أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - أحمد عثمان - مساهمة في نقد مشروع التقرير السياسي العام المقدم للمؤتمر الخامس















المزيد.....



مساهمة في نقد مشروع التقرير السياسي العام المقدم للمؤتمر الخامس


أحمد عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2277 - 2008 / 5 / 10 - 07:46
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


في البدء لابد من الإشادة بالجهد الكبير وغير المسبوق الذي بذلته اللجنة المكلفة بإعداد التقرير المنوه عنه أعلاه، بالرغم مما شابــه من قصور ومشكــلات أســبابها متعددة ليس أقلهـا طول الفترة التي غطـاها المشروع وإنهــيار المعسكر الشرقي وماصاحبـه من هزة فكرية، وما واكبه من مناقشة عامة أضعف أثرها تلخيصهــا تلخيصا سرديا بدلا من تلخيصها تلخيصا تصنيفيا يسمح بالإختيار ويؤدي إلى نتائج واضحــة. ولكن هذا لايمنع بالطبع من تقديم مساهمــة في نقد هذا المشروع، لاتدعي الإحاطـة بل تقر بأنها مجــرد خواطــر عجلى يعيبهــا غيــاب التوثيــق والمراجع التي لم يتوفر لها الوقــت ولم تسمـح الظروف في الشتات بالحصول عليها. ومن الممكن أن نوجز هذه المساهمة فيمايلي:-

1/ إبتدرت اللجنة مشروعها بالحديث عن منهج إعداده ,أشارت إلى أنها قامت بالتركيز على القضـايا الجوهريـة وقضايا الساحة السياسيـة الراهنة، ولم توضح ماهية المعيار الذي إستخدمته في تحديد هذه القضــايا الجوهرية ولا في تصنيفها لقضايا الساحـة السياسيــة الراهنــة، مما منحها الفرصـة لإختيار قضايا وتغييب أخرى. ومن القضايا الغائبـة على سبيل المثال التحليل التفصيلي لطبيعة إنقلاب الجبهة الإسلاميـة واسبابه ومسئوليـة القوى السياسية في فشل التجربة الديمقراطية بالإضافة للفشل في تفعيل ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وكذلك غياب الحديث عن إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة وأثلره على توازن القوى ومآلاتـه، بالإضافة إلى تداعيات نيفاشا المتمثلة في المشاركة في البرلمانات عبر بوابـة إتفاقية القاهرة التي لم يتم تقييمها، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

2/ النقد الذاتي لعدم إنعقــاد المؤتمر طــوال الفترة الماضي شابـه قصــور كـبير حيث أنه لم يتعرض للأسبــاب التي منعت عـقد المؤتمر بعد الإنتفاضـة برغم إمكانيــة ذلك، ولم يحدد الخطأ بدقــة واكتفى بالحديث عن تغليب مقتضيـات التأمين ولم يحدد الآليات الكفيلة بعدم تكرار ذلك مستقبلا، ولذلك يعتبر رفع عتب وليس نقدا ذاتيـا، و لايتجاوز حالـة كونـه إجراءا إستباقيـا للمحاسبـة المطلوبـة التي ماتزال واجبا أوليا للمؤتمر.

3/ أشــار مشــروع التقرير في نقده للتجربــة السوفيتيــة إلى الفشــل في إستكمـال نقائص السياســة الإقتصادية الجديدة في الجانب السياسي، ولكنه لم يعرف هذه النقائص، وربما يكون القصد هو تغييب الديمقراطيـــة، ممايعني أن رأي الحزب هو أن إضفـاء البعد السياسي على تلك السياسة الإقتصادية ، كان كفيلا بضمان تطور معافى للتجربـة السوفيتية. والسؤال هو إلى ماذا إستند الحزب في موقفه هذا وماهي المقدمات التي قادته للوصول إلى هذه النتيجة؟

4/ يصر المشروع على التفرقــة بين ملكيـة الدولة والملكية الإجتماعية لوسائل الإنتاج وكأن الأمرين نقيضان لاتلاق بينهما دون أن يوضح ماهية الملكية الإجتماعية وكيف تتحقق وماهي مؤسساتها، وما الذي يمنع من أن تكون الدولـة الديمقراطيـة (القطاع العام) أحد مظاهر هذه الملكيــة إن لم يكن أهمها على الإطلاق؟ في تقديرنا أن هذه المسألـة هامـة لأنها تنسحب على موقف الحـزب من القطـاع العــام ودوره وموضة الخصخصة ولا يمكن التعاطي معها بكل هذه الخفة.

5/ يتحدث المشروع عن المنهـج الماركــسي كركيزة لتحليلـه لمجتمعـه، دون أن يتقدم بتعريف لهــذا المنهج وهل هو القوانـين التي إمتحنت في أرض الواقع وتم التأكد من صحتهـا والتي عبر إستخدامها يتم إنتاج النظريــة التي تنتـج عبر إستخـدام المنهج في دراســة الواقع أم أنه يستخـدم المنهج في إطار الخلط الســائد بين مفهومي المنهج والنظرية في المدرسة السوفيتيـة؟ وفي كل الأحوال ماهي القوانين الرئيسيــة التي تشكل هذا المنهج؟ إن التعامـل مع المنهج الماركسي كأمر بدهي ومعلــوم بالضرورة، يتناسي الأزمة التي تعرض لها الفكر الماركسي بعد إنهيار المعسكر الشرقي ويتجاهل المناقشة العامة التي أدارها الحزب جملة وتفصيلا ويفتح الباب أمام البلبلة الفكرية.

6/ يتحدث المشروع عن تأصــيل نظري جديد لمفهــوم الدولــة الإشتراكيــة، ولكنـه لايقدم مساهمــة واضحــة ومنضبطة في هذا الإطار. وهي مساهمة لابد أن تمر عبر تأصيل مفهوم الدولة نفسه بردها إلى البنيــــة التحتية المنتجــة مع مراعاة إنفكـاكها النسبي، وإستخـدام مقـولتي المظهـر والجـوهـر في تكييفهــا بدلا من مقولتي الشكل والمحتوى، ليصبح أمر إستدخـال الديمقراطيـة السياسيـة وسيادة حكم القانون ممكنا كما سنعرض لذلك لاحقا.

7/ في معالجتـه لمشـاكل أفريقيا، يتحدث التقرير عن تحــالفات مطلوبـة لقيام أنظمة ديمقراطية وحل المشكلة القومية حل سلمي ديمقراطي يكفل الوحدة الطوعية، ولكنه لايتقدم بآليات واضحة تجعل ذلك ممكنا في قارة يغلب عليها سيــادة الأنظمـة الشموليــة و يصادر فيهـا حق التنظيم، وهذا بالطبع يجعل الوصفة قاصرة إن لم تكن غير واقعية. ونسحب نفس الأمر على دعوة الحزب للإستفادة من التكتلات الإقليميــة لمعالجــة أزمات القارة، إذ كيف يمكن ذلك في ظل أنظمة شمولية وأخرى تابعة للإستعمار في ظل ظروف فساد شامل بدول أفريقيا؟ في تقديرنا أن المطلوب هو تحديد أولويات النضال بالقارة الأفريقيــة وتحديد آلياتــه بشـكل واقعي دون تفكير رغائبي ووقوع في حبائل الوصفات الجاهزة التي تصلح لكل مكان وزمان.

8/ المهـام التي وضعهــا مشروع التقرير ليفعل الجامعة العربية عبرها مهام مستحيلة التنفيذ إذا أخذنا طبيعة تركيبة الجامعة العربية نفسها والقوى التي تمثلها. وفيما يخص الموقف من القضية الفلسطينية، يتوقع المـرء أن يجيـب الحـزب على سؤال مهم هو: لمــاذا إنتقل الحــزب من موقعـه الرافض لقـرار التقســيم تاريخيا إلى دعم حل الدولتين القائم على التقسيم وبنسب أسوأ من التي وردت بقرار التقسيم؟ كيف يقبل الحزب بإستمرار دولـة إسرائيل العنصريـة القائمـة على الإحتلال وماهي مبرراتـه لقبولها دون حدوث تحول جذري في بنيتها يحولها إلى دولة ديمقراطية؟

9/ يصر التقرير على أن مشكلـة نيفاشا هي الثنائيـة وأن توسيع المشاركـة فيها عبر مؤتمر جامع هو الحل. وفي تقديرنا أن هذا التحليل لطبيعة نيفاشا قاصر، لأن عيب نيفاشا الرئيس موضوعي يتمثل في معالجـة المشكلـة على أنها مشكلة شمال/جنوب بدلا من معالجتهــا على أنها مشكلـة السلطــة في البلد بعامة، مع بقاء الدولة الدينية في الشمال. وبما أننا قد سبق وتقدمنا بمساهمتين في هذا الإطار، يصبح إثباتهما فيمايلي أمرا لا مناص منه:-

أخطاء قاتلة في قراءة إستراتيجية!!
( حديث في محرمات السياسة السودانية)

لاشك في أن القوى السياسية السودانية الوطنية قد إستبشرت خيرا بتوقيع إتفاق نيفاشا وإعتبرته وثيقة مؤسسة لتحول ديمقراطي، ولاشك في أن لتلك الإتفاقية الكثير من المحاسن ليس أقلها إيقاف نزيف الدم ورفع يد الإنقاذ السالطة عن جنوب بلادنا الحبيب إلى حد مقدر وإن لم يكن كليا! ولكن محاسن هذه الإتفاقية لاتسمح في تقديري المتواضع بوصفها بأنها أداة مؤسسة لتحول ديمقراطي، إذ أن هذا القول يجافي الواقع ويبالغ في تقييم الإيجابيات ويتعامى عن سلبيات هذه الإتفاقية. وفي تقديري المتواضع أن إتفاقية نيفاشا قد تصلح أداة لتحول ديمقراطي في جنوب البلاد ولكن ليس في شماله وذلك لمايلي من أسباب:
أ. نصت الإتفاقية ومن بعدها الدستور ساري المفعول على مصدر أصلي ووحيد للتشريعات القومية المخصصة لشمال السودان هو الشريعة الإسلامية، وفي ذلك تكريس كامل للدولة الدينية في شمال البلاد ولايمكن بأية حال أن تتحول الدولة الدينية لدولة ديمقراطية تحتكم لسيادة حكم القانون لأسباب هيكلية خاصة بفلسفة التشريع الديني. ولايقدح في ذلك وجود باب بالدستور يعالج الحقوق والحريات على أسس تستند للشرائع الدولية لان ورود نصوص هذا الباب لاتقيد أوتنسخ المصدر الوحيد وفقا لماهومتاح من أدوات تفسير وقواعد قانونية. ولهذا أخطأت الأحزاب العلمانية وعلى رأسها الحزب الشيوعي حين دخلت برلمانا سقف المبادرة التشريعة فيه الشريعة الإسلامية كما تفهمها أغلبية المؤتمر الوطني البرلمانية.
ب.وقعت الإتفاقية بين طرفين وإعتمدت المحاصصة وفقا لتوازن القوى بينهما ولم تتمكن القوى السياسية الوطنية من القراءة بين السطور لإدراك مدى تقييد هذه الإتفاقية للحركة الشعبية وحصرها في نطاق جنوبي ممثل بالمركز بدلا من إعتبارها قوى مهتمة بشأن التحول بالمركز أولا كوسيلة ومعبر لمعالجة مشكلة الجنوب.
ج. الرهان على القوى الدولية ورغبتها في إنفاذ الإتفاق بل وربما تغيير نظام الإنقاذ والمساعدة على تفكيكه. وهذا الرهان غير المنطقي والذي لاتسانده الوقائع والذي أغفل أهمية دور المؤتمر الوطني الهام في حرب الولايات المتحدة على ماتسميه الإرهاب، أخفى حقيقة أن نظام الإنقاذ المضغوط والمركع أفضل للغرب وأمريكا من نظام ديمقراطي عدو للولايات المتحدة وصويحباتها.
د. الرهان على قدرات الحركة الشعبية بوصفها شريك في السلطة مع إهمال عدة حقائق أهمها عدم وجود نصوص صريحة مساعدة حول علمانية وقومية العاصمة مع غياب أي برنامج إستراتيجي أو مرحلي أو حتى حكومي لدى الحركة الشعبية التي ألغت المانفستو الخاص بها منذ العام 1995 ولم تكلف نفسها عبء صياغة برنامج جديد كما أنها تجاوزت مقررات أسمرا بتوقيع إتفاق نيفاشا.
هـ. الرهان على توازن الضعف المزعوم دون تحديد ملامح هذا التوازن الذي تحدد بالنسبة للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية بالإتفاقية نفسها مع الأخذ في الحسبان دور الضغوط الأجنبية وبالنسبة للتجمع بإتفاقية القاهرة التي ولدت ميتة وليس هنالك مقياس واضح بالنسبة لحزب الأمة والمؤتمر الشعبي. والملاحظ هو أن جميع القوى لم تقم بتقييم الإنقسام الذي حدث في الجبهة الإسلامية لمؤتمرين بإعتبار أن هذا الإنقسام عامل هام في قياس هذا التوازن الهلامي حتى هذه اللحظة. والأسوأ من ذلك أن بعض القوى قد عكست هذه التحليل المنتقص ميكانيكيا على واقع الجاليات السودانية بالخارج وبدأت في إدارة معارك على أساسه.
ح. إغفال قدرة المؤتمر الوطني على إحتواء الحركة الشعبية معتمدا على روافع متعددة مثل غموض نصوص الإتفاقية ودولة الفساد الراسخة وقلة التجربة الإدارية للحركة وغياب أي برنامج حكومي للحركة (يلاحظ أن حكومة الوحدة الوطنية المزعومة تحكم دون بيان وزاري مجاز من قبل البرلمان!!!!).
ط..إغفال خطورة وضع الإتفاقية كسقف مقدس يحول دون الحركات المهمشة المسلحة من المطالبة بسقوف عادلة تتجاوز سقف هذه الإتفاقية وتؤسس لتوزيع عادل للسلطة والثروة على جميع الأقاليم.
ك. الرهان على وحدة القوى الوطنية (وهي وحدة دونها خرط القتاد) وقدرتها على هزيمة المؤتمر الوطني في إنتخابات قادمة ربما لن تتم فنذر الإخلال بإتفاق نيفاشا نفسه بادية للعيان (رفض تقرير أبيي)، دون حساب لمدى المخاطرة في هذا الرهان وبلاحسابات أو خطوات عملية.
كل ماتقدم يؤكد أن التقييم الإيجابي الشامل لإتفاقية نيفاشا غير دقيق إن لم يكن خاطئا جملةً وتفصيلاً. فالإتفاقية وفقا لما هو أعلاه لاتعدو حالة كونها تسوية بين طرفين قادت لإحتواء جزئى للحركة الشعبية بواسطة المؤتمر الوطني وتلويث للقوى الوطنية عبر المشاركة بالتعيين في برلمانات وهمية، وسوف تؤسس لفصل جنوب البلاد بصورة حتمية فيما إذا استمر الحال على ماهو عليه.


أزمة شريكي نيفاشا- محصلة طبيعية لبداية وحسابات خاطئة
منذ بروتوكولات ماشاكوس، كنا ضمن قلـة من الحادبين على مصلحـة الوطن أبدوا تحفظات واضحة عليها إنسحـبت لاحقـاً على إتفاقيــة نيفاشـا نفسهـا المعروفة بإتفاقيـة السلام الشاملة بالسودان، دون أن نعارض إيجابيات وقف الحـرب والتمـهيد لإمكانية النضال من أجل تحول ديمقراطي لاتكفلـه الإتفاقية بذاتها بأي حال من الأحوال. ولقد لخصنا تحفظاتنا وملاحظاتنا التي تراكمت في مايلي:

أ. تمت هندســة الإتفاقيـة على أساس صراع متمحـور شمال/جنوب مع إعتماد المؤتمر الوطني ممثلاً للشمــال والحركـة الشعبيــة ممثلاً للجنوب، مما أدى إلى معالجـة تبنت خلق دولـة هجين علمانيـة في الجنوب ودينيــة في الشمال وفقاً للقسمة بين شريكي الإتفاقيـة. هذا الخلل الجوهري أدى إلى أن تكون الحقوق المكفولـة بموجب الإتفاقيـة حصراً على الجنوب في حين إسـتأثر المؤتمــر الوطني بالشمــال يشـرع لـه حسب فهمـه الإسـتبدادي للشريعـة الإسلاميــة وفقـاً لدسـتور نيفاشـا الذي كـرس الشريعــة الإسلاميـة كمصـدر للتشـريع الفيـدرالي في شمال البلاد. وبالتالي أصبحت الإتفاقية مجرد صفقـة بين جنوب تحرر من قبضــة المؤتمر الوطني وشمــال ترك لمصيره تحت حكـم الإستبداد المتـأسلم. لذلك ومنذ البداية جاءت نيفاشا مشروعاً لدولتين تنكرتا في شكل دولة واحدة بقدرة قادر.

ب. وضـع الصفقــة أعــلاه، يجعـل التطـورات الإيجابيــــة في الشمـــال تظهـر بمظهـر المنـــح مـن المؤتمـر الوطني لأن حدوثهــا عرضي لا أصـيل يحفزه تواجد ممثلين للحركـة بالحكومـة المركزيـة والحفــاظ على رمزيـــة الشراكـــة والإلتزام تجاه المجتمع الدولي الضامن للإتفاقيـة، ولاتظهـر كحق مكتسـب لجمــاهير الشعــب السوداني في الشمــال، وهي الجمـــاهير التي ظلمهـــا التجمــع الوطــني بتوقيع إتفاقيــــة القاهـرة الهزيلــة- مـن مـواقع الإلتحـاق بصفقــة نيفاشـــا- والتي لم ولن تنفـــذ علـى ضعفها إلا في النقـــاط التي تكـرس إحـتواء المؤتمر الوطني لمعارضيـــه الشمالـيين مـثل إستيعـابهم تعيينـاً بالبرلمانـات الوهميــة الراهنــة. وليس من المـستغرب أن يقـول الأسـتاذ/ التيجاني الطيب أحد موقعي إتفاقيــة القـاهرة أنـها "راحت شمار في مرقـــة" لأن هذا المــآل كان مـنظــوراً مـنذ لحظـــة توقيعها للإلتحـاق بركب نيفـاشــا من مواقع متخلفــة. تقييم قوى التجمـع الوطني الديمقراطي الخاطئ لإتفاقيــــة نيفاشـا الذي دفعـه للتهافت وتوقيع ماسمي بإتفاقيـــة القاهرة، نتـج عنه تداعيـــات مريعــة مثل مشاركـة بعض قواه في الحكومــة ودخول قوى أخرى برلمانات معينة لاسلطة فعلية لها لهيمنة المؤتمر الوطني عليها، وجعــل من نيفاشــا نصـــاً مقدســاً إستخدمه الشريكان في إبتزاز هذه القـوى، بإشتراط الموافقــة عليــه لتسجـيل الأحزاب، وأصبح عائقـاً أمام حلحلــة النزاعـات الأخرى بإعتباره سقفــاً لايمس في أي مفاوضات مع الحركــات المسلحة.

ج. إتفاقيــة نيفاشـا حـددت معـالم الدولـــة الهجين الخرافيــــة، ولكنهـا لم تتعرض من قريـب ولا من بعــيد لبرنامج حكومــة الشراكــة المسمــاة حكومــة الوحدة الوطنيـــة لاحقاً، فهي لم تعالج الأزمـــة الإقتصاديــة، ولاخاطبت الإفقــــار المنظم، ولم تعالج مسألــة الفساد، ولا مجانية التعليم والعلاج ولا قضــايا الإصلاح الإداري ومشكـلات المفصولين تعسفيـاً ولا آليـات ضمـان إسـتقلال القضـاء حـيث تركت هذه الأمـور لجهد الشريكين أو لمفوضيات لاحول لهــا ولاقـوة. وبكـل أسف لم تكن للحركـــة الدرايــة الكافيـة للمطالبـة بأن يكون لحكومـة الوحدة الوطنيـة بيان وزاري يشكل برنامجهـا ويعرض بعد إتفاق الشـريكين عليـه على البرلمـان المزعوم للإجازة ليصبح برنامجاً مجازاً وملزماً. ولهذا كان من الطبيعي أن تجد نفسها تنفذ برنامج حكومة المؤتمر الوطني دون زيادة أو نقصان.

د. راهـن المؤتمـر الوطني منذ البدايــة على غموض الإتفاقيــة والتزاوج غـير الصحي بـين نقيضين (الدولـة العلمانيـة والدولـة الدينية) مع غياب برنامج حكومي ملزم حال و آني التطبيق، بالإضافة إلى دائرة الفساد المرعبـة التي خلقتها دولـة الإنقاذ، وضعف خبرة الحركة في الحكم بشكل عام وإنعدامها في الحكـم المـركزي، مع أغلبيـــة مريحــة في البرلمانـات المزعومــة، لينـتقل من إقصــاء الحركــة ومحاربتها إلى إستيعابها وإحتوائها والعبث بوحدتها ومن ثم إفقاد المواطن الثقـة فيها بإفراغ الإتفاقيـة من جوانبها الإيجابية تمهيداً للنكوص عنها.

