|
ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
رباح آل جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 2786 - 2009 / 10 / 1 - 04:58
المحور:
الادب والفن
كان من حق الأديب الكبير الراحل الدكتور نوري حمودي القيسي أن تمشي في موكب تشييعه وخلفه تلك الألوف كلها من أساتذة ، وطلاب ، ومثقفين ، وأصدقاء ، وهم يمدّون أصابعهم للمس جنازته وداعاً ، ورجاءً ، ومحبة ، وكل منهم لا يريد أن يفسح مجالاً لغيره من المتلهفين لحملها عنهم على رؤوس البنان ، أو فوق نياط القلوب . وكان من حقه علينا أن تتدفق بحوراً حول جثمانه تلك الحشود الهائلة التي خرجت من مجمع الكليات في الباب المعظم حيث استودعته الثرى في مراسيم عزاء مهيب ، فذلك وحده ما يليق بوداع رجل عاش حياته ممتدّة عبر (62) سنة ومات في رحاب الكلمة ، وأسلم الروح في عمادة كلية الآداب وغادر عالمنا إلى الملكوت ، وهو الرجل الذي أصدر نحو (133) كتاباً في التحقيق والدراسات والأدب ، وكتب المئات من البحوث والمقالات في الصحف والمجلات والدوريات ، وأشرف على أكثر من (50) رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه ، وشارك في العشرات من المؤتمرات عربياً وعالمياً ، وكان عضواً بارزاً في أكثر من مجمع علمي في العراق والأردن والهند ، لذلك لم يكن مشهد الجنازة يوم 1/11/1994 سوى إيحاء بالصوت والصورة معا على أن الجسد المسجّى في داخلها له هيبة ، وكبرياء ، وجلال ، ووقار . عرفت أبا سعد امرءاً مولعاً بالحسن يتبعه وليس له منه إلا لذة النظر على حدّ قول عمر بن أبي ربيعة في بيت الشعر المشهور ، وهو من الفئة القليلة التي تركت ملذات الحياة وجلست في محراب الثقافة والكتب .. عرفته إنساناً محافظاً في معيشته الشخصية ، يمارس أبوته كأعظم ما تكون الأبوة ، ورأيته ذات يوم يصمّم بنفسه بطاقة المهر الخاصة بابنته ( هدى ) ، ويكتب لها الدعوة على شكل مقطوعة شعرية من نظمه ، عرفته محباً للنكتة ، هاوياً للمقام العراقي ، يعرف أصوله وأنواعه ، وكان يسمع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في بعض الأحيان ، محباً للسفر وزيارة المتاحف والمكتبات وجمع المخطوطات ، تستهويه رياضة كرة الطائرة ويمارسها إذا كان لديه وقت ، لازم أخاه الخطاط الكبير هاشم البغدادي ومنه تعلم الخط العربي وفنونه وأساليبه ، وله خط أنيق وجميل ، وعلى الرغم من ذلك فإنه كان لا يرسل مقالته إلى الصحف إلا مطبوعة على الآلة الكاتبة قبل أن يعرف العراق جهاز الحاسوب ، وكان صمته ابلغ أحياناً من كلامه ، وكنت أسمعه ، دائماً ، يردد قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الكلمة الطيبة صدقة ) ، فأثمرت الكلمات الطيبات للراحل نوري حمودي القيسي وآتت أكلها بأهل وأصدقاء وتلاميذ يدعون له بالرحمة والمغفرة والرضوان وجنة عرضها السموات والأرض . كان مكتبه ( عمادة كلية الآداب بجامعة بغداد ) مشاعاً لمن يجلس ، وليس من المبالغة أن أقول : إن نوري حمودي القيسي كان يفتح باب قلبه قبل أن يفتح باب مكتبه ، وهكذا عرفته أديباً مبدعاً يشار له بالبنان : حرفاً وقصيداً ، مشهداً ونغماً ، لوناً وظلاً ، مثلما عرفته مربياً فاضلاً ومقوماً من الشطط والاعوجاج ، وإنساناً فذاً ، وتبراً في تراب ، ورقيقاً كخيط الحرير ، وأخلاقاً حميدة كأخلاق النخلة ، سلسلة من المعارف الإنسانية تجلّت في سلسلة من المواهب الروحية .. وهو رند وورد ، وأحد أبناء جيل اقتحموا الغابة وقلبوا الموازين ، وكان يصارع نفسه وتأريخه ممسكاً في يده بأفتك أسلحة التراث ، إلى حيث تحمله جياده ومدافعه . وإذا كان ( في العراق