عاد رئيس الحكومة، اريئيل شارون، الى ممارسة النهج الدعائي السياسي الذي يتقنه جيدًا، الى نهج المراوغة والاعلان عن مواقف سياسية ضبابية وغير محددة أو مربوطة بأي جدول زمني محدد لتنفيذها. نهج مبني على تحقيق هدف مركزي وأساسي يتمحور حول التمويه لطمس حقيقة برنامجه الاستراتيجي الاحتلالي الاستيطاني ومن خلال التهرب من تنفيذ اتفاقات وتفاهمات والتزامات متعلقة بمقترحات وبرامج تسوية للصراع الاسرائيلي - الفلسطيني. فصباح امس الاول، ومن خلال مقابلة مع الصحفي يوئيل مركوس، من صحيفة "هآرتس" وقبيل اجتماع كتلة "الليكود" في الكنيست صرّح اريئيل شارون، بما يشبه اطلاق "قنبلة سياسية" "أوصيت ببرمجة الانسحاب من 17 مستوطنة في قطاع غزة: فأنا انطلق من فرضية انه لن يكون في المستقبل يهود في غزة"!!
لا نبالغ عندما نؤكد ان هذه "القنبلة" لا تعدو كونها بالونًا فارغًا اطلق بهدف السمسرة في سوق العلاقات العامة ويندرج في سياق سياسة المراوغة الشارونية لكسب مزيد من الوقت يخدم مصلحة الاحتلال الغاشم. فتصريحه لا يخرج من اطار التوصية والفرضية دون أي التزام مرهون بالتنفيذ او بتحديد زمني له. ومع تأكيدنا بأننا نؤيد ومن أجل الانسحاب واخلاء المستوطنات من كل بقعة أرض فلسطينية محتلة، من قطاع غزة والضفة الغربية، الا اننا لا نثق بأقوال وتصريحات جنرال المجازر والاستيطان، اريئيل شارون. فهذا التصريح يندرج في اطار خطة شارون "لفك الارتباط" مع الفلسطينيين والانسحاب من طرف واحد، خطة فصل أمني لخدمة أهداف الاحتلال السياسية بمصادرة وضم اكثر من نصف المناطق الفلسطينية المحتلة ومنع قيام دولة فلسطينية سيادية ومستقلة و"بنت معيشة" كباقي دول وشعوب العالم. وقد جاء توقيت القاء هذه "القنبلة" المغشوشة على خلفية عدة عوامل يأمل شارون في استثمارها لمصلحة برنامجه الاحتلالي الاسود، أهمها ما يلي:
أولاً: في الثالث والعشرين من شهر شباط (فبراير) الحالي، أي بعد حوالي ثلاثة اسابيع من تصريح شارون المذكور، ستنعقد المحكمة الدولية في هاج للبحث في طلب الامم المتحدة بحث قضية بناء اسرائيل الاحتلال لجدار الفصل العنصري وتنشط حكومة اليمين الشارونية بالتنسيق مع حليفها الاستراتيجي - الادارة الامريكية وبمساعدته في الضغط عالميًا، على مختلف الأنظمة والبلدان، لاجهاض البحث وعدم ادانة اسرائيل ومصادرة حق المحكمة الدولية في بحث هذا الموضوع وكانه لا مصداقية وغير شرعي البت في قضية مطروحة على ساحة الصراع ومساعي التسوية بين اسرائيل والشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية. فالضغط الاسرائيلي - الامريكي يمارس ضد دول الاتحاد الاوروبي وروسيا وغيرهم. والمجرم السارق على رأسه ريشه، كما يقول المثل، فما يخيف المجرمون في الادارة الامريكية وغيرها ان تصبح القضية المطروحة على بساط المحكمة الدولية وما يتمخض عنها سابقة سياسية تقود الى ساحتها الكثير من الانظمة التي ترتكب جرائم حرب ضد الشعوب الاخرى،من الادارة الامريكية وما ترتكبه من جرائم ضد شعب العراق، وما يرتكب من جرائم روسية ضد شعب الشيشان. ولهذا، فإنه لامتصاص النقمة والادانة الدوليين لبناء جدار العزل العنصري وللتمويه على جرائم المحتل الاسرائيلي جاء تصريح شارون لتضليل الرأي العام العالمي وتقمص دور رجل السلام الذي يطرح خطة فيها "لحم" للفلسطينيين، خاصة فيما يتعلق بالتوصية والفرضية الشارونية باخلاء المستوطنات الكولونيالية القائمة في قطاع غزة. الايحاء للرأي العام العالمي ان في نية حكومة شارون اليمينية تجسيد خطة للتسوية مع الفلسطينيين.