هـ. نجـاح المؤتمر الوطني في إقنــاع الحركـــة الشعبيــــة والمجتمع الدولي بأنـــه الوحيد القادر على توقيع نيفاشا وتنفيذها، مما جعـل الحركــة تدير ظهـرها لحلفائهـا في التجمـع وتصـدر تصريحات من بعض قيادييهـا برفـض التحـالف معهم في الإنتخابات النقابيــــة ( إتحـاد المحامين كمثال). فالحركـــة توهمـت أن إطـلاق يدها جزئيــاً بالجنوب، مؤشـراً يسمــح للجـنوبيين لاحقـاً بممارســة خيـــارهم في الإنفصـــال، وأن المؤتمر الوطني جــاد في تطبيق الإتفاقيـــة في هذا الجانب لـذا آثرت عدم إستفزازه في قضــايا تهــم الشمــال بالأســـاس تحــت دعــاوى أنه ليـس المطلــوب منها أن تناضل نيابـــة عن الشماليين. ولكنها نســيت أنهـا لديهـا إتفاقيـــات مع قوى التجمـع الوطني سابقــــة لنيفاشـــا للنضــــال معـــاً مـن أجــل ســـودان جــديد حــر وديمقــراطي، كمــا أنها نســيت أن النضـال من أجـل التحـول الديمقــراطي هو شــرط تطــبيق الإتفــاقيــة التي لـن يطبقـهــا المؤتمــر الوطــني إلا تحــت ضغـــط جمــاهــيري شمالي وجـنوبي فاعـل، ولــيس بموجب ضغــط دولي تســعى إليـــه الحركــة ويعــرف المؤتمــر الوطــني سقــوفـه وحدوده. ويبدو أن الحركـة قد فات عليها أن عدم تطبيق المؤتمر الوطني لماهو أقل من الإستفتاء للإنفصال، مؤشر لحتمية عدم تطبيقه للإستفتاء.

ح. أخطــأت قوى التجمع الوطني الديمقراطي، حين روجت لإتفاقيـــة نيفاشا بإعتبارها وثيقـة للتحول الديمقـراطي، وذلك لأن الوثيقــة لاتجاوز حالــة كونها أداة لخلق إنفراجـة وهامش ديمقـراطي يسمـح بنضال أوسع من أجل التحــول الديمقراطي، نتجت عن صفقـة بين شريكين وفقاً لتوازن القوى بينهما وشـروط المجتمع الدولي. فهي قد حافظت على الدولــة الدينية في الشمال، وأعطت المؤتمر الوطني اليد العليا في الحكومــة والبرلمانات الوهميــة، ولم تضع آلية فاعلــة لإستقلال القضـاء بوصفه شرطاً أســاسياً للتحـول الديمقـراطي. ولانظن بأن نصها على الإنتخابات المزمع عقدها يخرجها من تصنيفنا لهـــا كمجرد أداة إنفراج ناتجـــة عن صفقـة، وذلك لأن هذه الإنتخابـات تتـم في ظــل دســتور غـــير ديمقراطي كرس الدولة الدينية في الشمال، كما أنها مرهونة بإرادة الشريكين اللذين يستطيعان إلغائها وفقـاً لمشيئتهمـا المشتركـة إذا فضلا إستمرار شراكتهمـا دون هزات محتملـة فيمـاإذا تمـت إنتخـابات نزيهــة إستعدت لهـا كل القوى.لذلك كان على قـوى التجمع الوطني الديمقراطي، أن تنـأى بنفسها عن تسويق الإتفاقية كوثيقة للتحول الديمقراطي، وأن تناضل من أجل سقف أعلى يضمن تحولاً ديمقراطياً حقيقياً من خارج مؤسســات نيفاشــا وليس من داخلهــا. فدخـول هـذه المؤسســات حتى وإن كـان مـن مواقع المعارضــة في البرلمــانات كمــا فعل الحزب الشيوعي، كان خطـأً جسيماً جعل من هذه القوى جزءً من تطــبيق الإتفاقيـــة، وتضــلـيلاً للقــوى المعنيـــة بالإصــلاح الديمقراطي الفعـــلي، وإهـداراً لجـهد كبير في مؤسسات غير ديمقراطية لانفع فيها.

ط. أخطـأت قـــــوى التجمـع الوطني الديمقراطي حين اعتـبرت أن تجـاوز الحركــة للتجمـع وقبـــول المفاوضـــات الفردية وصولاً لتوقيع إتفاقية منفردة، أمراً طارئاً نتيجة لتوازن الضعف بينها وشريكها وتدخل وضغـوط المجتمع الدولي، فممارسات الحركـة بعد الوصول للسلطـة توضـح أن هنـاك تيـاراً سائداً يعالج المسألـة السودانيـة وفقاً لمفهوم جنوب/شمال لابإعتبارها أزمة كل السودانيين في مواجهة نخبـة الرأسمال الطفيـلي الحاكمـة. لذلك كان من الخطـأ التعامـل مع الحركـة بإعتبارها فصـيل مـعني بقضايا قوميـة وتأجيل الصراع معها حول قضايا الديمقراطية وإنقاذ الوطن بوصفها شريك أصيل في السلطة.يلاحظ أن جميع القوى السياسيــة المعارضـــة ليس لها تقييم علمي للحركة الشعبية التي ألغت برنامجها الإستراتيجي (المانفستو) منذ العام 1995 وبشرت ببرنامج جديد لم ير النور حتى تاريخه، وتعاملت مع مقررات أسمـرا كبرنامج مرحلي سرعان ماتخلت عنه لمصلحـة نيفاشا المقدســـة لديها، وهي أيضاً لا تمتلك برنامج لحكومـة مركزيـة، وأضعف من أن تسيطر على الجـنوب وتنجز برنامج تنموي به، كما أنها تحتوي على تركيبة إجتماعية معقدة قابلة للإنفجار.

ي. أخطأت قوى التجمع الوطني- وخصوصاً الحزب الشـيوعي السوداني الذي أطلق المصطلح- حين بنــت حساباتهـا على ما أسمتــه توازن الضعف دون أن تحسـب مســتوى هـذا الضـعف وتصـــل إلى أن ضمـن هذا التوازن المحكـوم بمتغــير دولي، يظـل المؤتمـر الوطــني أقوى من الحـركـة الشعبيــة وقوى المعارضــة المشتتـــة وغيـر الموحــدة. والغريب في الأمــر أن هـذه القـــوى ركـنت إلى هــذا التحـــليل الصحيح في عمومياتـــه في لحظــة تاريخيـة سابقة، دون أن يكون لها تقييم لإنقسام الجبهة الإسلاميــة أسـبابــه ونتـائجـه ومآلاتــه، مـثلمـا أن الحـركــة الشعبيـــة تـركــن إلـى المـجتمع الـدولي متناسيــة أهميـــــة المؤتمــر الوطني في حرب الولايات المتحدة على التنظيمات الإسلامية الأصولية وفي تطبـيق روشتـة صـندوق النقـد الدولي والمؤسسات الماليـة الدولية داخلياً بعنف وإقتدار وشراسة غير مسبوقــة. فالعامل الدولي المؤثر بالفعـل، لايدفع في إتجــاه إسقــاط المؤتمر الوطني بل في إتجاه الضغط عليه لتنفيذ ماتبقى من أجندة تخدم الجهات الخارجيـــة المعنيــة، لم ينفذها الحزب الحاكم حتى الآن، وتعـتقد تلك الجهـات – وهي محقــة في ذلك- أنه ليـس هنـالك من هو أقدر منه على تنفيذها.

لماتقدم من أسبـاب وأخرى غـيرها لايمكن أن نحصرها في هذه العجالـة، جاءت الأزمـة الراهنـة بين شريكي نيفاشـا كمحصلـة طبيعية لبداية وحسابات خاطئة، مما يبشر بحدوث أزمات أعمق لاحقاً. ففي تقديرنا أن هذه الأزمـة سوف تسفر عن إصلاحات شكليـة لإعادة الحركـة الشعبية لمقاعدها بالحكومة المركزيــة، توطئـة لإنجـاز التحالف الإنتخـابي المرغوب دوليــاً لخوض الإنتخابات القادمــة، والذي يتكون من المؤتمر الوطني والحركـة الشعبيــة وجبهـة الشرق وحركات دارفور بعد إدخالها طوعاً أو كرهاً في إتفاقيــة مهندســة دولياً، وهو تحالف سيكون شعاره حكومـة منتخبة تنفذ الإتفاقيات المبرمة، وأداته تخويف القوى الموقعـة على الإتفاقيات بأن قوى المعارضة غير معنية بتطبيق الإتفاقيات لأنها ليست طرفاً فيها، وأنها لاتستطيع التنفيذ حتى وإن رغبت لضعفها.

10/ في قضية التحالفات أورد المشروع ملاحظة مهمة حول رغبة القوى التقليدية في خفض سقف التحالف ، وفي تقديرنا أن هذا يستلزم وجود تحالف أقوى وأعمق يشكل نواة صلبة لقوى راغبة في رفع السقف، دون أن يمنع تكوين تحالف الواسع المطلوب. ولأننا سبق لنا مناقشة هذا الموضوع، وبرغم حدوث بعض المتغيرات، نفضل أن نثبت نقاشنا بصورته المكتوبة قبل عامين فيمايلي:-
مسائل لا تحتمل التأجيل
التحالفات وقضايا المشاركة في السلطة

أفرزت اتفاقيـــة نيفاشـــا- واقعا في غايـة التعقـيد و خارطة سياسية لايجوز التعامـل معها على أساس القاعدة المزمنـة في السياســة السودانيــة المعروفـــة ب(رزق اليوم باليوم). فسياســـة اهتبال الفرص وردود الأفعـــال و اجترار المرارات ولعـن الظلام مع ممارسـة الكسل الذهني، لن تقود إلا لمزيد من الهزائم و ســوف تكرس تمزيق الوطن كنتيجــة حتميـة لا يمكن تفاديها. وقبل أن نخوض في مناقشـة قضايا التحالفــات والمشاركة في السلطة، دعونا نقرر بأن الخوض في مثل هذه القضايا يشبه الرقص على الحبـــال في غيــاب تــام لأي شبكة أمان تعزز احتمالات الحياة حتى في حالة السقوط العمودي. فالقوى الســياسيــة بمجملها وبلا استثنــاء منهكة وتعاني من عدم الوضوح التام في خطابها السياسي، ومعظمهــا يلهث لهــاثا مريرا لمتابعــة الحدث الســياسي وأخرى اعتصمت بالصـمت احتراما لعــقل المـواطن الســوداني أو تآمــرا عليـه. لذلك تصبح القراءة الدقيقة للخط السياسي لكثير من القوى أمرا مستعصيا تحول دونه خطوب.
وبالرغم من إدراكنا لما تقدم، إلا أننا نرى ضرورة ملحة للمغامرة بتحديد قضايا التحالفات والمشاركة في السلطة لأن الصمت لم يعد مقبولا ولاممكنا. ونوجز هذه القضايا فيما يلي:


أولا: نموذج الدولة(دولة دينية أم علمانية)

لعلـه من المفيد أن نبتدر مناقشة هذه القضية بالتأكيد على خطأ من يتوهم بأن السقوط المريع لما سمي بالمشــروع الحضاري يعني ضربة قاصمة ونهائية لدعاة الدولة الدينيــة. فالدولة الدينية وان كانت قد تعرضــت لهزة كبيرة بسبب فشــل المشروع، إلا أنها لم تهزم. فهي مــازالت عقبـــة كأداء في طريق التطور السوداني ، ويؤكد ذلك مايلي:

1. اعتراف اتفاق نيفاشا الهجين بدولة دينية في شمال السودان عبر النصوص المعالجة لمصادر التشريع وبالتالي توفير غطاء يسمح بتحويل فهم السلطة للشريعة الإسلامية لشكل يكرس لآيدلوجيا السلطة البقاء في مواقع الهجوم حتى بعد أن أصبحت السلطة بوصفها سلطة في
مواقع الدفاع.
2. وجود نماذج أخرى للدولة الدينية تطرح من مواقع أكثر أصولية مثل نموذج أنصار السنة أو من مواقع تتدثر بدثار ديمقراطي ليبرالي مثل نموذج حزب الأمة جناح الإمام الصادق.


3. سيادة مناخ غير ديمقراطي مؤسس على هوس نشرته السلطة مازال يبيض و يفرخ عززته الهجمة الشرسة على التعليم التي أفرغت المناهج من محتواها وكرست للجهل وغيبت العقل
النقدي.

4. بناء نظام اقتصادي مؤدلج يعزز فهم السلطة ويشوه المفاهيم ويربط الحياة بأنماطه المعززة
بفساد مؤسسي.


5. القول بسقوط المشروع الحضاري نفسه محل جدل من أصحابه، إذ أنه مبني على معيار موضوعي هو فشل المشروع في معالجة قضايا المواطن السوداني، في حين أن معيار أهل المشروع ذاتي مبني على مدى ماتحقق لهم وللطبقة الاجتماعية التي يمثلونها من نجاحات.
وهم بلاشك يستطيعون إحصاء الكثير من النجاحات وفقا لهذا المعيار.

ماتقدم أعلاه يؤكد أن الصراع مع نموذج الدولــة الدينيـة، لن يحسم قريبا، وأنه سيحتاج لنضال طويل ومعقد يستلزم انجــاز تحالفات إستراتيجيــة مع القوى المهمومة حقيقـة بهزيمة الدولة الدينية و إنشاء دولــة علمانيــة ديمقراطيـة بدلا عنها.فبالرغم من أننا قد قابلنا بين الدولتين الدينية و العلمانية، إلا أننا ندرك بأن وصف الدولة العلمانية بالديمقراطية مهم حتى لايفهم من حديثنا دعوة لتحالفات تنجز دولـة علمانية مستبدة. فالمقابلــة القصد منها تأكيد أن الدولــة الديمقراطيــة علمانية بالضرورة، وأن الدولـة الدينيـــة نقيضها بلا جدال. بهذا الفهم يصبح التحــالف الاستراتيجي بين القوى الحريصة على نموذج دولة علماني ديمقراطي أمرا لامناص منه.ولكن كيف السبيل لتحديد مثل هذه القوى؟
يجــب في البدء الركون لبرامــج القوى السياسيــة المختلفة ومن ثم تحليل المحتوى الطبقي لكل تنظيم لتحديد مدى انسجــام رؤاه المطروحـة مع مصالح الطبقـة التي يمثلها من عدمه، للحكم على مصداقية موقفـه. وبتطبيق هذه القاعدة على الحزب الشيوعي مثلا بوصفه حزب الطبقة العاملة، وعلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بوصفها جبهة واسعة لمسحوقي الجنوب، وعلي مؤتمر البجا وحركة تحرير دارفور وجميــع الحركــات الممثلــة للمناطق المهمشــة، وكذلك على تنظيمات البرجوازيـة الصغيرة والأحــزاب الجنوبيـــة والقــوى الطارحــة لشعــار وحـدة قـوى اليسار ، نجد أن مقومـــات التحــالف الاستراتيجي للنضال المستمر والدءوب من أجل تحقيق نموذج الدولة العلمانية الديمقراطية متوفرة.

ولكــن للوصـــول إلي لحظــة تاريخيــة يصبح فيها هذا التحالف قـادرا ولوحده انجاز مهامه، لابد من التعاطي مع قوى تؤكد وقوفهـــا مع الدولـة الديمقراطية من مواقع معسكر الدولـة الدينية بغض النظر عن مصداقيتها من عدمهــا، باعتبار إمكانيــة انجــاز تحــالف تكتيكي معها استنادا إلى قضايا أساسية تخص التحــول الديمقراطي في ظــل السقوف التي حددتها نيفاشا ومدى إمكانية تجاوزها. ومثال لهذه القوى حزب الأمــة جنــاح الإمام و الحزب الاتحـــادي جنــاح الميرغني. والمفارقـة هي أن السقوف الموضوعــة للحركــة الشعبيــة بموجب نيفاشا، تظهرها أقل التزاما من أطراف التحالف التكتيكي من حيث الموقف من الديمقراطيـة. ولكن القراءة المتأنية لموقفها الاستراتيجي وطبيعة القوى التي تمثلها، يجعل التحــالف الاستراتيجي معها أمرا حتميـا مع إدراك تام لتعقد موقفها ودون رهان مبالغ فيه على مصداقيتها وقدراتها. ومن المهم جدا التأكيد على أن التحالف الاستراتيجي، يجب أن تقدم دواعيه على دواعي التحالفات التكتيكية عند التعارض، وأن يعامل كنواة صلبة لأي عمل تحالفي واسع لانجاز برنامج حد أدنى.

ثانيا: الفقر وقضايا التنمية:

من المفهوم أن أصعب قضايا السياســة السودانيـــة ، قضية البرنامج الاقتصادي القادر على انتشال الإنسان السوداني من حالة الفقر المدقع الراهنة والانتقال به لآفاق تنمية مستدامة يتم عبرها تكريس حالة طلاق بائن بينونة كبرى بين إنسان السودان والفقر. والواضح هو افتقار جميع القوى السياسية الحية لمثل هذا البرنامج المتكامل. ولاشك في أن غيـاب مثل هذا البرنامج المتكامـل، يجعل الحديث عن تحالفات إستراتيجية أمرا فيه الكثير من التعسف. ولكننا نرى أن هنالك ملامح أساسية لمثل هذا البرنامج نلخصها فيما يلي:

a) ضرب رأس المال الطفيلي وتصفية مواقعه والتخلص من آثاره الاقتصادية السالبة بما فيها ثقافة النهب والارتزاق وتهديم البني المنتجة.

b) إنشاء قطاع عام رائد بالفعل يستمد ريادته من نشاطه الإنتاجي الفاعل لا من إجراءات إدارية
مع تفعيل دورالقطاع الخاص المنتج.

c) خلق مجتمع زراعي صناعي متطور مع مراعاة شروط التمويل والظروف الإقليمية والدولية
المحيطة.

d) تطوير القطاع الخدمي بحيث لايتضخم على حساب البنية الإنتاجية.


e) قراءة القوانين الاقتصادية في سياق اجتماعي بحيث تجير و باستمرار لتوظيف الموارد
لمصلحة الشعب.

f) نشر الديمقراطية في مواقع الإنتاج وإشراك القوى ذات المصلحة في الرقابة.


وبالنظر إلي هــذه الملامح، يتضـــح أن القوى ذات المصلحـة في انجاز تحالف استراتيجي، هي نفس قوى التحــالف الاستراتيجي المــنوه عنها سابقا. ولتعزر فرض مثل هذا البرنامج على هذه القوى قبل أن تتبناه فرادى، يصــبح لامناص من البحــث عن برنامج حد أدنى تتوحد حوله القوى ذات المصلحة في التغيير في الوقت الراهن، نلخص أبرز ملامحه فيما يلي:

1. وقف برنامج النهب الاقتصادي المسمى الخصخصة واستعادة الأموال المنهوبة مع تفعيل مبدأ المحاسبة.

2. ضبط وحصر جميع الموارد بما فيها عائدات البترول وإدخالها الميزانية.


3. إلغاء الجبايات المتعسفة ورفع العبء عن كاهل المنتج.

4. إعادة النظر في صيغ تمويل العمليات الإنتاجية المسماة إسلامية وتفعيل دور الدولة في دعم المنتج.


5. الرقابة اللصيقة على عمليات إعادة التعمير.

6. تشجيع الاستثمار عبر محاصرة الفساد وتسهيل الإجراءات مع توفير البني التحتية اللازمة.


7. كسر احتكار تجارة الصادر والوارد للمحاسيب مع إيقاف النشاطات التجارية لأجهزة الدولة
وتصفية نهج تحويل جهاز الدولة لتاجر وسمسار.

لاشــك في أن البرنــامج أعــــلاه من الممــكن أن يجمع قوى واسعــــة يصبح الأمر الحاسم في تحديد مصداقيتهــا وانتمائهـــا تكييف مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها كما أسلفنا، وهو أمر يحدد بشكل حاســم مــدى التزامها بتنفيذ البرنامج من عدمـه. وقي تقديرنا أن هذا البرنامج العاجل، من الممكن أن يجمـــع كل القوى السياسية ماعدا المؤتمر الوطني باعتباره الممثل الأساسي للرأسمال الطفيلي.
ولكن من المهم أن ننوه إلي أن الاتفاق على هذا البرنامج، لايجب أن يؤخذ بمعزل عن الموقف من الديمقراطية ونموذج الدولة وقضايا التحول الديمقراطي في حال الرغبة في الدخول في أي تحالف، باعتبار أن التحول الديمقراطي شرط أساسي لانجازه.

ثالثا: الموقف من الاستعمار وأثره على السياسة الداخلية والخارجية:

لاسبيل لتجاهل العامل الدولي ذو الحضــور الكثــيف والحاسم في قضايا شعبنا التي تم تدويلها كنتيجة حتميــة للمشروع الحضــاري قصير النظر والذي لايدرك طبيعة المتغيرات بالساحة الدولية. وبالتالي لامنـاص من النظر في مدى قرب وبعد القوى المعنية من الاستعمار لتحديد مدى مصداقية موقفها من القضــايا المنوه عنهــا أعــلاه أولا، ومدى قدرتهــا على الالتزام بتنفيذه ثانيا. فممالاشك فيه أن النفـوذ الاستعماري بعامة والأمريكي بخاصة، أصبح ذو أثر حاسم في قضايا السودان المصيرية. ومن المهم أن نشير إلي أن استخدامنا للفظ الاستعمار بدلا من الامبرياليــة سببه أن الامبرياليـة لم تعد تتحرج من استخــدام أســاليب الاستعمــار التقليدي والقيـــام باستعمــار البلدان بعمل عسكـري مباشر مثلما حدث بالعراق.و مانود أن نؤكده هو أن الامبريالية لم تغير موقفها ولم تصبح راغبة في نشر الديمقراطية كمــا تزعم،فهي أصبحــت أكثر شراســة وشــرها، مما يجعل الوصــول معها إلي صفقة عادلة أمرا مستــحيلا. فمن يبني سياستــه على المصالح يستطيع تقديم التنازلات، ولكن من يبنيها على الـشره لاسبيل للتفاوض معه لأنه لن يرضى بأقل من الخضوع الكامل لرغباته. لذلك يجب أن نفرق بين من يتعامــل مع المستعمــر كأمــر واقــع، وبين من يتعاون معه. فالتعامل بالحتم غير التعاون. والجدير بالذكر أن التقاطــع الشكــلي أحيــانا بين مصــالح شعبنــا وموقف الاستعمار في قضايا بعينها، لايعدو مستوي الشكل ليصل الجوهر. وذلك لأن جوهر موقف المستعمر هو الرغبة في استغلال شعبنا. وبما أن هنالك قوى سودانية ترى إمكانية انجاز تحالفات إستراتيجية مع المستعمر، وأخرى ترى إمكانية التحالف المرحلي معه، وثالثة ترى إمكانية التنسيق معه حول بعض القضايا، ورابعـة لاترى ضيرا في أن يمولهــا وأن تقوم حتى بالتخابر لمصلحتــه، يصبـح لزاما على القوى الوطنيـــة تحديد موقف واضح من مسألة التعاون مع المستعمر، ورفض التحالف مع القوى التي رهنت قرارها له حتى وان اتفقت معها حول القضايا البرنامجية آنفة الذكر.