جوع ) ، كما يقول السياب في رائعته ( انشودة المطر ) ، وكان السيد المسيح هو القائل : ( اذهب وبع ما تملكه وأعطه للفقراء ) ، فلعلّي اكشف سراً للمرة الأولى لا يعرفه الآخرون عن الراحل العزيز ، فلقد كلّفني يوماً أن آتي له بقائمة تضم أسماء عدد من الطلاب المعوزين من الأسر الفقيرة في كلية الآداب ، وعندما سألته عن السبب ، قال : إن الله سبحانه أكرمه من فضله وأحسن إليه ، وأنه يريد أن يخصّص لهم رواتب شهرية ، وتطوعت للمهمة بحماس الشباب ، واشهد أن القيسي حتى رحل من عالمنا إلى ملكوت السماء ، فانه ظل يصرف لهم راتباً كلّ شهر ، وأحيانا يزيد على الراتب بما يكفيهم أن يشتروا به ( الزي الموحد ) ويدفعوا إيجار سكنهم وطعامهم . في الأيام الأخيرة من حياته أصبحت لقاءاتنا شحيحة وخاطفة ، ولم نكد نجد الوقت الكافي لأحاديث طويلة نتبادل فيها الآراء والأفكار والأشواق ، سوى بعض الزيارات العابرة ، وكنت أجد في صداقتنا متنفساً ما ، أو شيئاً من متنفس عن معاناة يضيق بها صدري فأهرع شوقاً إليه ، وكان بدوره سعيداً بهذا الشوق ، كانت صداقتنا ممتعة وأيامنا خصبة خضراء ، وكان هناك من يريد أن يفسدها وقد أصبحت حميمة تجاوزت الثقة والإحترام المتبادلين ، وكنت فيما أظن من اقرب تلاميذه إليه ، ومرّت أيام كنت اشدّ ملازمة له من ظلّه ، كان كلانا مشدوداً إلى الآخر ، والحوار دائر بيننا لا ينقطع ، والذكريات أعمق من أن تمحى ، برغم اختلاف التجارب ، وفارق العمر ، وتباعد السنين ، وهي صداقة يندر أن تجد مثلها هذه الأيام بين أستاذ وتلميذه بالمعنى الحقيقي للصداقة . ولقد استبدت بي الدهشة آخر مرة زرته ، وسمعت منه ما كان يوحي أنه بدأ يدرك نهايته ، وكان يقرأ بصوت متهدج شعراً كأنه الرثاء ، يقول : ( واليوم أصبحنا كباراً أيها الزورق .. وامتدت الآفاق حتى آخر الدنيا .. وامتد نهر الشيب في الصدغين والمفرق ) ، وقلت له : كلّ ميّسر لما خلق له ، وقال لي : هذا الشعر نبّهني أن الزمن يمرّ سريعاً ، ثمّ أخذني في سيارته متجهاً نحو المجمع العلمي العراقي ، وفي الطريق مازحته بقولي : إني سألت الدكتور علي الوردي ، ذات يوم ، عن هذا المجمع ، وكنّا نمرّ من نفس هذا المكان ، فكان جوابه : انه يفضّل السكوت ، فماذا تفضّل أنت ؟!.. وردّ عليّ مبتسماً : أنه يفضّل ألا يذهب إليه بصحبتي ، وأن نختار أحد المطاعم القريبة منه ، ونختار طبقاً شهياً للغداء !. وقال لي كلاماً .. وقلت له كلاماً ، وقمنا وانصرفنا كلّ في طريق ، وذهب هو لرؤية الأستاذ هلال ناجي ، وعدت أنا إلى البيت .. ولم أر نوري حمودي القيسي كما رأيته وسمعته في هذا اللقاء ، ومن سوء الحظ ، كان ذلك آخر لقاء !!.
#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
-
مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
-
قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
-
تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
-
لا هو موت .. لا هو انتحار
-
أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
-
مصطفى محمود .. المفترى عليه
-
عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
-
مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
-
( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
-
أبو جهل يتوحم على دمائنا
-
عندما تغضب الكلمات
-
علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية
-
عبد الوهاب البياتي .. الأول في روما
المزيد.....
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
-
مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|