ثانيًا: جاء تصريح شارون في وقت يستعد فيه السفر في نهاية هذا الشهر الى واشنطن للتباحث وتنسيق المواقف مع الرئيس الامريكي، جورج دبليو بوش وغيره من المسؤولين في "البيت الأبيض" والبنتاغون. وفي لقائه مع بوش سيقنعه شارون بقراءة صلاة الجنازة على روح خطة "خارطة الطريق" وكسب موافقته باختذالها وحصرها على خطة الانسحاب من قطاع غزة اولا التمويهية التي تخدم المصالح الاستراتيجية لتحالف الشر الامريكي - الاسرائيلي. فخطة شارون تخدم مصالح الاحتلال الاسرائيلي لانها من جهة تعني اذا ما نفذت اخلاء مستوطنين لا يصل عددهم الى ثمانية آلاف طفيلي استيطاني يكلفون خزينة الدولة لحماية أمنهم مئات ملايين الشواقل سنويًا، ويساعد اخلاؤهم على التمويه بالتمترس الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة ونقل مستوطنين من مستوطنات هشة ومعزولة يتم اخلاؤها الى تعبئة مستوطنات سرطانية كبيرة وقائمة في الضفة المحتلة. ومن جهة اخرى، فإن الانسحاب من طرف واحد، يعني تجاهل القيادة الشرعية الفلسطينية، السلطة الوطنية والحكومة الفلسطينية، وكانها ليست ندًا أو طرفًا للتفاوض معه. ومن حيث المصلحة الامبريالية الامريكية، فانها اولا تتخلص من اللجنة الرباعية التي تشاركها في مسؤولية "خارطة الطريق" وتبقي مفاتيح الاحتكار بيد الادارة الامريكية، وتستطيع التمويه والادعاء بأن حكومة شارون تقدم "تنازلات" من طرف واحد بالانسحاب من قطاع غزة كبادرة للتسوية السياسية. وبهذا تساعد الادارة الامريكية حكومة اليمين بالخروج من تحت مكبس الضغط والعزلة والادانة الدولية، كما نأمل ان تساعد خطة شارون في تخفيض سقف الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني مؤقتًا وبشكل يساعدها على مواجهة نيران المقاومة لوجودها الاحتلالي والغازي في العراق وأفغانستان.
ثالثًا: ان شارون يدرك جيدًا ان اتفاقية جنيف التفاهمية تكتسب تأييدًا دوليًا واسعًا، في بلدان الاتحاد الاوروبي وغيرها، ولهذا فإنه ولمواجهة مختلف المبادرات من اتفاقية جنيف، وغيرها ولاجهاضها يلجأ الى المناورة بمبادرات وخطط جوهرها ومدلولها تقزيم الحقوق الوطنية الشرعية الفلسطينية. ففي المقابلة المذكورة مع يوئيل ماركوس يرد على عواء ذئاب المستوطنين واليمينيين من اعداء ومعارضي أية تسوية سياسية او اي انسحاب من أي شبر فلسطيني او عربي محتل، يرد مؤكدًا "لا تستطيع اسرائيل بعد ان تعيش على شعارات. اذا لم نبادر نحن فسيقدم آخرون مبادرات من عندهم.فخيارنا هو بين السيء والسيء جدًا"!!
رابعًا: ان شارون وولديه في مأزق وزنقة كبيرين، فسكين القضاء مسلط على رقابهم بتهم الفساد وتلقي الرشاوى. وان تصريحاته المناقضة لموقفه الايديولوجي والسياسي كجنرال للاستيطان جاءت لصرف الانظار عن مستنقع العفن والفساد الذي يسبح فيه ولرفع اسهمه السياسية بين الرأي العام الاسرائيلي المناصر والمؤيد بغالبيته للتسوية السياسية ولانهاء حمام دم الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني. وكما أظهر استطلاع للرأي أجرته المختصة مينا تسيماح من "داحف" فإن 59% ممن شملهم الاستطلاع يؤيدون الانسحاب من قطاع غزة.
واخيرًا، في رأينا ان ما يقترحه شارون في اطار خطة للانسحاب من قطاع غزة اولا، كما بينا، ليس ابدًا المخرج من دوامة الصراع الدامي، ولن يقود الى السلام والامن والاستقرار، بل ما يقترحه فقد جاء لتخطي مبادرات واتفاقيات وجهود التسوية السياسية العادلة نسبيًا. حتى الاوساط اليمينية المتطرفة من المستوطنين واحزاب المستوطنين والداعمة لهم لا يأخذون مأخذ الجد اقوال وتصريحات شارون، وانه شتان ما بين أقواله وبين تجسيدها على الارض. وحتى لو فرضنا جدلاً ان شارون نفذ خطته ونفذ غلاة المستوطنين واحزاب اليمين - الاتحاد الوطني والمفدال - تهديداتهم بالانسحاب من الحكومة، فإن حكومة شارون سيواجهها أحد خيارين، الاول اقامة حكومة ائتلافية جديدة بدخول حزب "العمل" الى أروقتها بضغط من الادارة الامريكية وحركة "شينوي". ولا يستبعد شارون هذا الاحتمال. فأمس الاول وعلى ضوء تهديدات المستوطنين وأحزاب الاستيطان، صرح شارون (أنظر: "يديعوت أحرونوت" 3/2/2004) بما يلي "لن يكون هنالك مفر من تغيير تركيبة الحكومة. لن أتردد في اقامة حكومة اخرى. ولست من يركض لاتخاذ هذا الاجراء، ولكن لا توجد لدي أية نية ان أكون تحت رحمة كتل وأعضاء كنيست لا يمكنونني من ادارة شؤون الدولة".
والخيار الثاني ان لا يزحف بعض زعماء "العمل" لجر الحزب دخول حظيرة الائتلاف برئاسة شارون وعندها اذا نفذ غلاة اليمين وعيدهم ستسقط هذه الحكومة وبئس المصير. وهذا هو الخيار الافضل الذي يخلق ظروفًا أفضل لبلورة بديل سياسي لحكومة الكوارث اليمينية، بديل يدفع عجلة العملية السياسية نحو تسوية سلمية سياسية عادلة نسبيًا تخلّص الشعب الفلسطيني من براثن الاحتلال ودنسه الاستيطاني وتنصف حقه بالدولة والقدس والعودة، وتخلص المنطقة من بؤرة صراع دموي وتوفر لجميع بلدانها وشعوبها، وبضمنها اسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة، السلام والامن والاستقرار.