وذلك لأن التحــالف مع مثل هذه القوى،يعني خضوعا غير مباشر لإرادة المستعمر، وإهدارا لجهـد كبير في التصدي لمناورات القوى الحليفة له، بدلا من تجيير هذه الجهود للبناء في كافة الجبهـات. إذ أنه من المستــحيل الاتفاق على سياســة خارجيــة متوازنة ومستقلــة مع مثل هذا الحليف، مثل استحالة الدفاع عن السيادة الوطنية في ظل هكذا تحالف.

يلاحظ القارئ لما تقدم، أن هنالك الكثير الذي لم يقل، كما أن التحليل غير شامل، وهذا القصور ناتج عن ســببين هما: تعقيد الموقف آنف الذكر مع ضيق الوقت المتاح لإعداد هذه المساهمة العجلى.

ولكن ذلك لايمنع من التنويه إلي أن التحالفات المنوه عنها أعلاه حتى وان تكامــلت شروطهـا الواردة بالسطور السابقة، سوف يكون مصيرها الفشل مالم تراع مايلي:
1. اتخاذ شــــــــكل تنظيمي واضح لــه لوائح تحــــدد الحقوق والواجبات وكيفيـة إدارة الصراع بين الأطراف.

2. حد أدني من الوحدة الفكرية.


3. عدم تغليب مقتضيات الوحدة على الصراع.

4. الجماهيرية وانتهاج مبدأ الشفافية.


5. الواقعية والفاعلية التنظيمية.

6. الخطاب السياسي الموحد البسيط والمفهوم لشعبنا مع الإمساك الجيد بقضايا الجماهير.


خلاصة الأمر هي أن التحالف المنجز وفقا لما تقدم، يستطيع أن يصل السلطـة منفردا، أو أن يشارك قــوى أخرى تتفق معــه على الأقل على الدولـة الديمقراطية التي اصطلح في السياسة السودانية على تسميتها بالدولــة المدنيـــة، ولكن ليس من المنطقي أن يشـــارك في سلطــة يكرس اتفاقهـا المنشئ ودستورها وجود دولــة دينيــة في شمـال السودان. فإذا كانت الظروف الدولية والإقليمية وظروف الحركــة الشعبيـة الداخلية قد أجبرت الحركة على الدخول في شراكة مع ممثل الدولة الدينية حررت جنوب البلاد من قبضـة الهوس الديني وحققت مكاسب له، فليس هنالك مايبرر مشاركة قوى الدولة العلمانيــة الديمقراطية في مثل هكذا سلطة. يضاف إلى ذلك غياب الأساس الاقتصادي وبرنامج حد أدنى للحكومة يمكن الإتفاق عليه مع ممثلي رأس المال الطفيلي.



ماورد أعلاه يثير قضايا عدة ، من أهمها مشاركة الحزب في برلمانات مابعد نيفاشا والتي أتت عبر إتفاقيــة القاهرة للإلتحاق بركب نيفاشا من مواقع متأخرة، وهي مشاركة آثر المشروع عدم الخوض في الـجدل الــدائر حولها دون أن يوضح لماذا تم إعتبار هذه المسألــة الملحة والحساسة خارج إطار قضايا الساحة السياسية الراهنة. وبما أننا كنا قد تقدمنا بمساهمة سابقة حول هذه المسألة، فإننـا نرى أن إثباتها كماهي فيمايلي أمرا ملحا وواجبا:-

رؤية نقدية

حول مشاركة الحزب في المؤسسة التشريعية الراهنة


وددت لو أن مساهمتي المتواضعـــة التاليـــة قد جاءت قبل أن يتخذ الحـزب قــــرارا بالمشـاركـة في المؤسسات التشريعيــة التي سوف تؤسس وفقا للدستور الحالي الخارج من رحم إتفاقية نيفاشا، علهـا تفيد في إتخاذ الموقف الصحيح.ولكن حدث ماحدث دون أن تتاح لنا فرصة المشاركـة وإبداء وجهــة النظر. وبما أنني أؤمن بأن باب المناقشة لمثل هذه القضايا يظل دائما مفتوحا، وأن مراجعة القرارات يظل دائما مفتوحـــا بإمتداد يصل حد التراجع والإلغاء مع النقد العلني والجماهيري للموقف الخاطئ، لذا لاأرى أن الوقت قد تأخر للتقدم بمثل مساهمة كهذه.
دعوني في البدء أؤكد بأن قرار المشاركة المذكور يمثل خطأ تاريخيا قاتلا، وذلك لمايلي من أسباب:

أ. تنص المادة 5(1) من الدستور الإنتقالي على مايلي:"تكون الشريعــة الإسلاميـة والإجماع مصدرا للتشريعات التي تســن على المســـتوى القومي وتطبق على ولايـــات شمال السودان". وهذا يعني أن الشريعــة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع في الولايات الشمالية حين التشريع لها على مستوى قومي. ولايقدح في أحاديـــة هذا المصدر ذكــر الإجمـــاع، إذ أن الإجمــاع هو أحد مصـادر التشريع الإسلامي بحيث يندغم في المصدر المذكور ويذوب تماما. ويؤكد ذلك أن النص أشار إلى أن الشريعة والإجماع يشكلان معا "مصدرا" وليس "مصادرا" للتشريعات. ,معنى ذلك أن المبادرة التشريعية في الولايات الشمالية سقفها هو الشريعة الإسلامية، أي أن أي مشروع قانون يتقدم به كائنا من كان يتعين أن يكون مصدره الشريعــة الإسلامية وأن يكون متوافقا معها. ووفقا لذلك يجب أن تكون كل مشاريع القوانين التي سوف يتقدم بها الحزب-إن وجدت- مشاريعــا إسلاميـة تتطابق مع هذا المصدر الوحيد وإلا أصبحـت غير دستوريــة. وينسحب ذلك على مناقشــة التشــريعات والإعــتراض عليهــا، إذ أن المشاريع التي تقدمها الحزب الحاكم بالتوافق مع الشريعة الإسلامية، يصبح نقدها والإعتراض عليها بأسانيد تتعــارض ومصدر التشريع الوحـــيد إعتراضـا غير دستوري. بمعنى أن معارضتها يجب أن تكون مستندة إلى الشرع الحنيف. وهذا بالطبع يحول الحزب إلى مجرد فقيه تنقصه العمامة في القرن الحادي والعشرين!!!

ب. المؤسسات التشريعيــة المزعومــــة تستمد شرعيتها من دستور منحــة، منحتــه الحركة الشعبيـة والحزب الحاكم للشعب السوداني، وهو بالتالي أتى بسبيل غير ديمقراطى ولذلك كرس الدولة الدينيـة في شمال السودان وزاوج لأول مرة في تاريخ الفقه الدستوري بين الدولة الدينية والدولة المدنية تحت سقف دولـــــــة موحـدة نظريا!!! ونتيجة لذلك يلتحق الحزب بركب هذه المؤسسات من مواقع شديدة التخلف. فهو لم يكن طرفا في ماشاكوس ولا نيفاشا ولاحتى بشكل فاعل في صياغة الدستور المـاثل، بناءا على توازن القوى الذي أنتج الوضع الراهن والذي يحلو للحزب تسميته توازن الضعف، والذي قنن إستبعاده كأمر واقعي. وهذا يعني أن السقوف المتاحة لنشاط الحزب داخل المؤسسات التشريعية محدودة ومساحة المناورة شبــه معدومة، فوق أن هذه البرلمانات الرجعية تلك هي برلمانات دينيـــة خالصة بحكم الدستور الذي تكتسب منه شرعيتها.
ج. أحادية مصدر التشريع بالإضافة لتوازن القوى وهيمنة المؤتمر الوطني على النشاط الإعلامي مع إمتلاكه لأغلبية مريحة تمكنه من سن أية تشريعات دينية يرغب بها، تجعل مشاركة الحزب ديكورية وعديمة الفائدة.

د. الزعم بأن تواجد الحزب بتلك المؤسســــات سوف يدعم نشاطـــه الجماهيري خاطئ، فعلى العكس وجوده الديكوري سوف يضر كثيرا بنضاله الجماهيري. فعملية التشريع لن تكون عمليـة سرية، ونقد وفضح مشاريع التشريعات من خارج المؤسسات سوف يكون أجدى لأنه غير محدود بسقف المصدر الوحيد (الشريعة الإسلامية).

هـ.إذا سلمنا جدلا بصحـــــة مبدأ المشاركـــة – ونحن لانسلم بذلك عملا، فإن إختيــار ممثلي الحزب بالبرلمان الإتحادي لم يكن موفقا-مع إحترامنا وتقديرنا الجم للرفاق الذين تم إختيارهم- وذلك لمــايلي من أسباب:

1.. لم يراع الحزب مسألة السن بالنسبة للزميلين سليمان وفاطمة، إذ أن ترشيحمهما يحرم الحزب من تدريب كادر شاب يستفيد من وجوده في برلمانات مستقبلية-إن وجدت فوجودها غير مؤكد.


2. لم يراع الحزب الظروف الصحية للزميلين العزيزين والتي قد تقعدهما عن المشاركة الفاعلــة في عمل المؤسســة التشريعيــــة المعنيـة، والتي يتوقع أن يكون العمل فيها مرهقا وسط خارطة سياسيـة شديدة التعقيد.

ج. تم تجاهل حاجـــــة الحزب لجهد الزميلين في عمله الداخلي وهو في مرحلة حرجة تحتاج لمجهود وخبرة الزميلين في العمل الداخلي،وخصوصا جهد الزميل سليمان. ولا أظن أن التبرير الذي تقدم بـه الزميل السكرتير الســـياسي للصحف حول وجود تقليد بتقديم كادر بعينه للعمل البرلماني بعد سنوات العمل السري يصلح للتطبيق على الزميل سليمان لأسباب معروفة.

ماتقدم هو مجرد وجهــــة نظر صيغت على عجل، وبالتالي ينقصهــا الشمول والإحاطة. ولكنها تكفي لأن أدعو الحزب لمراجعة موقفـــه من المشاركــة في المؤسسات التشريعيـــة التي تناسلت من نيفاشا والتي تكرس لدولـة دينية في الشمال، حيث أن أبناء الجنوب ليسوا بحاجة لأي جهد لدفع غلواء الدولة الدينيـــة عنهم لأن لجمها قد تم بموجب نصوص دستورية واضحة. وترتيبا على مراجعة الموقف من المشاركة والعدول عنه، أدعو للإنسحاب من البرلمان الإتحادي وتقديم نقد ذاتي جماهيري وعاجل.

11/ تعرض المشروع لمساهمة الحزب في إجتراح حلول مبتكرة بإستخدام منهجه في معالجة الواقع وأشار للحكم الذاتي الإقليمي كواحد منهــا، ولكنـــه بكل أسف لم يوضح الأسباب التي حدت بالحزب للتحول عن هذا الطرح ودعم خيـــــــــار تقرير المصــير. كذلك واصل الحزب دعمه لوحدة السودان كإحدى المسلمات دونما بذل جهد لتوضيح أهمية الوحدة وضرورتها برغم تعرض هذه المسألة للكثير من الهجــوم وظهور حركات إنفصاليــة شماليـة علنيــة لأول مرة. بالإضافة إلى ذلك أغفل المشروع تحديد القوى المطلوب منها جعل الوحــدة جاذبـــة، وبالتالي عفى نفسـه من نقد الحركـة الشعبيــة التي مازالت تتعامل على أن هذا واجب الآخرين وليس واجبها.

12/ تحدث المشروع عن نهضة زراعية صناعية ثقافية شاملة، دون أن يحدد آلياتها، ولاسبل تمويلها في ظل صمت مريب عن دور القطاع العام ارائد وآخر مطبق حول قضايا التمويل.

13/ لم يوضح التقرير كيفية القيام بنضال أكثر راديكاليــة ضد تفاقم شظف العيش، ولاهو أشار لأيــة تدابير مؤقتــة لمواجهة الإفقار المؤسسي لحين الإنتصار على قوى الرأسمال الطفيلي ممايجعل الأمر شعارا خاويا يلحق ببقية الشعارلت غير القابلة للتطبيق في أرض الواقع.

14/ في مسألـــة التعليم يحتاج المشروع للتركيز أكثر على المنــاهج بتحديد عناصــر المنهج العلمي والديمقراطي مع ضـــرورة الإشارة لجانبي التدريب والتربية وعلاقــــة المنهج بالواقع، مع ضرورة إدخال إصلاح مناهج التعليم العالي ضمن المعالجات.

15/ مازال موقف الحزب من الدين يراوح مكانـــه في حدود السياسي وبعــيدا عن الفكري في فصل متعسف بين المستويين. كما أن المشروع لم يزد على النقل من الأدبيات السابقة التي تصر على عدم ترك الدين للرجعيـــة دون أن توضح دور الحزب وهل هو إجتراح لاهوت تحريـر أم محاولــة إيجاد تبرير ديني لنضاله أم الإكتفاء بفضح تدين الرجعية الزائف. وفي تقديرنا أن الوقوف عند هذه المحطة ضار جدا بالحزب وتطوره ممايحتم علينا إثبات مساهمتنا السابقة حول هذه المسألة فيمايلي:-

بالرغم من أن الأستاذ نقد لم يتعرض لقضية الدين في مقالاته، إلا أننا وجدنا أنها أم القضايا التي يجب أن نتصدى لنقـد تعامل الحـزب معهـا. وذلك لأنها أهم القضـــايا التي تؤكد اكتفاء الحزب بالسياسي و الأبتعـاد عن البعد النظري للموقف السياسي، علما بأن الدين كان و ما يزال و سيظل لفترات قادمــــة حاضرا و بقوة في السياسة السودانية. وهذا يعني أن الحزب مطالب عاجلا بأن يوضح موقفه الفكري و ليس السياسي فقط من الدين. و في تقديرنا أن الحزب و منذ تأسيسه، قد اتخذ موقفا سياسيا صحيحا من الدين، ولكنه تعمد الفشل في توضيح البعد الفكري لموقفه عبر ممايزة موقفه الفكري عن الموقف الشخصي لكارل ماركس و بعض التيارات الماركسية. فالحزب كان و ما يزال يعتقد أن الدين علاقة خاصــــة بين العبد وربه لا يجوز للدولــــة أن تتدخل فيها، وكذلك لا يجوز للمؤمن أن يعمم علاقتــه الخاصـــة تلك على الدولــــة و يفرضها على الآخرين، و يلخص ذلك في مطالبتـــه بفصل الدين عن السياســة.صحيح أن الحزب طوال تاريخــه لم ينادي في يوم من الأيام بالإلحاد ولم يطالب أحدا بترك دينــه، ولكنه لم يتكرم بتوضيح علاقة هذا الموقف بالماركسية التي يعتبرها هاديا ومرشدا لنضاله.
في تقديرنا أن الحزب قد فهم الماركسيــة باعتبارها علما من العلوم يدرس ظواهرا ماديـة مثلــه مثل سائر العلوم الأخرى، يميـزها عن تلك العلــوم أنها علم يدرس المجتمع من منظــور معــين. وبمــا أن العلوم الأجتماعيــة والتطبيقيــة لاتستطيع دراسة الظواهر غير المادية (المادة بالمفهوم الفلسفي)، فان هذه الظواهـر تصبح خارج نطـاق العلم و موضوعاتـــه.و بما أن الإله وهو مركز أي تصور ديني لا يصح اعتباره ظاهرة ماديــة وأن اعتباره كذلك هو الكفر بعينــــه، يجب الفصــل بين الديني و العلمي باعتبار أن لكل منهما مجال مختلف. وبالتالي يتم إعمال الماركسيـــــة كأداة لتحليل النشاط الاجتماعي دون أي ادعاء بقدرتها للتمدد خارج إطارها العلمي لمحاكمة المعتقد الديني في إطلاقه. وأن أي تمديد مشابه لنطاق عمل الماركسية هو موقف غير علمي وشخصي . و بهذا يصبح الحاد أي شخص بما في ذلك ماركس نفسه موقف شخصي لا علمي لاستحالة خروج العلم عن إطاره لمحاكمة أمور تخرج عن نطاق نشاطه.ولكن هذا الفصل بين الدين باعتباره أمر شخصي ومعتقدي خارج نطاق الماركسيـــة في حالته الأعتقادية الخالصة، لم يمنع الحزب من تطبيق المنهج الماركسي التاريخي على الدين السياسي. وذلك استنادا إلي حقيقــــــة أن الدين بمجرد دخولــه إلى حلبــة السياسة، يكف عن كونه دين و يتحول لأيدلوجيا سياسية تحمل سمة القوى السياسية التي تختبئ خلف الدين وتتوسل به أهدافا دنيوية.
فشل الحزب في إيصال مفهومــه هذا الذي يشكل جوهر موقفــه من الدين لجماهير شعبنا، شكل أساسا للهجوم البشع على الحزب و اتهامــه بالإلحاد وأن موقفــه الســـياسي مجرد موقف تكتيكي سرعان ما يتحول في حال تحول الحزب لقوة اجتماعية وسياسية كبرى.
وبلاشك الفشل المنوه عنه أعلاه و ليس اسم الحزب كما يتراءى للبعض- وأخشى أن يكون الأستاذ نقد منهم_ هو السبب في نجاح الدعاية المضادة للحزب. فتغيير اسم الحزب لن يحل المشكلة، لأنــــه ببساطة سيصبح (الحزب الشيوعي سابقا) و يلاقي نفس الاتهامات، مالم يعمل الأستاذ نقد و رفاقـــه
على معالجة أزمة الفصل بين السياسي والفكري بعيدا عن التلفيق و الأرجاء.



16/ فوق ذلك كلـــه إكتفى المشروع بالإشــارة لنضالات الحزب في سبيل دولة ديمقراطية تقوم على ســيادة حكم القانون، دون أن يبني ذلك على أساس نظريــة متكاملـة للحزب في هذا الإطار سبق وأن تقدمنا بمساهمة حولها نجملها فيايلي:-

