجلالة تقدم إلى الشرفة لتحييهم وتلقي عليهم كلمة العرش.
المغرور: ماذا أقول لهؤلاء ؟ إنهم لن يفهموا شيئا مما أقول.
الحاكم: لا عليك يا صاحب الجلالة. ألق عليهم كلمتك وسيّان أن يفهموها أو لا يفهموها.
.أبو الخلول: نعم يا صاحب الجلالة إنهم على كل حال سيفهمون المعنى من إشارات يدك . وحسبهم أن يشهدوا طلعتك !
( يطل المغرور عليهم من الشرفة فتتعالى الأصوات بالهتاف)
المغرور: شعبى العزيز....
(أصوات ترتفع من خلال الجموع) يحيا الملك الكزيّف ! يحيا صنيعة الاستعمار!
أبو الخلول: هذه مكيدة من أذناب المصريين قد اندسّوا في الجمع
المغرور: شعبى العزيز .. يسرني جدا .. لعنة الله عليكم ! ماذا تصنعون أيها البهائم ؟!
الحاكم: ما خطب هؤلاء ؟
أبو الخلول: لقد خلع أحد أذناب المصريين بنطلونه فقلدوه ! لا ذنب على هؤلاء الزنوج يجب أن يعاقب أولئك الأذناب الخونة !
الحاكم: لا بأس .. استمر يا صاحب الجلالة في خطابك فسيكفون عن هذا العمل حين يسمعون صوتك .قل وأسرع في إلقاء كلمتك.
المغرور: ( يلقي بسرعة) شعبى العزيز .. يسرني جدا أن أراكم بهذا المظهر الوطني الرائع . ها أنتم أؤلاء ترتدون هذه الملابس المدنية الفاخرة ، فلا فرق بينكم وبين أرقى شعوب الأرض .( يلتفت إلى الحاكم العام) أنا لا أستطيع أن استمر في خطابي وهم هكذا ماضون في خلع بنطلوناتهم .. أنظر ! ها هم أخذوا يرقصون بدون بنطلونات !!
( تتعالى أصواتهم ويدور فيهم الرقص الزنجي في حلقات متعددة)
المغرور: ( يلتفت إلى مراسلي الصحف الجالسين في المكان المعد لهم على يمين الشرفة وهم يضحكون) " اذهبوا من هنا يا ملاعين! اطردوا هؤلاء المراسلين الأجانب من هنا ! لاإنني لا أريد أن أرى أجنبيا في بلادي"
ينتهي الاحتفال كما سجلت هذه المسرحية بعجز العسكر عن طرد الجماهير التى تتدفق على الميدان من حدب وصوب تنادي بأن شعب مصر والسودان شعب واحد ، ومن ثم لا يكون أمام الحاكم البريطاني والملك الهزؤة الذي أراد اصطناعه على راس شعب السودان ، تحقيقا لسياسية فرق تسد التي ابتدعها الاستعمار البريطاني لم تفلح في تفريق شعب وادي النيل.
على أن اللآفت للنظر هنا أن قيادة الجماهير السودانى الغفيرة ، كانت معقودة لأزهري، الذي يتكلم باسم الجماهير المحتشدة:
الحاكم: ماذا تريدون؟
الأزهري: ألم تسمعبعد ماذا نريد ؟ إننا نريد وحدة وادي النيل
الحاكم: ألا تريدون الاستقلال؟
الأزهري:
وحدة وادي النيلهي الاستقلال عندنا ، وكل ما عدا ذلك هو احتلال واستعباد.
الحاكم: هذا ما يقوله المصريون الذين يريدون أن يحكموا ويستغلوا خيرات بلادكم.
الأزهري: وهذا ما نقوله نحن أيضا الذين نريد أن نحكم أنفسنا ونستغل خيرات بلادنا
الحاكم: أسودانيون أنتم أم مصريون ؟
الأزهري: نحن سودانيون ومصريون ، كما أن سكان اسكتلندا اسكتلنديون وبريطانيون."

هكذا يعقد باكثير القيادة الشعبية لرجل أزهري التعليم ، ولا شك أن تلك الفترة من تاريخنا المشترك كان للأزهريين مكان القيادة في الطليعة . وولولا أن باكثير وضع جملة يقارن فيها الأزهري بين الأسكتلنديين والبريطانيين بوصفهم شعبا واحدا ، لذهب الظن مذهب دعوة الإخوان المسلمين التي ترى ضرورة سيادة النظام الإسلامي على العالم ، التي لا فرق فيها آنذاك أن يحك أي مسلم ، بغض النظر عن جنسيته كل البلاد الإسلامية.



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعارضات المسرحية في عصر العولمة
- جماليات الصورة الشعرية في القصيدة العربية
- أصدق المسرح أكذبه/ أصدقه؟!
- المسرح والتفاعل الاتصالى بين النوظيف الإبداعي والتوظيف العلم ...
- ( وشم الهناجر ) بين النقد ونقد النقد
- الفراق الطبيعي بين المفكر ومنتجه الإبداعي
- فن المخرج المسرحي بين التحصيل المعرفي والتأصيل العلمي
- تربية الإرهاب - مصادر الإرهاب الفكري ومصادر الفكر الإرهابي
- المشروع السياسي .. مجرد دليل عمل
- أصداء البوح الذاتي في شعر كفافي
- أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومغزوفة النشاز القروسطية
- جسد الممثل والأعراف الاجتماعية - دراسة في مناهج التمثيل المع ...
- نصوص مسرحية للمسرح ونصوص للدراسة
- ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح
- مونودراما ( مذكرات شمعة)
- الدين والدولة
- المبدعون وآفة سوء فهم الناقد
- التطوير الجامعي والقفز على الواقع المعيش
- في انتظار أوباما .. في انتظار جودو
- المثاقفة والتناص (تطبيقات في النقد الفني والمسرحي)


المزيد.....




- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...
- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أبو الحسن سلام - مسرح باكثير بين التسجيلية ودراما الأوتشرك