نحو إصلاح قانوني فاعل
مقدمة:
منذ إستقلال بلادنا وهي تعاني أزمــة مزمنــة في بنيتها القانونية التي راوحت بين الإقتراب والإبتعاد عن مفهوم النظام القانوني الحديث، تأسيساً على الحالة السياسية ومدى إقترابها أو بعدها عن طبيعــة الدولة الديمقراطية المبنية على سيادة حكم القانون، بإعتبار التداخل الذي لافكـاك منــه بين التشريعي والسياسي، وبالضرورة الناشئة عن كون الدستور هو الأداة الحاسمة في تحديد طبيعة البنية القانونية من حيث تشكيلها لنظام قانوني حديث من عدمــه. لذلك لامنــاص من القــول بأن وضـع أي تصــور لإصلاح قانوني دون الأخذ في الإعتبار التطور الدستوري السابق وإستصحاب مظاهر الفشــل التي واكبته وإعتبار ذلك شرطاً أساسياً لإصلاح القوانين في إعمال فاعل لمبدأ الدستورية، مصيره الفشل.
وبنظرة عجلى للدساتير التي وضعت لحكم البلاد وتنظيم شئونها إبتداءً بإتفاقية الحكم الثنائي تجاوزا مروراً بدساتير الأعوام 1956 و1964 و1973و1985و1998 وإنتهاءً بالدستور ساري المفعول، نجد أن دولة سيادة حكم القانون قد سجلت حضوراً غير مكتمل في ظل أنظمة الحكم التعددية، وغياباً منطقياً في ظل الأنظمة الشموليـة ونقصاً واضحاً ومريعاً أحياناً في ظل النظم الإنتقاليــــة. إذ أنه من الطبيعي أن يغيب مفهوم المؤسسيــة المنبني علي قاعـدة فصل السلطات عن إتفاقيـــــة الحكم الثنائي المكرسة لسلطات الحاكم العام الإستعمارية وأن تغيب الحقوق والحريات المؤسسة لمبدأ الدستوريــة الذي شكل آخر درجات تطور النظام الديمقراطي بإنتقاله من سيادة البرلمان "Supremacy of the Parliament" إلى نظرية سيادة الدستور "Sovereignty of the Constitution" . ويصبح من المنطقي أن تظهر هذه المبــــادئ على مستوى النصوص في دستور العام 1956 الذي يعتبر دستوراً للإستقلال مع منطقية عدم تجذرها كفكر أو ممارسة، لعدم إستمرارها لأكثر من عامين دخلت بعدهما البلاد في حـــكم عسكري لست سـنوات. كذلك كان من المنطقي أن تعود مع عودة النظام الديمقراطي بعد ثورة أكتوبر في دستور عام 1964 على مستوى النصوص، وأن تفشـل على مستوى الممارســـة الأمر الذي تؤكده قضية حل الحزب الشيوعي الدستورية، والتي فضحت شكلية وجود مبدأ الدستورية الذي أسقطتــه السلطــة التنفيذيــة عبر رفضها تطبيق حكم المحكمة الدستورية، ومعه أسقطت ضمانة أخرى من ضمــانات دولــة ســيادة حكم القانون هي تنفيذ أحــكام القضـــاء. أما دســتور العام 1973 الرئاسي، فقد فضل التحايل على المؤسسيــة ومبدأ الدستوريــة، بإسقاط ضمانـة أخرى من ضمـانات دولـــة سيادة حكم القانون، ألا وهي الحق الدستوري في التقاضي، وبذلك قيض للسلطـــة التنفيذيــــة المسيطرة على الجهــاز التشريعي حينهــا الهيمنــة، بتحصين قراراتهــا بإخراجهـا من دائرة الفحص القضائي بنصوص قانونيــة. وجاء دستور العام 1985 إحتفائياً بمبدأ الدستورية بصفة عامة، وإن لم يستوف شروط المؤسسيـــــــة بإعمال كلي لمبدأ الفصل بين السلطات توافقاً مع طبيعـة المرحلــة في بداياتها، برغم الإستدراك الذي تم بعد إنتخاب الجمعيـــة التأسيسيــــة. ولاشك أن دستور العام 1998 بإعتباره دستوراً لدولــة دينيــة شموليـــة، ماكـان لـــه إلا أن يأتي مفارقاً للحد الأدنى من الدستوريــة والمؤسسيـــة معاً، حيث فضل مشرعـــه المساواة بين الدستور والشريعــة الإسلاميـــة وإعتبارهمــا مصدرين للتشريع، بحيث يكون للمشرع الحق في التشريع وفقاً للشريعــة وبالمخالفـــة للدستور وفقـاً لمبدأ تكافؤ المصادر، وبالتالي تسقط كل الضمانات الدستورية –إن وجدت- بموجب تشريعات لاسبيل للطعن في دستوريتها!!. ولم يكن حظ الدستور الحالي ساري المفعول بأفضل كثيراً من سابقيه برغم نصه على الحقوق والحريات بهدف تكريس مبدأ الدستورية. فواقعة أنه دستور هجين يكرس الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع في الشمال، تؤسس لصدور تشريعات متوافقة مع المصدر ومخالفة لباب الحقوق إستناداً لمبدأ تكافؤ النصوص الدستورية.
بإختصار نستطيع أن نقول بأن دولة سيادة حكم القانون التي تصدر فيها القوانين وهي خاضعة للطعن بعدم دستوريتها والمحصنـــة بحق دستوري في التقاضي لايمكن إسقاطــه بموجب تشريع، في وجود قضاء مستقل يكرس مبدأ الفصل بين السلطـــات، تكون أحكامــه نافذة مع تجريم عدم تنفيذها، لم يكن حظها من الوجود إلا عارضــاً وجزئيــاً في أفضــل الأحوال. وبما أن وجود هذه الدولة يشكل شرطاً أساسياً لحدوث إصلاح جذري في البنية القانونية لتصبح نظاماً قانونياً حديثأ، يصبح من المهم إدراك المعوقات التي تقف أمام إنجاز هذا التحول. ولعله من نافلة القول التذكير بأن دولة سيادة حكم القانون هي إنـتاج برجوازي خالص، وصل قمــة تشكلــه بتكريس مبدأ الدستوريـــة في الولايــات المتــحدة الامريكية. وبما أن بلادنا حكمتها البرجوازية باشكالها المختلفة منذ إستقلالها حتى سقوطها في قبضة الرأسمــال الطفيلي، يصبح لزاماً علينا توضيح التناقض مابين سلوك برجوازيتنــا التي أنتجت الدول الإستبدادية والديكتاتوريات المدنية، وسلوك برجوازية الولايات المتحدة التي أنتجت دولة سيادة حكم القانون أولاً، ومن ثم توضيح كيف تسنى لنا تبني نموذج دولة برجوازية ثانياً.
لاشك أن هنالك عدة أسباب دفعت البرجوازية السودانيـــة للفشل في التبني العملي والصادق لمفهوم دولة القانون، واللجوء إليه حينما يكرس سلطتهــا أو لإستخدامـه كوسيلــــة لإستعادة تلك السلطة عند فقدانها. وهذه الأسباب يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. ضعف البرجوازية السودانية وشبه غياب المستثمرين الصناعيين من بنيتها بحيث يصبح وجودهم غير مؤثر مما يغيب الأداة الحاملة لفكر البرجوازية الصناعية التي انجزت مفهوم
دولة القانون بالولايات المتحدة وكونت قوام الجيش المدافع عنها.
2. عدم قدرة البرجوازية السودانية على تكريس إستغلالها للجموع في ظل قدرة الأخيرة على
التنظيم والرد بل والمبادأة في ظل سيادة حكم القانون.
3. إفتقار البرجوازية السودانية للقدرة على التنظير وتبرير نهبها وسيطرتها على الفائض الإقتصادي حتى ولو بآيدلوجية دينية كالتي تتبناها الإنقاذ حالياً، ممايحتم بناء دولة قاهرة
لتكريس الإستغلال.

4. شراهة الرأسمال الطفيلي وعدم قدرته على المساومة مع المنتجين لأنه خارج العملية الإنتاجية وإفتقاره لأدوات المساومة التي يملكها الرأسمال الصناعي، ممايجبره على اللجوء
للقمع المطلق، لإستحالة تبني سياسة الإحتواء.
5. عجز الرأسمال الطفيلي عن الوفاء بمتطلبات العملية الإنتاجية خصماً على الفوائض التي
يراكمها، ممايحتم قمع التوتر الناتج عن إحتجاج المنتجين.

6. ضعف الرأسمالية الوطنية- التي لها مصلحة حقيقية في وجود دولة ديمقراطية- وعدم قدرتها على تمييز نفسها ناهيك عن التعبير عن مصالحها على مستوى برامجي وفكري، وذلك
لوقوعها تحت سيطرة الرأسمالية الطفيلية وبيروقراطية الدولة.
ماتقدم لايترك أمام البرجوازيـــة السودانيـــــة من سبيل سوى تبني نموذج الدولـة الإستبدادية ومعاداة الدولـــة الديمقراطيــــة التي تكرس ســيادة حكم القانون لأنها تسمح بفضح ومعارضــة دولـــة النهب والجريمـــة المنظمة، ولايقدح في ذلك مناداة بعض ممثليها بضرورة بناء دولة ديمقراطية، لأن سابقة حل الحزب الشيوعي توضح موقفهم الحقيقي عند إحساسهم بالخطر.
وبما أن البرجوازيـــــة السودانيــة بمختلف شرائحها فيما عدا الرأسماليــة الوطنية الواهنة، ليس لديها مصلحــــة في وجود دولـــة ديمقراطية، فهي لن تبذل جهداً حقيقياً في بنائها أو الدفاع عنها والتجارب تؤكد ذلك، وهذا يحتم على القوى الوطنيـــــة والديمقراطيــــة التي تمثل كافة شرائح المجتمع صاحبة المصلحــــــة في التغيير التوحد وإنجاز تحالفــاتها لبناء هذه الدولة.وبالطبع حقيقة أن دولة سيادة حكم القانون منتج برجوازي خاص، لاتمنع القوى الوطنية والديمقراطية من تبنيه لما يلي من أسباب:
1. ليس كل ماهو برجوازي خاطئ ومرزول، فالثورة الصناعية التي أحدثت الإنفجار المعرفي
وكرست نمط إنتاج أرقى بذاتها برجوازية.
2. دولة سيادة حكم القانون (مظهر) ل(جوهر) طبقي برجوازي واكب البرجوازيـــة في لحظــة صعودها عندما كانت تمثل القوى الصاعدة وكل الطبقات الإجتماعيــة المضطهدة حينها، هذا المظهر أصبح متقدماً على جوهره في الولايات المتحدة مثلا بعد ظهور الإمبرياليــــة ورأس المال الإحتكاري الذي ضاق بها ذرعاً وبدأ في إصــدار القوانين الإستبداديــــة كالتي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، وبالتالي تبني القوى الوطنيــــة والديمقراطيــــة لها يغنيها بجوهر طبقي مختلف.
3. تبني الدولة الديمقراطية ليس نهاية المطاف، فإغناء الديمقراطية السياسية ببعدها الإجتماعي يظل واجباً قائماً وأساساً لنضال مستمر.
والخلاصة هي أن العمل لبناء دولـــــة سيادة حكم القانون، هو المدخل الوحيد لإنجاز عمليــة إصلاح قانونية واسعة، سوف نتعرض لأهم ملامحها في المباحث اللاحقة.

أولاً: الدستور:-
الناظــر للدستور بوصفـــه الاداة التي تكرس وجود دولــة سـيادة حكم القانون،وتميز مابين الدولـــــة الشموليــــة دينيـــة كانت أم غـير دينيــــة، لابد أن يتوصــل إلى أن هنـــاك سمــات أساســيــة يشـكل وجودها أو تخلفهـا المعيـار الحــاسم في المعـايرة والتمــييـز. وبالرغم مـن كونيـــة هـذه المعايير، إلا أن هنـــالك بعـض الخصـوصيـــة التي تحتم إدراج بعض النصوص الدستـوريــة بدسـتور دولـــة ما، في حين يكـون هذا الإدراج لامســوغ لــه بدســاتير الدول الأخـرى. وبتطبيق هذه القاعــدة على واقع السودان، نجد أن أي دستور مؤسس لدولة سيادة حكم القانون، لابد أن ينص على مايلي:

1) المسـاواة أمام القانون وحظر التمييز بين المواطنين إستنادا للدين أو العرق أو المعتقد السياسي أو أي أسبـاب أخرى واردة بالمواثيـق الدوليـة حتى يتاح تأسيس دولة المواطنـة، وإدراج مبدأ المحاكمـة العادلــة الذي يحظر تقديم الشخص لغير قاضيــه الطبيعي، كما يحرم توقيع عقوبات قاسيـة ووحشيــة على المدانين. والملاحظ هو أن دساتير الدولــة الشموليـــة في السودان بنوعيهــا، لم تشتمل على هذه القاعدة بشقيها المذكورين، حتى يتسنى لها سن القوانين التي تريد.

2) الحقوق والحريـات كمـا نصت عليهـا المواثيــق الدوليــة والإقليميــة بالإضافـة إلى حظر التعذيب والنص على عدم سقـوط جرائم التعـذيب بالتقـادم، تمهيداً لإنفــاذ مبدأ دسـتوريــة القوانين الذي يسمح بإبطــال جميع القوانين التي تلغي أو تنتقص من الحقوق الواردة بنصوص الدستور. وبالطبع يجب أن ينص على الحقوق المذكورة دون ورود العبارة سيئة الذكر في نهايـة النصوص المثبتـة، والتي تجعل ممارســــتة تلك الحـقوق محكومــةً بـ"حــدود القــانون". فالصـحيح هو إعطـــاء المشــرع الحــق في سـن قوانين تنظم ممارســة الحقوق، دون إلغــاء أوتقــييد أو إنتقـــاص منها، وأن يرد المــنع من هـذه الأمـور في صلب الدستور ليكن سياجاً حامياً لتلك الحقوق وفقاً لمبدأ دستورية القوانين المنوه عنه.

3) مصادر التشريع والتي يجب ألا تقل عن ثلاثـــة متكافئـــة لها نفس الوزن، من الممكن إثباتها على أنهـا الدين والعرف وكريم المعتقدات، بحـيث يصبح للمشرع وفقاً لنظريـــة تكافؤ المصادر أن يشرع إستناداً لأي منها دون إلتزام بالمصادر الأخرى، في حدود ضــوابط مبدأ الدستوريـة. وأهميـــة النص على هذه المصادر مع تعددها، تكمن في أن الدولة الدينيــة الشموليـة في السـودان، راهنت دائماً على إثبـات مصدر وحـيد للتشريع تضعـه في مستوى واحـد مع الدستور، بحيث يجـوز لمشـرعها التشريع وفقاً لذلك المصدر وبالمخالفــة للدستور، ويهزم بذلك جوهر مبدأ دســتوريــة القوانين. وأوضح مثـال لذلك هو المادة (65) من دستور العام 1998.

4) مــبدأ الدسـتوريـة والذي بموجبــه تبطل كل القوانين المخالفــة للدسـتور، وخلق الجسم المنـاط بـه السـهر على تطبيقـــه وإثبـــات ملامح المحكمــة الدستوريــــة بالدستور نفسـه حتى لاتترك للسلطـــة التشريعيـة والتنفيذيـة بالتبعية فرصة التحكم في تكوينها، وتدمير أي فرصة لإنفاذ المبدأ وإفراغه من محتواه.

5) إســتقلال القضـاء الذي يحتاج لباب كامل يثبت متطلبات هيئـة قضائيـة مستقلـة موحـدة، يناط بها وحدها دون غيرها مهمـــة القضـــاء، ويحظر تكوين محاكم موازيـــة لها، مع النص صراحــة على المحاكم الأخرى المسمـوح بها كالمحـاكم العسكرية مع تحديد إختصاصها، وإبطال أي محاكم أخرى يتم تأسيسها بأي كيفيـــة كانت. وذلك لأن النظم الشمولية، قد درجت على تكـوين المحـاكم الخاصــة والمحـاكم المخصصـة لخدمــة جهات تنفيذيـة بمستوى يفقدها إسـتقلالها. كـذلك درجت على إعطـاء سلطـات قضائيــة لجهات مدنيـــــة لاعلاقة لها بالقضاء من قريب أو بعيد، وخـير مثـال لذلك قانون الأموال المرهونــة لدى البنوك، الذي مكن البنوك من إغلاق الرهن وبيع العقار المرهون، وجعلهــا الخصم والحكم.

6) حق التقاضي بشقيـه الإيجـابي والسـلبي، الذي يمكن المواطن من أن يقاضي ويقاضى أمام قاضيه الطبيعي، والذي بدونه لايمكن للهيئة القضائيـة المستقلـة أن تمارس دورها بفاعلية. والشاهد على ذلك هو غياب هذا الحق بدستور العام 1973 الأمر الذي حدا بالمحكمـــة الدستوريــة في قضيــــــة ملاك دكاكين السوق الشعبي الشهيرة، للقول بأن حق التقاضي حقأً قانونياً وليس دستورياً، وبالتـالي يصح للقـانون حرمـان المواطن منه. وهو نفس السبب الذي سمح بإخـراج قـانون إخلاء المباني الحكومية من دائرة التقاضي سابقاً.

7) وجوب تنفيذ الأحكام وإلزام السلطـــــة التنفيذيـة بتنفـيذها دون تعليـق أو تبـاطؤ. والمثــال الأبرز لعـدم تنفيـذ أحكـــام المحاكم، هو رفض السلطـــة التنفيذيــة لتنفيذ حكـم المحكمـة العليا في قضية حل الحزب الشيوعي الشهيرة، حيث علقت على الحكم ووصفته بأنه تقريرياً وليس ملزماً.

8) الحق في التنظــيـم والتجمـع دون قيــود من أي نوعٍ كانت، حتى يتـاح تكـوين الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني دون تدخل من السلطـــة التنفيذيــــة. وذلك لأن غيــاب هذا الحق أو تقييده بحدود القانون، قد سمح للسلطتين التنفيذيـــة والتشريعيـــة، بمصــادرة هــذا الحـق أو بتضـييق نطاق ممارستــــه في أفضل الظـروف. والأمثلـــة لاتحصى وتكفي الإشـــارة لقانون الاحزاب الجديد، الذي يلزم الأحزاب بالتسجيل ويضع لــه شـروطــاً تلزم الأحزاب بإتخاذ مواقف سياسيـة ممالئــة للسلطــة كقبول إتفاقيـــة نيفاشــــا حتى تتمكن من التسجيل وإكتساب الشرعيــة، وكذلك قوانين النقابات العتيدة التى – بدون إستثناء- أعطـــت مسجل النقابات سلطات واسعــة ولم تتكرم بأن تجعله قاضيــاً لضمان الحياد.

9) الحق في الإضراب، بحيث تتوفر الحمايــــة الدستوريـة لهذا الحق قبل الحمايـة القانونية، بمستوى يمنع من التلاعب بهذا الحــق الضـروري في ظل وجود حركـــــة نقابيــــة تظـل رغـم كل شئ أحــد الروافع والآليــــات المهمــــة في المجتمع السوداني. وذلك لأن القوانين في الدولـة الشموليـة إنتهزت إقتصـار الحمايــــة على الصيغة السلبية المتمثلة في الحصانة النقابية الواردة بقانون النقابات بدلاً من الحماية الإيجابية والصريحة، وتمكنت من تقييد هذا الحق بقيود كبيرة أهم مثال لها هو صيغة التحكيم الثلاثي الإجباري أو الإلزامي الواردة بقانون العلاقات الصناعية لسنة 1976 سيئ الذكر.

10) الحــق في الإقـتراع والتصـــويت والترشيح، بحـيث لاتسلب القوانيـن المواطـــن أيـــأً مـن هـذه الحـقوق. والشــــاهد أن مشـــروع قـانون الإنتخـــابات الجـديد، يســلب المواطـــنين المقيمـين خـارج البـــلاد حقــهم في التصـويت لإختيار أعضاء البرلمان، في حين يثبت لــهم الحـق في المشــاركة في الإستفتاء على رئاسة الجمهورية.

11) مـبدأ شــرعيــة القوانين، بحيث لايصح التجريم والعقـــاب إلا بنص مسبق، وذلك حتى لاتتكرر الكارثــــة التي نجمت عن إستخــدام المادة 458 من قانون العقوبات لسنة 1983 مقروءة مع قــانون أصول الأحكام القضائية لإستدخال جريمة الردة وإعدام الأستاذ الشهيد / محمود محمد طه.

12) حظر قيـــام الأحزاب على أسس دينيــــة وإدعـــاء تمــثيل السمـــاء في العملية السياسية ترفيعاً للحــظر الوارد بقانون العقوبات لسنة 1983 إلى مستوى دستوري، بحيث لاتتكرر التجربـة القاسيــة التي تعرض لها شعبنا ممن يدعون الحـق في تحـديد مســتقبل البـــلاد على أسس لاهوتيـــة مموهـــة لأهداف أرضيـــة فضحتهـا السلطــة. وذلك لأن الحــزب الإلهي المزعوم لايمكن أن يكون لاعباً مثل غيره من الأحزاب في العمليــــة، لأنه بحكم تكوينـــه يصبح نافيـاً لغيره وحكماً على الجميع بإعتباره سماوي الرسالة والتأييد.

13) مجانيــــة التعليــم والعـــلاج، حتى لايكون بمقدور أي برلمان أو حكومــة إلغــاء تلك المجانيــة إسـتناداً إلى أغلبيـــة ميكانيكيـــة مثلمـا فعلت حكومــة الوفـاق الوطـني المكونــة من تحـــالف حـزب الأمــــة والجبهــة الإسلاميـــة القوميــــة إبان الديمقراطيــة الثالثــة، حين تم إلغاء مجانية التعليم عند إجـــازة الميزانيـــة، قبل أن يأتي إنقــلاب الإنقـــاذ ويجهـز على الإثنين معـاً. والأمر بلاشك واضح، فالحمايـــة الدستوريــة لهذه المجانيــة في دولــة الأغلبيــة الساحقة من سكانها تحت خط الفقر، مسألة ليست للنقاش أو المساومة.

14) إستقــلال الجامعــات ومؤسسـات التعليم العـالي، وذلك لضمــان حريـــة البحث العلمي وحمايتـه من تدخل السلطـة التنفيذيــة،وتفادي الآثار المدمرة التي نتجت عن تبعية هذه الجهات للجهاز التنفيذي عبر وزارة التعليم العالي.
15) حرية الوصول للمعلومات مع إيراد إستثناءات واضحـة وتوفير رقابة قضائية على رفض النشر إنطلاقاً من حقيقة أن المعرفة حق للجميع وإدراكاً لخطورة إحتكار المعلومات.
16) حريـــة الصـحافــة والنشـر وتأسيس الصحف ودور النشر، حتى تتاح الفرصــة لوجــود سلطـة رابعـــة قويـــة وفعالـــة، آخذين في الإعتبار قوانين الصحافـــة والمطبوعات الحاليــة وماتتعرض له الصحف في ظل الإنقاذ.

17) المبادئ العامــة للتوجــه الإقتصادي بما في ذلك الموقف من دعم السلع الأساسيـــة، ومن عمليـة الخصخصــة التي يجب أن تقتــصر على المشـــاريع الخــاسـرة ولا أمل في إصلاحهـا والتي لاتعتبر حيويـة لإقتصـاد الدولــة وإستراتيجيتها العامة.

لاشــك في أن مــاورد أعــلاه لايشـكل كل مايجب أن يتضمنــه الدســتور بوصفــــه ضــابطـاً لإيقـاع دولــــة سيـــادة حكــم القــانون ومعيــارها الذي يحقق تكامل النظـام القانوني كأداة تطرح القانون كما يجب أن يكون في مواجهــة القانون كمــا هو كائـن، وتحقق الإندمـاج بين نظريـــــة القانون الطبيعي والنظريـة الوضعيــة، ولكنــه يضع بعض المحـاور المهمــــة التي يجب مراعـاتها حتى نحصل على دستور يراعي الحقوق والحريات ويكرس لمبدأ الدستوريــة.وبما أن وجود مثل هذا الدستور لايسـتقيم إلا بتكامل عنـصر الدستوريــــة مع عنصر المؤســسيــة الذي يكـرس مــبدأً آخراً هو مبدأ الفصل بين السلطات، يصبح من الضروري أن ينص الدستور على المؤسسات التالية:

أ) الهيئــة القضائيـــة، بحيث ينص على الأحكام اللازمة لتكوينها كهيئة مستقلة تعزز إستقلال القضاء وتمكن القاضي من ممارســـة عملــه دون تدخل أو وصايــــة من قبل الجهاز التنفيذي بوضع القواعد العامة التي تمثل سياجاً للقضاء بما في ذلك قواعد الإستقلال المالي والإداري والحصانة القضائية.

ب)الجهاز التنفيذي، وبالأخــص مجلس الوزراء في دولــة يفــضل أن تكون جمهوريــــة برلمانيــــة وليست رئاسـيـــة لأسباب أشبعت جدلاً على المستوى الســياسي، بحــيث تتضح سـلطـات وواجبــات الجهــاز التنفيذي بصورة لالبس فيها. وكذلك النص على مجلس الرئاســـة أو الســيادة الـذي يجب أن يعــكس التنوع والغنى الذي تذخر به بلادنا في ترميـز واعٍ ودال، دون أن تكـــون للمجلس مهـــام أو سلطات تنفيذية مباشرة.

ج)الهيئـة التشريعيـة، مع ترتيب سلطاتها بشكل عام وتحديد صلاحيلتها وحصاناتها ووضع القواعــد العامـــة التي تضمــن تمثيـــلاً فعليـاً للقطاعـات المختلفـــة والقـوى الناشطــة سياســياً،بحيث تكـرس التنـوع والحيويــة التي تنعـم بها بلادنـا.
وبالقطع لايكتمل النظام المؤسسي إلا بوضع قواعد وأسس الرقابة المتبادلة بين المؤسسات المذكورة أعلاه.

د) القــوات المسلحــة والنظاميــة، وهذه يجــب أن تحـدد وظـيفتهــا وواجــباتهـا وتبــعيتهــا ودورهـا السياسي خارج إطار الإنقلابات العسكرية، لإخراج بلادنا من الدورة الجهنمية التي تعيش فيها.

هـ) ديوان المراجع العام، الذي يجب أن يزود بسلطــات وصلاحيات كاملــة تخوله المساهمـة بفاعلية في ضبط النشاط المالي ومكافحة الفساد بأجهزة الدولة، مع ضمان إستقلاله التام.

بإختصار نستطيع القول بأن ماورد أعــلاه، مجــــرد محاولــة لجعـل الدستور أداة فاعلـــة في مجتمع يحتـاج بشدة لوثيقـة ضامنة لوحدتـــه، مكرسة للمؤسسية والدستورية، تجعل من الإصلاح القانوني – بوصفه مسألة ملحة- أمراً ممكناً.

ثانياً: القوانين:-
لاشك في أنه لايمكن تغطية القوانين جميعها بصفــة تفصيليــة، مما يحــتم تناول المبادئ العامــة التي يجب توفرها دونما ابتسار مخل. وهو أمر من الممكن إيجازه فيما يلي:-
أ/ القوانين العقابية:-
أهم مايطالعنا في القوانين العقابية هو ضرورة الالتزام بمبدأ الشرعية الدستوري، بحيث لايتم تجــريم أي شخص أو معاقبتــــه إلا بنص قانوني ســابق لوقوع الفعل المجــرم. ولا يستقيم تطبيق هذا المــبدأ برجوازي الأصــل والذي لايصح أن ينســب بأيــة حال لفترة ماقبل الثورات البرجوازيـة، إلا بوجود نصوص تجريم محكمة الصياغــة واضحة المعاني تحدد على سبيل الدقة والقطع نطاق التجريم، كما تفرد العقوبــة لتضمن تناسبهــا مع الجريمـــة. كذلك يجب نشــر القوانيــن على نطــاق واسع وتثقيف الجماهير حولها حتى يكون إفتراض العلم بالقانون عادلاً في بلاد تنتشر فيها الأمية.ومن المهم إعـتماد الاســتثناء المتفق عليه المتمثل في تطبيق القانون الأصلح للمتهم في حال صدور قانون معدل لوصف الجريمة أو مخفف للعقوبة أو حتى لاغي للتجريم من أساسه.
كذلك لابــد من الاهتمـــام بالركن الشرعي للتجريم، وإدخال جرائم تحرم تسييس الأديان وإستخدامهـا لأغراض دنيويـــة محضـــة، مع إدخال الجرائم ضد الإنسانيـة وجرائم الحرب والإبادة الجماعيـة في القانون من المواثيق والقوانين الدوليــة ذات الصلــة لاستكمال النقص التشريعي الذي فضحته مأســاة دارفور.
بالإضافـــة إلى ذلك لابد من إعادة النظر في العقوبات الواردة بالقوانين للتأكد من أنها تراعي جانبي الردع والإصــلاح معاً، مع التخلص من العقوبات الوحشية والقاسية إنسجاماً مع المبادئ الدستوريــة التي تم إثباتها أعلاه.
ب/ القوانين المدنية:-

العمل علي وضع فلسفة موحدة للقوانين المدنيــة والتجاريـــة، بحيث تتبنى مبدأ حماية حقوق الأفراد بالمطلق أو المحافظة على استقرار التعامل، وألا يتم الدمج بين الاثنين إلا بأسباب واضحة يتم إثباتهـا في المذكرة التفســيرية للقانون المعني. وفي تقديرنا أن تبني مـبدأ إستقرار التعامل هو الأنسب لبلادنا لأنه لايتجاهل حقوق الأفراد ، في نفس الوقــت لايهــدر إسـتقرار الأوضاع منوهين إلى أن هذا المبدأ كان سائداً قبل قانون المعاملات المدنيــة المــتأسلم، حيث يتجلي ذلك في أحكــام إبطال العقود للجنون وقاعدة الـ "كافيت امبتر" التي تطالب المشتري بأن يكون حذراً وقواعد أخرى.
كذلك يجب أن يتم بشكل عام إعتماد مبدأ حرية التعاقد مع سن القوانين التدخلية لرفع القدرة التفاوضية للطرف الأضعف لتحـقيق التكـافؤ المفترض في مـبدأ حـرية التعاقد بسن قواعد تعتبر من النظام العام كما هو الحال في قوانين العمل والإيجارات.
وفـوق ذلك يجـب ألا ينص على المصادر البديلــة للقوانين عند غيــاب النص التشريعي، بحيث تترك الحريــة للمحاكم لتطبيق مبادئ العدالــة والإنصاف والوجدان السليم دون التقـيد بمصادر بديلة تتحقق إلزاميتها بأولويـــة ترتيبها في النص المخصص لتلك المصــادر. وذلك لأن غيــاب مــثل هذا النص، يكسب نظامنا القانوني مرونة ويسمح للمحاكم بملاحقة تطور القوانين في مختلف النظم القانونية على مستوى العالم وإستدخالها بنظامنا عبر نظام السوابق القضائية. وبالطبع إن هذه المرونة لايمكن القدح فيهـــا بالقول أنها قد تؤدي لعدم إستقرار النظام القانوني كما كان يقال في السابق، بإعتبار أن التشريع قد تم إعتماده كمصدر أصلي للقانون المدني وأن مساحة المرونة تكمن في إجتهاد المحاكم في حالـــة غياب النص التشريعي فقط.


ج/ قانون الإثبات والقوانين الإجرائية:-
لابد من تعديل قانون الإثبات الجنائي للعودة لتبني نظريـــة حريــــة الإثبات التي ســادت جميع النظم القانونية في العالم بعد الثورة الفرنسية، بالمواكبة مع تعديل القوانين العقابيـة وإزالة الجرائم التي أدت إلي ضرورة تبني نظريـــة الإثبات المقيد وإن جزئياً كما هو وارد بجرائم الحـدود. كذلك يجب أن يتم تعــديل هذا القانون لإزالــة النصوص التي تفرق بين المواطنين على أسـاس الجنس والدين لمخالفتها لمــبدأ المســاواة أمــام القــانون الدســتوري. ولامنــاص من تفادي المصطلحات والقيود المبهمة مثل مصطلح "الشريعة الإسلامية" الذي فشلت المحاكم في إعطائه تعريفاً واحداً حيث تبنت تعريفاٍ موسعاً له أحياناً وتفســيراً ضــيقاً في أحيــان أخـرى، مما أدي لأضطراب كبير في النظام القانوني. وأوضح الأمثلة لذلك، هو تقييد البينة المتحصل عليها بطريق غير مشروعة بعدم مخالفــة الشريعة الإسلامية، وكذلك طلبات فحص الإجراءات الجنائيــة، ومراجعة أحكام المحكمة العليا المدنية التي حظر القانون مراجعتها إلا في حال مخالفتها للشريعــة الإسلامية، وبتفسير المحكمة العليا للمصطلح تفسيراً واسعاً أصبح الحظر بلا معنى.
ومن المهم مراجعــة سلطات النائب العـام في وقف الإجراءات الجنائيــة، بحيث يتم إلزام النائب العام بتسبيب قراره، وإخضاع مثل هذا التسبيب للرقابة القضائية، إذ لايجوز إطلاق يد الجهاز التنفيذي في تعطــيل عمـــل المحـــاكم لأسباب غير معلومــة، والركون لرقابـــة الرأي العــام وكأننــا في إحـــدى الديمقراطيات العريقة. ولابد أن تدور الإستثناءات الواردة على هذه السلطة بخصوص الجرائم الدينية المصدر، وجوداً وعدماً مع الجرائم المذكورة.أيضاً لابد من مراجعة سلطة رأس الدولة في منح العفو بعد الإدانة مع إزالة القيود ذات الطابع الديني وتنظيم إستخدام هذه السلطة وفقاً لماهو متعارف عليه في النظم الحديثة.
كذلك يجب تكـريس مبدأ التقاضي على درجتين، وإعطـاء محاكم الدرجة الثانية سلطة أصلية في نظر الدعــاوى وقبول البينــة، حتى تتـاح الفرصة كاملة لعرض القضايا والفصل فيها بصورة عادلة، دون تسرع ضـــار أو إبطاء منكر للعدالة.ولايفوتنا التنويه إلى ضرورة تمكين المحاكم من القضاء بالفوائد بالمواكبــة مع تعديل القوانين الموضوعيـــة لتسمح بذلك عمــلاً بالإجتهادات الحديثــة لمجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر.

د/ قوانين الثروات الطبيعية والطاقة:-

ممالا شك فيه أن الثروات الطبيعية هي ملك للشعب السوداني قاطبة، وذلك يحتم وضعها تحت ملكيـة الدولــــة مهما كانت طبيعتها سواء أكانت غابيــة أو نفطيــة أو حيوانيــة. كذلك يجب أن تسن القوانين الملائمـة لاستثمارها وتوزيع عائدات الاستثمار على الشعب، بحيث تكون مصدراً مستداماً عاماً غير مخصص لأفراد أو جماعــات، وغير محتكر لفئة غير أخرى. وهذا يستلزم سيطرة دولــة سيادة حكم القـــانون على هذه المصــادر والثروات، والقيام بواجبها في إنشاء البني التحتية وتحديد السبل الأنجع للإستثمار إســتناداً لنصوص قانونيــة واضحة تحظر تمليك هذه الثروات ومصادر الطاقــة لأي جهة أجنبيـــة، مع توضيح سبل إستثمار رأس المال الأجنبي فيها وحظر إعطــاء الإمتيـازات، وقصر هذا الإستثمار في المشاركة المقيدة بزمن وفي عقود المقاولة وربما الملكية المؤقتة على أساس البوت في مشــــــاريع تحدد على سبيل القطع وتخضع للمراجعـــة الدورية الصارمة، يشدد فيها على عنصري التدريب ونقل التكنولوجيا ونسبة مقدرة من الإستيعاب للعمالة المحليــــة، مع نصوص واضحة لإنفاذ مبدأ الشفافية في مثل هكذا معاملات.
هـ/ قوانين الخصخصة والإستثمار:-

لمواجهة موجة الخصخصة التي إنتشرت على مستوى عالمي بالمواكبة مع أيدلوجيا الليبرالية الجديدة فيما عرف بالعولمــــة، وضبط التعامل مع مؤسسات العام وملكية الشعب بعيداً عن سيادة الفساد الذي ساد جميع عمليات الخصخصـــة ببلادنا، لابد من سن قانون موحد لخصخصة المؤسسات. فمن حيث الموضــوع، يجب أن يحدد القانون المؤسسات القابلــة للخصخصــــة وأن يستبعد منهــا خصخصــة المؤسسات والمشاريع الإنتاجية المرتبطــــة بالمنتجات الإستراتيجية، والخدمات التي لاغني للمواطن عنها مثل المؤسسات العلاجية. فالمشاريع القابلـــــة للخصخصة هي تلك التي يثبت أنها خاسرة وغير قابلة للإصلاح ولا تقع ضمن الاستثناءات المذكورة آنفاً. وعلى القانون أن يبين آلية التوصل لخلاصة تبرر خصخصــــــة المؤسسة وآليات مراجعة القرار والتثبت منه إدارياً ومن ثم سبل الطعن القضائي فيه. أيضاً يجب أن يحدد القانون سبل تقييم المؤسســـــــــة المعنية مع الاستعانة ببيوت الخبرة المحلية والعالميـة، ومن ثم طرحها في مزاد عام وفقاً للقواعد المتعارف عليها دولياً لضمان عدم التلاعب من ناحية إجرائية. كذلك لامناص من أن ينص القانون على التدابير اللازمة لحماية العاملين بالمؤسســـة المعنية، مع الاحتفاظ للدولة بحق استرداد المؤسسة في حالات بعينها وتحديد الآليات المناسبة لذلك.
وفيما يخص قانون الاستثمار، لامناص من جعل القانون مشجعاً للإستثمار المحلي والأجنبي، بشــرط أن تحدد قطاعات الإنتاج التي تحتاج البلاد لها على سبيل القطع بالقانون مع إيجاد آلية تشريعية تسهل تعديلها لتواكب الخطط الإقتصادية المجازة من قبل الأجهزة التنفيذية والتشريعية المختصـــــــة. ومن المهم وضع آلية شفافة خاضعــة للرقابة الإدارية والقضائية تحدد كيفية منح الإمتيازات وإلغاء المنح مع سن العقوبات الملائمة لضمان الجدية وإيقاف التلاعب بالتسهيلات الممنوحة وتحويلها لوسيلــــة إثراء للطفيليين. كذلك لابد من وضع آلية لمتابعة تنفيذ المشاريع الإستثمارية ومدى جدية من منحـوا تسهــيلاتها في تنفيذها ومدى إسهامها في الاقتصاد القومي ومراجعة أسباب المنح وفقاً لذلك.
وبالطبع يتحتم السمــــاح للمستثمر الأجنبي بتحويل العــائد من إستثمــاره للخارج بعد دفـع مستحقات الدولـــة. ولا يفوتنا أن نؤكد على أن المستثمر الأجنبي عند منحه الإمتيازات لابد من أن يشترط عليه نقل التكنولوجيا الحديثـــــة وتدريب العاملين المحليين على إستخدامها مع تحديد نسبة هؤلاء المحليين وحمايــة حقوقهم مســبقاً. وبلاشك يتوجب تحـديد المجالات التي تحتاج البلاد فيها لاستثمارات أجنبية مسبقاً، وأن يتم الأخذ في الاعتــبار عقود المشاركــة والبوت ونقل التكنولوجيا ، مثلما هو مهم تشجيع الاستثمار التعاوني وسن القوانين المناسبة للحركة التعاونية.

و/ قانون الإصلاح الزراعي:-
الزراعة هي المصدر الأساس لأي نهضـــــــــة إقتصادية في السودان الذي لامناص من إنجاز ثورة زراعية صناعيـة لإخراجه من الوهدة التي يعيش فيها. وبما أن عملية الري هي المدخل للقيام بعملية إصلاح زراعي ببلادنا، لابد من سن قانون يحدد مسئوليــة الدولة في رعاية مصادر المياه وتنظيمها وتوزيع المياه على المزارع المنتج حسب الحاجة ودون إثقال كاهله بجبايات تقتل العملية الإنتاجيـــة وتدمر المنتج. كذلك لابد من مراجعـــــة أسس الملكية وعلاقات الإنتاج، لتراعي حقوق المنتج وتعيد توزيع المنتج بصفـــة عادلة وتخرج رأس المال الطفيلي من العملية الإنتاجية مرة وإلى الأبد.
وهذا بالطبع يستلزم إلزام الدولــــة بمعالجة الملكية والتوزيع في المحاصيل النقدية، وتشجيع ملكيــة الدولـــة والملكية التعاونية مع تنشيط الزراعة بالقطاع الخاص وفقاً للخطط مرنة. أيضاً يجب معالجة صيغ التمويل وإلغـــــاء الصيغ الشبيهــة بنظام الشــيل (السلم) التي أرهقت المزارع المنتج وأرهقته، وإستخدام صيغ تمويل عادلة تقوم فيها الدولة بدور فاعل في العمليـــة الإنتاجيـــــة وتحمي مدخلاتها، وتكرس حمايـــــة المزارع المنتج بصيغ متعددة مثل الحساب المشترك في مشروع الجزيرة سابقاً أو عبر صيغــة مشاركة تجعل من الدولة شريكاً في الربح والخسارة مع عدم إلغاء دور الحوافز للتفاوت في طبيعــــــة الإنتاج عند تماثل الظروف كافة. ولاشك في أن المدخل لأية عملية إصلاح زراعي في الوقت الراهن، هو إصدار قانون بإسقاط مديونيات المزارعين المنتجين لبنوك رأس المـــــال الطفيلي وإخراج البنوك التجاريــــة من تمويل العملية وحصرها في البنك الزراعي المتخصص بعد إصلاحه وتأهيله وإعادة النظر في صيغ التمويل.
ز/ قوانين العمل:-
تحتل قوانين العمل مركزاً مهماً ضمن منظومــــــــــة القوانين باعتبارها محددة لعلاقات إنتاجيــــــة. والمتعـــــــارف عليه عالمـــياً، أن تلك القوانين لابد من أن تنظم المراحل الثلاث لعلاقة العمل لتحمي العاملين وفقاً لطبيعتها التدخـــــلية. فالمطلوب هو وضع قواعد تنظم مرحلة ماقبل التعاقد لحماية مبدأ المنافســـــة الحرة ، وقواعد أخرى تنظم مرحلة التعاقد والحد الأدنى لحقوق العاملين مع تحديد آليات الــتأديب وقواعد إنهاء وانتهـــاء التعاقد، وثالثـــــة تنظم مرحلة مابعد العقد من مكافآت وعدم منافسة ومحافظــــة على السرية. والقيام بذلك يمنع المحاباة وسوء استخدام السلطة والمحسوبية عند التعيين، والتي انتشرت في الإنقــــاذ بصورة غير مسبوقة ومدمرة، كمــــا أنه يحمي العاملين ويوقف الفـصل للصالح العام بالقطاع العام والفصل مع دفع تعويض جزئي بالقطاع الخاص في حال الالتزام بقواعد منظمة العمل الدوليــــة، ويؤسس لاستفادة العامل من فترة عمله مستقبلاً مع عدم الإضرار بأصحاب العمل.
ولابد أن تكرس القوانين مبدأ الحرية النقابية وحماية حق تنظيم النقابات والتجمع في اتحادات نقابية، وجعل التســـــــــجيل إجراءً كاشفاً وليس تأسيسياً مع تقليص سلطات المسجل وإخضاعها بعد جعلها سلطاتٍ قضائيــــــــةٍ يمارسها قاضٍ مختص، للرقابة القضائية.وهذا يحتم منع حل النقابات أو إيقاف نشاطها دون الحصول على حكم قضائي بذلك.
كذلك يجب النص صراحةً على حق الإضراب دون وضع قيود عليه، وحماية العاملين بتوسيع مظلة الحصانة النقابية، مع اعتمــاد مبدأ التفاوض الجماعي لإبرام العقود. وفوق ذلك، لابد من النص على قواعد شاملة ودقيقة وعادلة بشأن التأمين الاجتماعي.

ح/ قوانين التعليم:-

أول مايتوجب النص عليه بقوانين التعليم هو مجانيـــــــة التعليم وحظر فرض الرسوم بأي شكل كان وتحت أية مبررات، مع التشديد على أن مصادر تمويل العملية التعليمية هم اجتماعي يقوم به المجتمع ككل ولا شأن لفرد معين به لأن التعليم مخصص لخدمة المجتمع لا ذلك الفرد. ولسنا في حاجـة للقول بأن فرض الرسوم مهمــــــا كان حجمها في بلاد أكثر من 90% من ســكانها تحت خط الفقر، لايعني سوى نتيجـــة واحدة هي زيادة الأمية المستشرية بالأصل. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تنص القوانين على ديمقراطيــــــة التعليم بحيث تشمل ديمقراطيــــــــة القوانين واللوائح والمؤسسات، وقبل ذلك كله ديمقراطيـــــة المناهج وانفتاحها على الفكر الإنساني بكافة مدارسه. ومن المهم أن يشتمل المنهج على مقوماته الثلاثـة من معرفة وتدريب وسلوك وأن يتم الإلزام بذلك بنص القانون بحيث تصبح الأجهزة المختصة بوضع المناهج في مواجهة التزام قانوني.
كذلك لابد أن تنص القوانين على استقلاليـــــة مؤسـســات التعلــــيم العـالي من جميع النواحي المالية والإداريـــة والأكاديميــــة، مع حريــة البحث العلمي وتخصيص نسبة ثابتة- تشكل الحد الأدنى- من ميزانيــــــة الدولة لدعم البحث العلمي.ولامناص من إلزام الجهاز التنفيذي بوضع خطط تربط عملية التعليم باحتياجات التنميــــــــتة، وتؤسس للاستفادة من مخرجات التعليم وتلغي أو على الأقل تحد من ظاهرة البطالة والهدر المستمر للموارد البشرية.
ولا يفوتنا أن نذكر بضرورة النص على مواكبــــــــة التطور العلمي مما يحتم العودة للدراســة باللغة الإنجليزية لتخلف قطاع الترجمة واستحالة المواكبة عند التدريس باللغة العربية.
ط/ قوانين مكافحة الفساد:-

من الأمور التي تدعو للأسى، أن السودان قد إحتل المرتبـة الأولى بين الدول العربية بإستثناء العراق من حيث الفساد وفقاً لتقرير سابق لمنظمـــة الشفافية العالمية. ولاعلاج لهذه الحالة بسن القوانين فقط، ولكن يبقى وجود القانون مؤشراً يدل على وجود جديـة في محاربة الظاهرة. لذلك لابد من سن قانون يرصد حــالات الفساد ويقنن أركانها وعــناصرها بشــكل تفصيلي، بحيث لايغفل الرشوة بأحوالهـــا الظاهرة والمستترة، ويتضمن الأرباح السريـــة والنشاطـــات الموازيـــة التي تنشأ من العمل المعني، والمحسوبيــة بتفاصيلها، كما يجب أن يشمل التصدي للمسئولية دون دراية أو تأهيل باعتبارها مدخلاً لفســــاد لاسبيل إلى درئه أو تفاديه. كذلك لابد من تجريم الفساد الذي من الممكن أن يرتكبه السوداني خارج البلاد حصرياً وعدم الإكتفاء بنص الاختصاص العــــــام الذي عادةً مايرد في نصوص قانون الإجراءات الجنائيـــة. ويجب بالمواكبة لذلك توسيع سلطات المراجع العام لتشمل جميع الجرائم التي يجب إستداخلها وفقاً لتوسيع مفهوم الفســـــاد، مع عدم إستثناء القطاع الخاص من تلك الجرائم وخلق جهة تتبع لوزارة العدل لرصد ومتابعــــة جرائم فساد القطاع الخاص، تخضع بحكم تأسيسها للرقابة القضائيــــة. ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن الغرض من القوانين، هو احتواء الفساد حتى تعالج أسبابه من الجذور ويصبح القضاء عليه أمراً ممكناً. وهذا أمر يتطلب معالجة شاملة للأزمة الاقتصادية وإنهاء ظاهرة الإفقار المنظم، وإيجاد أساس اقتصادي لقيم مكافحة الفساد.
ي/ قوانين الثراء المشبوه وغسيل الأموال:-

يجب أن تكون الفكرة الأساسيـــــة خلف تجريم الثراء المشبوه هي مـنع تكوين الثروات بطريقة غير مشروعــــــة وضارة بالاقتصاد الوطني لأنها تتم بالأساس خارج الوسائل المشروعة للحصول على الأمــوال. وفي هذا يتلاقى الثراء المشبوه مع غســـيل الأموال إذ أن كلاهما ينتج عنه الحصول على أموال بصورة غير مشروعة. ولكن في حالة الثراء المشبوه، يكفي فقط إثبات وجود الثروة وأنه ليس لصاحبها مصادر واضحة لتحصيلها لينتقل إليه عبء إثبات مشروعية مصادرها. أما غسيل الأموال فهو أكثر تعقيداً باعتبار أن المال المشبوه يدخل في نشاطات مشروعة يراد منها تغطية المصدر غير المشروع بحيث يستعصى معه متابعـــــــــة مصادر الأموال وإثبات عدم مشروعيتها. ولذلك تضطر السلطات المختصة لمتابعة الأموال النظيفة شكلاً وردها إلى مرحلة تجعل عبء الإثبات ينتقل لمالك المال لإثبات المشروعية ، أي تلتزم السلطة برد المال لمرحلة كونه مال مشبوه يتوجب على صاحبه نفي الشبهــــة عنه. ورغم هذا اــلتداخل فمن المهم سن قانونين منفصلين لوضع نطـــاق تجريم محدد وواضح وعقوبات مناسبــــــة لكل جريمة من الجرائم مع تحديد قواعد الإثبات بشكل تفصيلي بحيث تتضح وظيفـــة وواجبات الاتهام وكذلك الأعباء الملقاة على عاتق المتهم ، حتى لايتم إرهاق السلطة بعبء إثبات يقود لإفلات المجرم، أو يسمح لها بأخذ الناس بالشبهات بدون دليل. ولا يفوتنــا أن ننوه إلى عدم إصباغ أياً من هذين القانونين بصبغــة دينيــــــة واستخدام المعايير الدولية المعترف الدارج استخدامها في هذه الأحوال حتى تخدم هذه القوانين الأغراض التي سنت من أجلها، ولا تصبح وسيلة لتجريم الفائدة المصرفيـــــــــة مثلاً التي يرى شيخ الأزهر ومجمع البحـــوث و كثير من دول الخليج مشروعيتها.

ك/ قانون الحقوق الأساسية:-

لابد من سن قانون للحقوق الأساسية يصنف كقانون أساسي تبطل كل النصوص التي تخالفـــه، ينظم ممارســـــة الحقوق الدستوريـــــتة ويضع الآليات لممارستها دونما انتقاص أو تقييد أو إفراغ لها من مضمــونها. وأهميـــــــة مثل هذا القانون تكمن في نقل الحقوق الأساسية من إطارها الدستوري على مستوى قانوني قابل للتطبيق بواسطة المحاكم بكافـــــة درجاتها بدلاً من انتظار المحكمة الدستورية لتعلن عدم دستورية قانون ما. أي أن يتم الانتقال لمستوى الإنفاذ الإيجابي والنشط للحقوق الأساسيـة بدلاً من الركون لإنفاذها عبر التطبيق السلبي وفقاً لقاعدة الدستورية. فوجود قانون يسمح بالمطالبـة المباشرة لإنفاذ الحقوق وبتقديم الدفوع القانونية إستناداً عليه أمام المحاكم بكافة درجاتها دون انتـظار لقرار بعدم الدستورية وفقاً لإجراءات الطعن بعدم الدستورية.
كذلك يوفر سن قانون ، فرصــــــة تنظيم هذه الحقوق وإزالــــة أي تناقض شكلي قد ينجم عن غياب التنظيم، ويوفر أيضا فرصة لمعالجـــــــة اقتصاديات الحقوق الأساسية وكيفية تمويل ممارستها حتى لاتصبح حبراً على ورق أو حقوقاً للأغنياء فقط. وبلاشـــــــك يتيح مثل هذا القانون فرصة للتصدي لجميع القوانين المقيدة للحريات والمنتهكـــــة للحقوق بصورة حيوية تشارك فيها كافة المحاكم بحيث يسهل إبطال جميع النصوص المخالفة، واختصار الكثير من التعقيدات التي تستهلك الوقت وتضعف الحماية في حال الركون لمبدأ عدم الدستورية وحده.

ثالثاً: الأجهزة العدلية :-

أ/ الهيئة القضائية:-
أهم مايجب بناء الهيئــــة عليـــــه هو مبدأ إســـتقلال القضاء. ولايمكن تكريس هذا المـبدأ إلا بضمان الإســـتقلال الإداري عبر تشكيل مؤسســــة كمجلس القضاء العالي يكفل إستقلالهـا التام بإدارة شئون القضاء دون تدخل من الأجهزة الأخرى. كذلك لابد من ضمان الإستقلال المالي بحيث لاتقع الهيئــــة القضائيــة تحت النفوذ المالي للجهاز التنفيذي. يضاف إلى ذلك ضرورة وضع قواعد صارمة ودقيقة للتعيين والترقيــــــة والفصل، حتى يتم تعيين الأكثر كفاءةً وترقية المستحقين للترقية، مع ضمان عدم فصل القضاة إلا لأسباب منصوص عليها على سبيل الحصر، تتطابق مع المعايير المتبعة دولياً. أيضاً لابد من سن قواعد تفصيليـــة تكرس مبدأ الحصانة القضائية المطلقة، مع السماح للمتضرر من أعمال القضاء بمقاضاة الدولـــــــة وليس القاضي الفرد. كل ماتقدم لايستقيم دون منع إنشاء القضـــاء الموازي أو تأسيس محاكم بديلة لمحاكم الهيئة من أي سلطة كانت، مع إستثناء المحاكم التي يسمح بها الدستور كالمحاكم العسكريــــــة الخاصــــة بالجهات العسكريــــة فقط، مع مراقبـــــة تأسيس المحاكم المتخصصـــــــــــة حتى لاتقع أسيرة للجهاز التنفيذي عبر الهبات والمخصصات من مباني وعربات وماإلى ذلك.
بالإضافة إلى ذلك لابد من الاهتمام بشكل خاص بتشكيل المحكمة الدستورية واختصاصاتها بحيث يتم ضمان حيدتها وكفاءتها وعـدم تحولها إلى مرحلـة تقاضي أخرى تفحص عمل القضــاء العادي، حتى تتفرغ لمهمتها الأصليــــة. ومن المحبذ أن تبقى المحكمـــة المذكورة كدائرة ضمن المحكمة العليا كما كانت في السابق.


ب/ وزارة العدل:-
لابد من إعادة تأهيل أقسام وإدارات الوزارة عبر إستعادة الضوابط الإستيعابيـــة ومراجعــة ماتم من تعيينات سياسيـــــة. كـذلك يجب أن يتم حصـــر النشـاط التشـريعي وإعــــداد مشاريع القوانين بإدارة التشريع فقط وإستبعاد القصر الجمهوري من مثل هكذا النشاط والنص على ذلك صراحةً. أيضاً يجب إعادة النظر في هيكلــــــة الأقسام والإدارات لتتواكب مع إحتياجات الدولـة، وتفعيل نشاط قسم العقود والإتفاقيات الدوليــــة مع إعادة تنظيم المسجل التجاري لضبط فوضى تأسيس الشركــات الوهميـــــة وتكثيف الرقابــــــة عبر تعديل قانون الشركات واللوائح الداخليـــــة، وإعادة النظر في قسم العلامات التجاريـــة لتطوير دوره بمايقابل الإندفاعة التي تمت في ظل العولمة. كذلك لابد من إعادة النظـر في دور النيابات وآليــــة ممارسة نشاطاتها وتوزيعهـا الجغرافي، مع تطـوير قسم الفتوى وتفعيل دوره. يضاف إلى ذلك ضرورة إعادة النظر في مناهج وفرص التــأهيل والتدريب الباليـــة وغير المواكبـة لماحدث ويحدث من تطورات.

ج/ المحاماة :-
عانت مهنـة المحاماة كثيراً تحت النظام الشمولي الراهن، حيث تم الإعتداء مراراً وتكراراً عليها عبر تعديلات لقانون المحـــاماة. لذلك لامناص من سن قانون يكرس إستقلال مهنـة المحامــاة وحصانـــة المحامي ومكتبه ضد إعتداءات السلطة التنفيذيــة، ويكفل حرية التجمع في ظل نقابة نوعية تهدف إلى حماية الحقوق والحريات وتطوير المهنة والقوانين. ومن المهم أن يتم الإنتبـــاه لشروط منح تراخيص مزاولـــة المهنة ومتابعة فترة التدريب بحيث يتم التأكد من صلاحية الشخص المعني للممارسة، وقبل ذلك إنفاذ فكرة المعهد التأهيلي كمرحلـــة إجبارية تسبق إمتحان تنظيم المهنـــة، الذي يجـب مراجعـة مواده وتغليب الطابع العملي فيها.وبالإضافــــة إلى ذلك، لابد من إعادة النظــــر في عمــل المحامين كموثقي عقود، وتقييم هذه المسألة لإصدار قرار بشأن إستمراريتها من عدمه.

د/ الشرطة والسجون:-
لايستقيم النشاط العدلي في جانبه الجنائي دون وجود جهازي شرطــة وسجون فاعلين. والمطلوب هو مراجعة شاملـــة لقوانين الشرطـة والسجون وإعادة النظر في الإستيعاب والتدريب مع تفصيل أفضل للسلطـات وتحديد لدور هذه الاجهزه مع توضيح آليات المحاسبــــة وتبيين سـبل التعاون بينهــا وبين الأجهزه العدليــة الأخرى ومنع التعدي على إختصاصاتها من قبل الأجهزه الأمنيـة وخصوصاً جهاز أمن الدولــــة. وفيما يخص أجهزة السجون لابد من إلزامها بالتعاطي الإنســـــاني مع النزلاء والنص صراحـــةً وبتفصيل على حقوق الأخيرين بالإضافة إلى تحديد مواصفات السجون بالمطابقة للمعايير الدولية والإنسانية بنص دقيق ومفصل.
رابعاً/ التعليم القانوني:-
شهد التعليم القانوني تدهوراً مريعاً في بلادنا. فبالمواكبــة مع التوسع الأفقي في هذا النوع من التعليم، إنخفض مستوى مخرجاته بشكل مريع. والأســباب تكمن في خلــط التعلـــيم القانوني بالتعلــيم الفقهي لمؤسسات دينيـة آيدلوجيـة، مع تغييب متعمد للدراسة المقارنة، وتعريب سياسي غير ممنهج للدراسة لتكريس غياب المقارنة وعزل المنهج عن التطور العلمي الذي لاسبيل لإدراكه إلا بلغـة أجنبيـة. حدوث ماتقدم لمنهج يعاني معـــرفياً بالأساس ويغيب عنــه الجانب السلوكي والتدريبي، جعل الوضع كارثيــاً. ولاسبيل للإصلاح إلا بتبني منهج دراســة مقارنـة يسمح بمقارنة الشريعة الإسلامية بغيرها من القوانين ، وقراءتها وفقاً لرؤى غير مقدسـة وبشكل أكاديمي طالما أنها أصبحت قوانين وكفت عن أن تكون نصوصاً مقدسـة. وحتى يتسنى ذلك، لابد من العودة للتدريس باللغـة الإنجليزية لقراءة آراء فقهاء القانون بالنظم الأخرى في قوانيننا. بالإضافـة إلى ذلك، لابد من وضع مناهج متكاملة للتدريب أثناء الدراسة، مع إضافة البعد السلوكي عبر إدخال مواد كمدخل للعلوم السياسية والإقتصاد السياسي وعلم النفس والتاريخ الحديث بتطـــبيق عام على الواقع الســـوداني،حتى يتصل الطالب بمجتمعــــه ويتمكن من تحليلـه والتعاطي معه.
يبقى أن نؤكد بأن خريجي المؤسـسات الدينيـــة بالحتم لن يتسنى لهم الحصــول على مثل هذا المنهج لأسباب آيدلوجية، مما يحتم إستبعادهم من المهن القانونيـة إستبعاد تام، أو قبولهم كقضاة شرعيين فقط ومحاميين متخصصين في الأمور الشرعيــــة كما كان في السابق، مع تعديل القوانين المعنيــة لتسمح بذلك. ولايفوتنا التنويــــــه لضـــرورة معالجــــة مشــــاكل البحث القانوني بأبعــــــادها المنهجيــــــة والماليـةوالإجرائية التي مازالت تقوض الجهود الجادة في تطوير مخزوننا العلمي.


من الواضح أن ماورد أعلاه لايعدو حالة كونه إيجازاً نرجوا ألا يكون مخلاً لمسألــــة معقدة لاتحتمل التبسيط هي عملية الإصلاح القانوني في بلادنا. جوهر هذه العملية هو القواعد الحاكمـة لدولــة سيادة حكم القانون، بتطبيق مــــباشر لها على واقع السودان لسد الثغرات ومعالجــــتة المشكلات عبر الأداة الفاعلـة المتمثلــة في دستور ديمقراطي يراعي التعدد والتنوع والغنى الذي تنعم به بلادنا، تعضده في ذلك قوانين محكومة بمبدأ الدستوريـــــة ومواكبـــة للتطــور العالمي مع مراعاة لواقع تطور البنيــــة القانونيـة السودانية والإستفادة من تجربة وممارسة عمرها أكثر من قرن من الزمان، وتعززه أجهزة عدلية قوية ومستقلة، محمية في إطار القيام بدورها.
لايفوتنا أنم ننوه إلى أننا ندرك أن ماسبق إثباتــــــه حول الإصلاح القانوني معظمــــه لايصلح لإثباته بالتقرير السياسي فيماعدا الخطوط العامــــة منه في إتصالها بالحدث السياسي، إذ أن معظم التفاصيل مكانها البرنامج، ولكننا اهتبلنا هذه الفرصـــــــة لإثبات التفاصيل حتى يتمكن من يرغب في توظيفها الإستفادة منها كمايشاء أو تركها.

17/ فضل المشــــروع عدم مناقشـــــة إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة برغم تأثير هذا الإنقسام على توازن القوى والتقييـــم العام لسبل مناهضة نظام الإنقاذ وذلك بناءً على الإنتقائية للحدث التي إنتهجها منذ بدايتـــــه تحت دعاوى طول الفترة وتراكم الأحداث دون أن يضع معيارا محددا لأختيار الأحداث الجديرة بالمناقشــة. وبما أننا نختلف مع اللجنة في تقديرها ونرى أن تجاهل هذه المسألة يمثل قصورا كبيرا، نرى أن نثبت مساهمتنا في هذا المجال فيمايلي:-

إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان
صراع د. الترابي وتلاميذه (محاولة للفهم)

عند غروب شمس القرن الماضي وفي نهايتــــه، إنقســــم تنظيـم الجبهــــــة الإسلاميــــــة الحاكم في الســـودان إلى تنظيمين همــا المؤتمــر الوطــني الذي مازال حاكمــا بقيـــادة عمر البشير، والمؤتمر الشعبي المعارض بقيــادة الدكتور/ حسن الترابي عراب النظـــام ومرشده، حيث عرف الإنقســام في الأدب السياسي الإسلامي بالمفاصــلة. وبكل أسف حتى هذه اللحظــــــة، لم يقم أي تنظــــيم سـياسي بالســــودان بتقييم هذا الحدث المهم من حـــــيث الأسباب والنتائج والمآلات، برغم أهميته الكبيرة في تحـديد ملامح توازن القوى في الساحـة السياسية السودانية. وبلاشك تأتي مساهمتنا المتواضعة هذه ، لإلقاء الضوء على السبب الرئيسي للإنقسام/ المفاصلـة من وجهــــة نظرنا، وهي لاتدعي الإحاطـــة وتعترف مسـبقا بأنها تــركز على ملمح واحـــد وتهمل ملامح أخـرى لعدم توفر المعلومات، ولكنهــا تبقى إضـاءة وكوة صغيرة للضوء تبتدر النقـاش حـول هذه المسألـــة المهمة.
فالواضح هو أن الإنقســام/ المفاصـلــة - على عكـس مايقول الكثيرين- ليس صراعـا على السلطــــة مجـردا من البعـد الفكــري والآيدلوجي، بل هـو صراع عليهــــا متجذرا في صـلب الخـلاف الفكـري حول طبيعـــة المشـروع الحضاري الذي نادت به الجبهــــة الإسلاميــة القوميــــة وآليـات إستمراره وحمايتـه.فالدكتور/ حسن الترابي عراب النظام ومفكره، كانت رؤيتــه متمركزة حول فكرة أساسيـة كررها مرارا هي أن " الإسلام حينما يتمكن يبسط الحريــــــة". وترجمتها في الواقع المعاش هي أن إنقــلاب الجبهـــــــــة الإسلاميــة المسمى ب"ثورة الإنقاذ"، وظيفتــه الأساسيــة هي تمكين الجبهـــة الإسلاميــة القوميـة من السلطة، عبر تفكيك الحركة النقابية وكسر قوى المعارضة السياسية وبناء آلة دولـة تابعـة عبر الفصل والتشريد وبناء إقتصاد مجير لأفرادها ومؤســــساتها، ومن ثم تنحي الجــناح العسكري عن السلطــــة والسمـــــاح للجناح المدني ببسط الحـريـــة وفقا لمنظــوره والتفضــــل على القــوى الأخـرى بدستور يكرس إســـتيعابها داخـل هـذه الدولــــة المتمكنــــة. وفي هذا الســــياق جاء دســتور العــام 1998 مقننا للدولـة الدينيــة عبر أحاديــة مصدر التشريع، وممهدا الطريق لإستيعاب القوى الأخرى بالنظــام. ولكنه بالطبع أتى في سيـاق صراع كبير داخل التنظيم الحاكم وبعد مايقارب العقد من النظام نتيجـــــــة لصراع بين تيارين داخل التنظيم الحاكم أولهما تيار د. الترابي الذي يعمـل وفقـا لـهذا المخطط، والآخر تيـار البشـير الذي لايرى داعيـا لبسط أية حريـة قد تقود لخلخلة النظـــام الذي تمكن بالفعل وبنى دولتــــه في غـــياب معارضــة فاعلـــة. والأخير رأى أن مايقوم به د.الترابي مجــرد ترف لاداعي له قد يقـود إلى فقدان السلطـــة وسقوط النظـام، بإعتبار أن الوضع ليس ناضجـا لمثل هكـذا مغامرات. وبهذا الفهم يكون الصراع بالفعل حول الحـريات، ولكن أية حريات؟؟ الحريات التي سوف يمنحها منحــــــا تنظيم قد تمكن وبنى دولتـــــه وكسر شوكة خصومه وصاغ دستورا وفقا لتوجهــه هو وآيدلوجيــاه السياسيــة، وبالتـــــالي هي حريــات تحت الوصــايــة وبالقياس الذي يحدده التنظــــيم الحاكم وتحت رقابتـــه وفي غياب الفرصــة للمنافسـة الحرة بين من أقصي ومن حكم وبعد إعادة هيكلـة شاملـة للمجتمع ليتناسب مع رؤية د. الترابي وتنظيمه. بالرغم من ذلك لم ير تيار البشير داعيا لمنح هذه الحريات وتعريض النظام للخطر.
ودون أن نستبعد العوامل الذاتيـة المتمثلـة في رغبـة البشير ومجموعتـه في الإستمرار في السلطــة، إلا أننــا نرى أن الأمـر أعمق من مجــرد هذه الرغبــة أو رغبـــة د. الترابي في إزاحـة البشير ليحكم بنفســه كمايشاع –وهـــو مالاأرى صحته. فالتياران ممثلان في تقديري لقوى إجتماعيـة جمعها تنظيم الجبهـــة الإسلاميـــة وتباينت مصالحها ورؤاها بتباين مواقعهـــا الإجتمــاعيـــة. فمــــن الواضــح أن د. الترابي برغم أنه قــد بنى التنظـــيم الأقــوى لرأس المــال الطفــيلي في الســـودان، إلا أنــه إستمر في التفكـير كبرجوازي صغير يتأرجـح مابـــين شموليــــة وإســـتبداد ودعوة للحـريات مـــن مـواقع السيطــرة عــبر ثورة تقيض لــه نشــــر حرياتـــه وبناء مشروعـــه من أعــلى، في حـين أن التيـــار الآخــر من المدنيين والعسـكريين داخل التنظــيم، قد حسم خياراتـــه الفكريــة والعمليـــة وربط نفسه لمرة وإلى الأبد برأس المــال الطفــــيلي ومصالحـــه. ومن الطــبيعي أن لايقبل رأس المــال الطفيلي شريكــا أو منافســـا أو معارضــــا مهمــــا كان مستوى ضعفـه، وشراستـــه في المسـتوى السياسي، تضاهي وربمـــا تفوق شراستــه في المسـتوى الإقتصادي حــيث أغلق الطريق تماما أمـام الرأسمـال المستثمر في العمليــات الإنتاجيــــة وأنهكــــه تطفلا حتى كــاد أن يطيح به تماما. والناظر لتركيبـــة تيـار الرأسمــال الطفيلي الحــاكم، يرى أنه مكون من عســكرتاريا وبيروقراطيـــة جهــاز الخــدمــة المدنيـــة وأقطاب مؤسسات رأس المـال الطفيلي في إفصـاح شامل عن طبيعـــة النظام. كذلك يلاحظ أن جميع كادر الجبهــة الإسلاميــة المدني ذو الصلــة بالأجهزه العسكريـة والأمنية للتنظيم، قد إنحاز مباشرة للسلطـــــــــة وترك شيخه الترابي بلاتردد. يضاف إلى ذلك أن أول إجراءات إتخذها المؤتمر الوطني في مواجهـة جناح د. الترابي كانت إجراءات أمنيـــة إقتصاديــة جوهرها تجريد هذا الجناح من قدراتـه الإقتصاديـــة والتنظيميـــة وبالتالي إعادته إلى طبيعتـــه الأولى كتنظــيم لمثقفي الطبقـــة الوسطى المنهكة وبالتالي تمت مواءمته مع فكره السياسي.
في تقديرنا أن د. الترابي قد ذهل عن حقيقـــة أساسيـــة هي أن المؤسسات الإقتصاديــــة التي أنشــأها تنظيمــــه والتي ظــن أنــه هـو من يحكمها، لم تعد محكومــة بل أصــبحت حاكمــة، ولم يعـد هو من يوظفهــا بل أصبح موظفــا عندها ليس أمامــــه إلا أن ينظــر لهــا ويدافع عن مصالحهــا. فالمطلوب كان هو أن ينتقــل د. الترابي من منظــر لفكـر برجوازي صغير ترهقــــه أحلامــــه وأوهامـــه حول دولـة المدينــــة التي يتخيلها ويذهل عن واقع أنها في الواقع لم تكن ســوى دولــة أرهقتها الصراعات وانتهت بفتنــــــة كبرى، إلى منظر صريح لرأس المال الطفيلي يدافع عن ظلمــه وفســاده وساديتــه. فشل د. الترابي في إدراك هذه الحقيقــة الإقتصاديــة الإجتمــاعيـة لغياب المنهج لديـه، هو الذي جعل الرأسمــال الطفيلي بحاجــة إلى تيـــــار صريح وواضح في دفاعــه عنــه ومستميت في التخندق إلى جانبـه بغض النظر عن تفاوت القدرات بين نخبــه وعراب النظــام الأول. وبذلك أصبحت أحــلام د. الترابي البرجوازيــة الصغـيرة عقبــــة كأداء في طـريق التطــور الموضوعي لرأس المـال الطفــيلي وحمايــــة دولتــــه التي أراد الرجــــل أن يعرضهــا للخطر لمجـرد تطــبيق هندســــة إجتماعيـــــة متصورة وغير واقعيـة لدولـة لرأسمال طفيلي واقعية وفاعلة ومتمكنة حسب تصور الجناح الحــاكم.
بناءا على ماتقدم، وبالرغم من إدراكنا حقيقـــة تناقضـــات د. الترابي، نستطيع أن نستنتج بأن الرجل ربما يكون صـادقا في نقــده لفسـاد النظـام الذي أصاب حسب قولـه حوالى 90% ممن يعملون به، ولانرى أن مايقولــه هو من باب الكيد السيــاسي. فالرجل كان يتوهم بأنه قد أعـد كادرا يتمثل دولــة المدينـــة الخيــاليـــة، وأن هذا الكادر متفق معه على أن الأصل هــو الحريـــة وأن الإنقلاب هو الإستثناء لتثبيت دعائم الإســلام ومن ثم العودة إلى الأصــل، ولكنـــه فجع في تصوره الذي لايتعدى حالــة كونــه أحلام وأوهام برجوازية صغيرة ذاهلــة عن حقائق الواقع وقوة العامل الإقتصادي في إحداث تحولات فكريــة ونفسيــة وآيدلوجيــة عبر عمليــة ديالكتيكيـة معقدة. ولعل هذا أيضا يفسر إكتشافات بعض تلاميذه من مثقفي التنظيم أمثــال د. الأفنــدي المتــأخرة، بأن هنــالك سوبر تنظيم قائم على تحـالف مالي عسكري كان يعمل طوال الوقت داخــل الجبهـة الإسلامية القومية وضد توجهاتها. فوجود سوبر التنظيم المذكور الذي يشكل عصب التنظــيم بإعتباره الممثل الحقيقي لرأس المال الطفيلي الذي سخر التنظيم لمصلحتــه أمر طبيعي، وهو يفسر تناقضات د. الترابي التي شككت في مصداقيتــه، حــيث كــان موزعــا دائما بين فكــره البرجوازي الصغير بأحلامــه الزاهيـة، وضرورات حمايــــة وحدة التنظيم بالدفــاع عن رأس المال الطفيلي. وفي هذا السيـاق يفهم تعميمـه المستمر وإختياره لكثافة اللغة والإبهام وسيلة لعرض آرائه توطئة للتنصل عنها.
خلاصــة القول هي أن الإنقسام/ المفاصلة قد حدث نتيجة لصراع كبير بين البرجوازية الصغيرة ورأس المال الطفيلي داخل الجبهة الإسلاميـة القومية، حفزته السلطة و تمركزحول مظهرها وآلياتها وكيفيـــة حمايتها. لذلك لإعادة توحــيد التنظيم، لابد من إدراك هذه الحقائق أولا وتقديم أحــد التيارين تنازلا حقيقيــا. فإما أن يتنـــازل تيار الرأسمال الطفيلي عن مطالبتــه للترابي بالتحول الشامل لمنظر له ويقبل العودة للوضع السابق ويرضخ لشروط العراب المقيضــة لذلك والجراحــة التنظيميـــة وإعــادة الهيكلــة على رأسها، وهذا سوف يحدث في حالــة واحدة هي شعـور المؤتمر الوطني بخطــر حال ووشـيك على سلطتــه ربما يكون القبــول بإجــراء الإنتخابــات العامــة رضـوخا لضغوط دوليــة، أو أن يتنازل د. الترابي عن مشروعـه وأحلامـه وأوهام البرجوازية الصغيرة، ويقرر الإنتقال لمواقع المنظر الصريح لرأس المال الطفيلي والمدافع عن مصالحـــه، وهذا يستلزم يأس الترابي من حــدوث تغيير سياسي كبير في المدى المنظــور وإحساسه بخطر داهم على مشروعه الحلم.
إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة مرة أخرى
لماذا إنتصر التلاميذ على شيخهم؟؟

لعل كل من خبر الدور البارز للدكتور/ حسن الترابي في إحداث تحول كبير في بنية وتفكير حركــة الأخوان المسلمين وإنتصاراتـه المتكررة على خصومــه داخل الحركة،قد هالـه إنتصار تلاميذه عليه ونجاح إنقلابهم على قيادتـه عشيـــة الإنقســام/ المفاصلـة. فالدكتور/ الترابي نجح في تغــييرو نقــل الحركـــة من الصـراع مع الحركــات الدينيـة الاخرى والتيـارات الصوفيــة، للصراع مع الحزب الشيوعي بإعتبار أن أولويـة الصراع معه أهم من كل الصراعات الاخرى المؤجلــة، كما نجح في هزيمــة تيار التربيـــة والدعـوة وانتصر لتيـار التسييس والسلطــة، واستبق ذلك بهزيمـة تيـار الأمين العام السابق المرحوم الرشيد الطاهر. ولكن الناظــر للأخطاء التي إرتكبها الدكتور/ حسن الترابي في صراعـه مع تلاميذه، يجد أن المحصلـة الطبيعيـة هي هزيمته وإنتصار خصومه. ونحن في هذه المساهمـة القصيرة، نحاول أن نلخص تلك الأخطاء فيمايلي:
1. حاول الدكتور/ الترابي أن يحسم الصـراع بينـه وبين تلاميذه داخل التنظيم ( المؤتمر الوطني) وبالضربـة القاضيـة حين قام بإستغلال كاريزماه ونفوذ منصبه في جولـة إقليميــة كبرى حشد فيها أنصاره وعبأ الجميع لمؤتمر إستطاع أن يقصي فيه تلاميذه المشاغبين الذين أبدوا تمردا واضحا كرسته مذكرة العشرة الشهيرة. ولكنه نسي في نشاطه ذلك، أن أدوات الحسم التنظيميــة لم تعد حاسمــة وليست ذات بال منذ أن تحول حزبـه من حزب حاكم ليصبح حزب حكومــة. فالترابي لم يدرك أبدا أن السلطــة والتي هي وفقا لماكس فيبر القدرة على إنفــاذ الإرادة في حق الغـير، قد إنتقــلت منذ لحظـة إنقلابـه على الديمقراطيـة لأيادي الإجهزة الأمنيـة والعسكرية التي كانت ذراعا هجم به على الدولة الديمقراطية وشتت شملهـا. فمنذ تلك اللحظــة إرتضى الدكتور/ لنفســه وعلم تلاميذه أن وسيلـة حل الصراعات ليس إحترام قواعد اللعبــة والإحتكام للنظم واللوائح، بل إقتناص الفرص لحسم الصراع بالقوتين العسكرية والأمنية. وبالرغم من وضوح هذا الأمر، والإنذار المبكر الذي تلقاه من العميد/ عثمان أحمد حسن الذي أراد أن تكون السلطــة للتنظيم العسكري وأن تقــوم الجبهــة بدعـم ذلك التنظيـم حسبما ورد بكتــاب الدكتور/ عبدالرحيم عمـر محي الدين (الترابي والإنقاذ- صراع الهوية والهوى)، لم ينبهه للمآل الذي وصل إليه لاحقا. وبالتالي تجاهل الدكتور الترابي الحقائق التالية:
أ. أن جهاز الدولــة العسكري (الجيش) والأمني، هما من يحسم الصراع السياسي وأن تلاميذه قد أحكموا قبضتهم على الجهازين ولم يعد بإمكانه السيطرة عليهما. وبالأخذ في الإعتبار أن هؤلاء التلاميذ هم من كانوا يديرون أجهزة التنظيم العسكرية والأمنية قبل إنقلاب الإنقاذ، لم يكن بمقدور الدكتور/ الترابي توظيف هذه الأجهزة ضدهم.و حتى لو تجاهلنا واقعــة أن معظم كادر هذه الأنظمــة قد إنتقل للعمل بأجهـزة الدولــة العسكريـة والأمنيـةوإفترضنا على غير الواقع أن الدكتور/ قد تمكن من السيطرة عليها، فهي أضعف من أن تحسم صراعا مفتوحا مع أجهزة الدولة المماثلة.
ب. أن التنظيم الذي ركن إليـه، وحاول أن ينتصر به، ليس هو تنظيمه العقائدي الذي ( والعهدة على الدكتور عبالرحيم محي الدين) قد قام بحله عقب الإنقلاب. فالمؤتمر الوطني تنظيم فتحه الترابي للإنتهازيين وقناصي الفرص وفقا لمبدأه التنظيمي المستحدث " العبرة بمن صدق لا بمن سبق". وهؤلاء القادمون الجدد جلبتهم السلطـــة ولاشك هم مناصرون لمن يقبض عليها إذ لاولاء لهم لشيخ الحركة الإسلامية أو غيره.
ج. أن الإحتكام لمبادئ ولوائح العمل التنظيمي نفسهــا، مبدأ لم يعد يعبأ بـه تلاميذ الدكتور/ الترابي، منذ أن أفهمهم هو أن هذه اللوائح وضعت للغرب وليس للعمـل بهـا وذلك في سـبيل إنتصـاره لوالي الخرطوم حينها ( بدرالدين طه) على قيادة تنظيمــه بالخرطوم (أيضا على عهدة د. عبد الرحيم محي الدين). والنتيجـة الطبيعة هي ألا يعتدوا بما تسفر عنـه هذه الآليات.
د.أن قناعات تلاميذه لم تعد تلك القناعات الكلاسيكيـة التي تعتبر أن البيعة للأمين هي بيعة لشخصه، بل إنتقلت لتصور مؤسسي يجعل البيعــة للتنظيم وبالتالي للأمين العام بصفتـه مما يسمح بالتخلص من الشخص لمصلحـة المنظمــة دون إحساس بأن البيعــة قد نقضت، وذلك يسهل معالجــة المسألــة على المستوى النفسي والأخلاقي والمعتقدي، ويؤكـد أن ركون الدكتور/ الترابي لهذه البيعة كان أمرا مغرقا في المثالية والغفلة وغير واقعي.

2. ذهل الدكتور/ الترابي عن حقيقة التحالف بين السلطة والمؤسسات الإقتصادية والمالية للتنظيم وتلك التي استحدثتها السلطة كشركات جهاز الأمن، ولم يفطن إلى أن هذه الأجهزة أصبحت السلطة شريانها الأساسي لمزيد من الثروة بدلا من أن يقتصر دورها على الحمايـة فقط. كذلك لم ينتبه إلى التحول الذي حدث لكادر تنظيمه بعد دمج التنظيم في جهاز الدولـة الشموليـة الذي فتح أبوابا لفساد غير مسبوق برغم تنبهه لذلك الفساد دون إدراك لأسبابه وأنه تطور طبيعي لمن أعطي سلطـة مطلقـة وشهادة مجاهد وقدست أفعاله في دولــة تدعي أنها عابدة! فالواقع هو أن المؤسسات الإقتصاديـة التي أنشــأها الترابي لخدمــة تنظيمــه، أصبح التنظيم خادما لها وأسيرا لنشاطهــا الطفيلي الذي لاغنى لــه عن سلطـة إستبدادية تحميه وتوفر له فرصا أكبر للتطفل بالتحالف مع بيروقراطيتها الفاسدة المتمكنة من أدوات التطفل والمتحكمة في رقــاب الناس. وهذا بالطبع يعكس ضعفــا واضحــا في فهم الدكتور الترابي للآثــار التي يرتبها العامل الإقتصادي وجدل العلاقــة بين الإنسان وموقعـه الطبقي وعلاقتـه بالسلطــة. والأهميــة القصوى لهذا العامل الإقتصادي تتبدى في الهجمــة الشرســة لتلاميذه على مؤسســات ونشاطــات من إختــار الشيخ الترابي الإقتصاديــة والماليــة عند الإنقسـام وتجريدهم من أي قدرة للمنــاورة في السوق، وربما يعكس ذلك رغبـة تلاميذ الدكتور/ الترابي في إعاقة نشاط تنظيمه الجديد وإضعافــه أكثر من أنه يعكس وعيــا بأهميــة العــامل الإقتصــادي وشمـول في النظر لآثـاره مـن قبـل التلاميذ المتمردين.


3. فشل الدكتور/ الترابي في إستنتــاج المدى الذي يمكن أن يصل إليـــه تلاميــذه في خضم الصـراع، حين راهن على حسمــه تنظيميا أولا، وحين حاول أن يبني تنظيما موازيا ظن أنهم لن يفجروا معه في الخصومــة. إذ من الواضح أنـه لم يدرك أن تلاميذه سوف يندفعون لإعتقــالات واسعـة وتلفيق إتهامات بإنقلابات وتعذيب زملاءهم بالحركة الإسلامية سابقا، وبإختصــار تطبيق كل مافعلوه بخصومهم السياسيين تحت إمرتــه وإرشــاده قبل الإنقسـام على منتسبي تنظيمه الجديد. ولذلك فقد القدرة على المبــادرة مباشرة بعـد توقيع مذكرة التفاهم مع الحركـة الشعبيـة، وانتقل لمرحلة دفاع لم يكن مهيأ لهـا ولا هو هيأ لها تنظيمـه الجديد. فبالرغم من خطابه الهجومي، إلا أنه لم يكن قادرا على تشكيل خطر حال ووشـيك يهدد بزوال السلطــة. وربما كان ذلك الملمح أحد الملامح التي جعلت البعـض يشــكك في الإنقســام بالأسـاس ويعتبره مجرد تمثيلية مكررة سيئة الإخراج.
4. تعامل الدكتور/ الترابي مع وساطة المنظمات والأفراد الأصوليون، بشكل لايناسب الظروف ومقدرات المذكورين التنظيميـة والفكريـة وحملها مالاتحتمل بالرغم من أنه كان من الواضح عجزهـا وتخلفهـا وعدم مقدرتها على إستيعاب موجبات ودواعي الصراع حتى تعمل على حله. والناظر للغة التي كتب بها الدكتور للجنة الوساطة وطريقة الخطاب، يعلم أنه ماكان لتلك اللجنة أن تستوعب ماأراده ناهيك عن أن تصل لحلول لم يملكها هو مفاتيحها.

بإختصار نود أن نقول بأن الدكتور/ الترابي الذي طالما كان سياسيـا براجماتيـا لايعبأ بما يقولـه نظريا ولابمايعلنـه من أفكار ونظريات حين تتعارض مع مصالحــه أو مصالح تنظيمــه كما يراها هو، فشل في أن يكـون واقعيــا بحيث يقدر أهميــة عامل السلطــة في إدارة الصراع مع تلاميذه، بقدر فشله في قراءة دور العامل الإقتصادي في علاقته المتداخلة والوثيقـة مع بروقراطيـة الدولــة، ولم ينتبــه إلى أن القواعد واللوائح التنظيميـة مثلها مثل العوامل العقائدية التي يمكن الإلتفاف حولهــا، لم تعد عاملا أساسيا في حسم الصراعات منذ أن قرر هو أن تحسم الصراعات السياسية عبر إنقلاب عسكري. فهو بلاشـك كان بحاجــة لإنقلاب قصر جديد، يطيــح بتلاميــذه المتمردين ويعيــده إلى السلطــة، وليس إلى إنتصار تنظيمي لامعنى له أجهضه تلاميذه بإنقلابهم عليه وحل البرلمان الوهمي الذي كان يرأسه. فالتلاميذ كانوا أكثر واقعية من شيخهم، وأكثر إدراكا لأهمية السلطة وأجهزتها الضاربة المحتكرة للعنف في حسم الصراعات داخل الدول الشمولية، ولذلك نجحوا في هزيمته.
إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان مرة ثالثة
(الآثار والتداعيات)

كان لأنقسام الجبهــة الإسلاميــة آثارا مهمـة وتداعيات متنوعـة، ربما لايمكن حصرها في هذه العجالة، ولكننا سوف نحاول إستعراض أهمهـا. فالإنقسـام أدى لبروز تنظيمين متصارعين همـا المؤتمــر الوطني الحاكم، والمؤتمر الشعبي الذي إنتقل لمواقع المعارضــة بقيادة الدكتور الترابي. والناظر بشكل عام للتنظيمين، يجد أن كادر الجبهـة الإسلاميـــة الذي إنتقل إلى السلطــة وارتبطت حياتــه بها قبل الإنقسام بصفــة عامة، قد إختار التمسك بسلطته والإنضمام للمؤتمر الوطني ماعدا إستثناءات قليلة. كذلك اختار عناصر الأجهزة العسكرية والأمنية بالإجمال الإنضمام لمن هو على دست الحكم، ومن حاول مجرد المحاولــة الإنضمام لجناح الترابي الذي عرف بجناح(المنشيــة) فيمـا عرف الجنـاح الآخــر بجناح (القصر) وفقــا لمواقع إقامــة القيادتين، كان نصيبه البتر السريع والتشريد وربما الإعتقال في بعض الحالات. ومن الطبيعي أن تكون المؤسسات الإقتصاديــة الطفيليــة التابعـة للأجهزة الأمنية من نصيب من يسيطر على السلطة، ولكن الملفت للأنظار هو أن جميع المؤسسات الإقتصادية الطفيلية التابعة للجبهة الإسلامية وعامة الطفيليين الأفراد قد التحقوا بركب السلطــة إلا ماندر من أفــراد تعرضــوا فيما بعد للتضييق والمطـاردة في الأرزاق. فبالعمــوم إنتقل مـع الدكتور لتنظيمـه الجديد ( المؤتمر الشعبي)، المتمسكون بمشروعـه السياسي وهم لايرون وجودا لهذا المشروع إلا في إرتباطـه بالشيخ وتماهيـه مع إجتهاداتـه. ولكن بلاشك لم يكن كل من إنتقل مع الشـيخ من هـؤلاء، فالبعض إنتقـل معــه متوقعـا أن يكون هو الطرف المنتصر في المعركـة، وهؤلاء بدأ البعض منهم بالعودة السريعة لتنظيم السلطة (المؤتمر الوطني)، مثلــه مثل آخرين إختاروا الوقوف مع مجموعة ثالثــة آثرت النأي بنفسها عن الفتنة واعتزلت فريق الدكتور وفريق التلاميذ كما اعتزل بعض الصحابــة عليهم الرضوان فرقاء الفتنة الكبرى. فبعض الذين انتموا لهذه المجموعة، كان موقفهم تكتيكيـا وانتهازيـا حيث لم يشاركوا في المعركــة وانتظـروا ظهور المنتصر للإلتحاق بركابـــه. وبالقطع ماتقدم يوضح أثر السلطة والرأسمال الطفيلي في تعميق الإنقسام.
ظهور التنظيمين بلاشك أضعف التنظيم الحاكم، وخلق توازنا من الضعف بينه وبين المعارضة السياسية المجتمعة في التجمع الوطني الديمقراطي، وجعله أكثر ضعفا في مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية.ولم تكن هذه الأمور غائبة عن أذهــان التلاميذ، الذين تساهلوا مع شيخهم في البدايــة، وسمحوا له بتكوين تنظيمـه الجــديد بإعتبـار أن هذا التنظيم من السهل احتواءه طالما أنهم قد تملكــوا أدوات الحسم وأمـنوا سلطـتهم. ولكن اتضح لهم أن الدكتور/ الترابي لن يقبل بـأن يبقى معارضـة معزولـة مستوعبة ومحدد لها إطار تحركها، بل أنه يسعى سعيا جادا لقلب الطاولة على تلاميذه وإعادة تشكـيل الخارطـة السياسيـة السودانيــة. والواضح أنهم لم يتوقعوا التحـرك الخطير للشيخ وتوقيعــه لمذكـرة التفاهم مع الحركــة الشعبيـة أقوى فصيل مسلح معارض، في ظل ظروف غير مواتية ميدانيا للحكومة، وضغوط دوليـة وإقليميـة كبيرة على النظام. لذلك جاء رد الفعل عنيفا شاملا الرمي بالخيانـة وتحريم الفعل الذي تجاوزته الحكومة لاحقا بإتفاقية شاملــة للسلام. عند هذا المنعطف لم يعد أمام التلاميـذ سوى التخلص من تنظيم شيخهم وضربـه وإغلاق دوره وحبس الشيخ وتلفيق التهـم لإنصاره، حتى يتسنى لهم إعـادة تشكيل الخارطة السياسية وفقا لتصورهم وبعيدا عن منافسته لهم. فاذا كان صحيحا أن ضغط المعارضـة والوضع العسكري الميداني والضغوط الدولية، كانت أساسا لرضوخ الحكومـة ودخولها في إتفاقية السلام الشامل مع الحركـة الشعبيـة، فإن الرعب من تحركات الشيخ ومحاولـة التلاميذ إستباقــه في إعـادة ترتيــب الخارطـة السياسيـة، كان أيضـا من ضمن الأسبـاب التي أسست لتغير موقف هــؤلاء. فبدا أن التلاميــذ يحــاولون بجـد أن يجردوا الشيخ من تكتيكاتـه وفاعليتـــه، عبر الإنتقال من سياسـة الإقصاء لسياسـة الإستيعاب للقوى السياسيــة المعارضـة. فسياســة الإستيعاب التي كانت متبعــة في أيام الإلغاء والأقصاء، كانت سياسـة جزئيــة معززة للإلغاء، تقوم على تشجيع إنقسامـات التنظيمات المعارضـة وإستيعاب المنظمات المنقسمـة. وأما السياسة الجديدة فتقوم على الإستيعـاب لكامـل التنظيمات ولا بأس من العمل على تقسيمهـا لاحقــا. وقبول التلامــيذ للإستيعــاب لكامل القوى السياسيــة في دولتهم، يعكس تحولا في موقفهم من حيث الشــكل، يجعلــهم في تماهي مع تصور الشيخ الذي صارعوه حوله لدرجــة الإنقسام، بل ويشكك في الإنقســام نفســه عند البعض. ولكن إذا أخذنا في الإعتبـار أن الشيخ كان مقتنعـا بفكرتــه، وأن التلاميذ ألجأتهم إليها ضـرورة توازن القوى وتداعيـات الإنقسام نفسه، تتضح المسافة بين الإثنين وتبرز بعض أسباب عدم رغبة الحكومة في تنفيذ ماأبرمته من إتفاقيات تحت الضغوط والخوف من سقوط النظام.
كــذلك أدى الإنقسام إلى مزيد من خضوع السلطـة للضغوط الدوليــة، بل لتقديمهـا تنـازلات كبيرة لم تكن تتصور أنها ستضطر لتقديمهــا. فبالرغم من أن التعــاون مع المخابرات الغربيــة قد بدأ باكـرا قبل الإنقســـام حيث تم التنســيق مع الفرنسيين وتسليمهم كارلوس، ويزعم الأمريكان في بعض تقاريرهم أن النظام عرض عليهم تسليم بن لادن أيضا، إلا أن التعــاون الإستخبـاري الواسع قد تم في سيـاق مايعرف بالحرب ضــد الإرهاب بعد أحداث سبتمبر الشهيـرة. فتحت ضغط الخوف من تواجد النظام ضمن قائمة الدول الراعيـة للإرهاب لدى الولايات المتحدة الأمريكية، والرعب من أن يستبق الشيخ تلاميذه بإبداء تعــاون في هــذا الملف، إندفع التلاميــذ لتقــديم كل مايمكن من عــون لأجهـزة المخـابرات الأمريكيــــة دون مقابل يذكـر سوى الإبقـاء على النظـــام وعدم العمــل على إسقاطـــه. ففي تقدير التلاميذ أن تعاونهم الإقتصــادي بتطبيق شــروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ورهن الإقتصـــاد السوداني لهذه المؤسسات الماليــة ،والمشاركـــة والتعاون في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب ، مع التلويح لأمريكا بجزرة البترول المعدن حديثا، يشكل ضمانا لبقاء سلطتهم وحرزا أمينا ضد نشاط المعارضـة وتكتيكات الشيخ المفاجئة والمؤثرة. فرهان التلاميذ هو العمل على منع إندماج الشيخ مع قوى المعارضـة بمستوى يشكــل خطرا عليهم،وبالخصوص قطع الطريق أمام أي تفاهم أو تحالف مع الحركــة الشعبيـة عبر إستغلال تخوف الأخيرة من كل من لم يبصم على إتفاقيــة نيفاشا، ودق الأسافين بينه وبين القوى الأخرى عبر تذكيرها بأنه عراب النظام والمسئول عن وجوده وكافة جرائمه على الأقل قبل الإنقسام، مع تحركات مكوكية للوصول إلى تفاهمات مع تلك القوى هم يعلمون سلفا أنها غير قابلة للتطبيق لأنها من قبلهم لاتتجاوز حالة كونه تكتيكا سرعان مايتم تجاوزه عبر تكتيكات جديدة.
ماتقدم يعطي ملخصا عن طبيعة العلاقـة التناحرية بين التنظيمين اللذين نتجا عن الإنقسام، ويكرس إنطباعا بأن الوحدة بينهما مستحيلــة، ولكننا نعتقد غير ذلك ونرى إمكانيـة كبيرة لتوحد التنظيمين في ظل شروط معينة. , إحدى المحطات التي يمكن أن توحد التنظيمين هي محطة الإنتخابات القادمة في حال قيامها وعدم نكوص شريكي نيفاشا عن إلتزامهما بإقامتها. إذ أنه في حال قررت الحركـة الشعبية طرد مخاوفها والعودة للتحالف مع قوى المعارضة لدخول الإنتخابات بعد النجــاح في سن قانون إنتخابات عادل ووجود رقابـة دوليـة للإنتخابات، مع فشل تكتيكات الشيخ في أن يصبح أحد مكونات تحالف المعارضــة برغم تحقيقــه إختراقات مهمـــة في هذا الصدد، لن يصبح هنــالك من طريق للحفاظ على السلطة بالنسبة للتلاميذ، سوى إعـادة توحيد الحركـة الإسلاميــة مع محاولـة إستقطاب أحد الحزبين الكبيرين الأمـة أو الإتحادي الديمقراطي. وفي هذه الحالـة لا أظن أن الدكتور/الترابي سوف يختار أن يهدم المعبد عليه وعلى تلاميذه بل سيقبل بالتوحيد مع وضع بعض الشروط. والمحطة الثانية التي تصبح فيها إحتمالات الوحدة أكبر ذات بعد ذاتي يتعلق بغياب الدكتور/ الترابي عن الساحـة السياسيــة لأي سبب من الأسباب. وحينها سوف تكون المسافـة أقرب بين التلاميذ وقيادة المؤتمر الشعبي ،خصوصـا في ظل أجـواء يحــاول التلاميــذ شكـــلا الإجابـــة فيهــــا على ســـؤال الحريـات والديمقراطيـــة عبر تكتيكــات تجـرد الدكتور الترابي من سلاحـه السياسي والإنتخابي الرئيس المقرون بهجومـه على الفســاد والأخير لاسبيل للتلاميذ لمعالجتــه لأنه سمـة ملازمـة لنظام وحكومة رأس المال الطفيلي. بإختصار إن توحيد الجبهـة الإسلاميـة مرة أخرى يشترط وجود خطر داهم ووشيك على سلطــة التلاميذ، وفشــل ذريع لتكتيكات الدكتور/ الترابي يقوده ليأس من تحقيق إنتصـار شامل، مع رضا من التلاميذ بشروط الشيخ لتوحيد المنظمتين كما ذكرنا سابقا، أو بالعدم غياب الدكتور/ الترابي عن الساحة السياسية لأي سبب من الأسباب.

إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان مرة أخيرة
(ملاحظات وإستنتاجات)

الناظر لإنقسام الجبهة الإسلامية وآثاره وتداعياته، تجابهه ملاحظات تقود إلى إستنتاجات بعضها يناقض بعضا في مواضع. ولكن بصفة عامة، من الممكن أن نلخص ملاحظاتنا وإستنتاجاتنا حول هذه المسألة فيما يلي:-

1. ماحدث هو إنقسام فعلي وليس تمثيليــة أخرى شبيهـــة بالعرض السيئ الذي تم تقديمـــه في بدايــــة إنقلاب الإنقاذ، والدلالات على ذلك كثــيرة، منها الصراع الذي ســبق الإنقســام وتوج بمذكرة العشــرة الشهــيرة، وردة فعل الدكتور الترابي بإقصـــاء كل من شارك فيها. ومنها ســلوك التلاميذ تجاه الدكتور وتنظيمه الجديد بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الحركــة الشعبيـة، وكذلك إعتزال عدد لايستهان به من الكادر الوسيط للفتنـة وبقاءه خارج دائرة الفاعليـة السياسيــــة، وأيضا ســلوك المجتمع الدولي تجاه الإنقسام وتوظيفه له. ولكن القول بأن الإنقسام فعلي لايعني التسليم بحدود الإنقسام وسقوفــه التي يحاول المؤتمرين إقناع الجميع بها في تلميح غير واقعي بأن إعادة توحيد التنظيمين مستحيلة. ففي رأينا أن عناصر التوحيد المتوفرة تجعل الوحدة تحت ظروف معينة أمرا راجحا إن لم يكن حتميا، كما أشرنا سابقا. والشاهد هو أن التنظيمين مايزالان يصدران عن آيدلوجيا واحـــدة تبحث عن تأسيس دولــة دينيــة هي المشروع المشترك لهما بغض النظر عمن هو الصحيح في تبني المشــروع والمتمسك بالإتجـاه الصحيح في تنفيذه. بالإضافـة إلى أن الطـرفين يقعان تحت تهديد المحاسبــة عن الجرائم التي إرتكبــاها إبان فترة التمكين للإنقاذ في حال سقوط الحكومة الحالية دون أن يحقق الدكتور/ الترابي إختراقـا يعفيـــه وتنظيمـه من المسئوليـــة. فـوق ذلك إن الدكتور/ الترابي وتنظيمـه قد تركا جزءا مـن كادرهما داخل منظمـات المؤتمر الوطني وفي ظني أن هذا الإختراق الذي تحدث عنه الدكتور/ علي الحاج كثــيرا، قد تم على مستوى قيادة الإنقسـام والمؤتمر الوطني وليس على مســتوى القواعـد فقط، وأن أحـد أغراضـه هو تهيئـة المنـاخ لإعادة توحيد الحركة الإسلامية حينما تكون الظروف ملائمة.

2. إن الإنقســام قد تم على قــاعدة خلاف فكــري حول كيفيـة هيكلـة دولـة المشـروع الحضاري وآليات الإستمرار في السلطــة والحفاظ عليهــا، ولم ينبني على رغبة الدكتور/ الترابي في السيطرة على السلطة نتيجة لنوازع وأسباب ذاتية كما يقول البعض. فالصـراع تجذر بين رؤيتين إحداهمـا تبناها التلاميذ وتتلخص في ضرورة إستمرار الدولة الشمولية القائمــة على إقصاء الآخر وتغييبــه وقهــره، والثانيــة تبناها الدكتور/ الترابي وتتلخص في أن مرحلــة التمكــين التي إستدعت الإقصاء كانت إستثناء وأن الدولـة الدينية يجب أن تبنى على الأصل الذي يقوم على إستيعاب الآخرين داخلها مع منحهم هامش حريات تحـدده هي في شكل من أشكال الديمقراطيـة الموجهـة الذي تتبعـه بعض الأنظمـة الشموليــة المجاورة. والمفارقــة هي أن التلاميذ تحت الضغط الداخلي والدولي وفي سبيل قطع الطريق أمام مناورات شيخهم، قد تبنوا عمليا ماصارعوه عليه دون قناعـة ودخلوا على هذا الأساس في إتفاقيات مع خصومهم المسلحين تنفيذها هو آخر همهم. ولعل سلوك التلاميذ هذا هو الذي مازال يشكك البعض في أن الإنقسام حقيقي أم لا .

3. على عكس ماظل يلمح إليه عدد من الكتـاب حول وجود دور للمخابرات الأجنبية في الإنقسام وبالتحديد لدور للسي آي إيه في مذكـرة العشـرة، إلا أنني أعتقد بأن أسباب الإنقسام كانت داخليــة وأن العامل الدولي أتى لاحقـا في مرحلـة توظيف الإنقســام. وهذا بالطبع ليس تبرئـة لتلك المخابرات ولا إحسانا للظن بها، ولكن في إطـار عدم تهويل مقدراتها وإعطاءها بعدا خرافيـا. والشاهد هو أنـه بالرغم من التعــاون المطلق فيمـا يسمى الحــرب ضد الإرهــاب إستســــلاما للضغــوط، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكيـــة مازالت تعـاني في تمرير كامل مخططاتها في السودان، وهي مازالت مصرة على عدم رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولو كانت السي آي إيه هي مدبرة الإنقسام لكانت لها سيطـرة أكـبر على المؤتمر الوطني ولما احتاجت الولايات المتحدة للمؤسسـات الدوليـة لتمرير مشروعها في السودان إلا في حدود إستخدامها كغطاء لنشاطاتها وهذا ليس هو الحال اليوم. أما النظام المصري الذي سوق الإنقسام وحكومة التلامـيذ إقليميــا ولم يتعظ من الخطـأ الإستراتيجي المتمثل في تسويقـه الإنقلاب الأول في العام 1989 ، فهو بالتأكــيد إلتحق بركب الإنقســام بعد حــدوثه بغرض توظيفــه. وبالرغم من علمه التام بأن التلاميذ ضالعين في محاولـة إغتيـال الرئيس مــبارك بل هم مدبريها، إلا أنــه فضــل دعمــهم بهــدف التخلص من الدكتـــور/ الترابي صـــاحب الأحـــلام الإمبراطوريـــة الإقليميـــة والدوليـــة الذي كون المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وصــدر الرؤساء للدول المجاورة (إدريس دبي مثالا)، وجسـر علاقاتـه مع الحركات الأصوليـة بمستوى شكل تهديدا إستراتيجيا للنظام المصري ودوره في المنطقة. ومعادلـة النظام المصري بسيطـة ، هي أن حلم التلاميذ لن يتعدى اللهاث للحفاظ على السلطة في السودان وأن سقوفه حتى وإن إمتدت لأبعد من ذلك فهم أضعف من أن يتبعوها، بالإضافة إلى أن ضعفهم وحاجتهم للدعم يشكل مدخلا لفرض شروط النظــام المصري السياسيـة ( حلايب وإتفاقيـة الحريات الأربع نموذجا). والواضح هو أن الدول التي إلتحقت بركـاب الإنقلاب/ الإنقسام ووظفتــه، قد حققت نجاحات لاتخطئها العـين إنبنت على قاعـدة واضحــة في السياســـة، هي أن النظام الضعيف بالداخل بحاجــة للخارج للإستعانــة بـه ضد مواطنيه، وبالتالي هو الأفضل للخارج والأكثر إستجابة لضغوطه.

4. فشلت المعارضــة المتمثلــة في التجمع الوطني في توظيف الإنقسام وأهدرت وقتها في مفاوضات وتوقيع إتفاقيات مع التلاميذ، لاتســاوي الحبر الذي كتبت به. فالواضح لكل ذي عينين أن هدف التلاميذ من كل الإتفاقيات التي وقعوها هو إستيعـاب وإحـتواء القوى السياسيـة الأخرى داخل النظام الحاكم، وهو خيار ألجأهم إليه الإنقسـام على غير قناعـة منهم ، إذ أن برنامجهم الأصـلي هو مواصلـة إقصاء وقهر القوى المعارضــة. ويؤكـد ذلك إجتهادهــم في توقيـع إتفاق فردي مع الحركــة الشعبيــة بغرض تحييدها وإلحاقها بالسلطــة، وهو إجتهــاد إنبنى على تحليل سلـيم لموقف المجتمع الدولي الذي تعامل مع مشكلــة الســودان على أنها مجرد صراع بين الجنوب والشمـــال. كذلك فصلهم لملفـات الشرق والغرب ومفاوضة بقايا التجمع على حدة. والنتيجة هي أنهم نجحوا في توقيع إتفاقية نيفاشا مع الحركة الشعبية وحولوا الأخــيرة بموجبهــا إلى مجــرد ممثل للجنوب، وأبرموا إتفاقيــة القاهرة الهزيلـة مع بقايا التجمع والتي أصبحت جسرا للحاق هذه البقـايا بإتفاقيــة نيفاشا من مواقع متخلفـــة وجعلتها تشارك في مؤسسات نيفاشا الشكليــة وبعضها شارك في الحكومـــة، وأيضا نجحوا في توقيع إتفاقيــة مع أحد أجنحــة تنظيمات دارفور ومع جبهـــة الشرق. وبالنظــر لكل هذه الإتفاقيات، نجد أن البند الوحيد الذي يسرع التلاميذ في تنفـيذه هو إستيعــاب قيادات الجهــات المعنية في أجهزة الدولة والبعض في وظائف وهميـــة كمساعد أو مستشار لرئيس الدولـــة، ومن ثم وضــع العصي في دوالـيب تنفيــذ البنود الأخرى على ضعفها. لذلك كان الموقف الإستراتيجي الصحيح لقوى التجمع المعارضـة بعد توقيع إتفاقيـــة نيفاشا، أن تتمسك بمقررات أسمرا، وتبقى في المعارضــة دون الدخول في إتفاقيات هزيلـة كإتفاقية القاهرة، هم أول من يعلم أنها غير قابلــة للتنفيذ. والواضح هو أن بعض قوى المعارضــة قد راهنت على عامـل الضغــط الدولي، متناسيـــة أن هذا الرهان خاسر من وجهين: أولهمــا أن هذا العامل متغير بتغير مصالح الدول صاحبـة القدرة على الضغط، وثانيهما أن سقف هذا الرهان هو التدويل الشامل لقضايا الصراع السياسي السوداني وخروجها عن نطاق سيطرة القوى السودانية المتصارعة كلها.

5. يعمل الدكتور/ الترابي بجد لتوظيف الإنقسـام والإستفـادة منه لمصلحـة مشروعه. فهو من جهة يحاول إعادة تأهيل تنظيمه المؤتمر الشعبي كتنظيم معارض فاعل يسعى لتجسير الهـوة بينه وبين التنظيمات المعارضة الأخرى وقد حقق بعض الإختراقات في هذا الإتجاه، وفي نفس الوقت يشـكل ضغطــا مستمرا على تلاميذه بمناوراته السياسية وبإختراق تنظيمهم من القمـة إلى القاعدة. وفي تقديري أن إعــادة التأهيل من مواقع الممايزة بين سـلوك التلاميذ ونقاء المشـروع المزعوم، يستلزم أكــثر مما فعل الدكتور حتى يسمح لـه بالإندماج في حركـة معارضـة فاعلـة. فالدكتور وتنظيمـــه لم يتقدما حتى هذه اللحظة بالأسباب الحقيقية التي دفعت الجبهــة الإسلاميــة للإنقضاض على الحكومــة الديمقراطيــــة، وأهميـــة هذا الإعتراف تكمن في تقدير صدقيـــة التنظيم في نقده للإنقلاب نفسـه لأن حدوث ظروف مماثلـة قد يدفعه للإنقضاض على السلطــة الديمقراطيــة القادمـة. كذلك لم يكشف التنظيم كل الجرائم التي شارك فيها إبان فترة التمكين ولم يقدم جهدا فكريا واضحا ينتقد فيه مفهوم التمــكين ويخرج به حالــة الإستثناء تلك من أجندتــه حتى نصدق أنه تاب وأناب للأصل وهو الديمقراطيــة والحريــات. أيضا لم يبد التنظيم إستعدادا للمحاسبـة عما تم إرتكابه من جرائم. وفوق ذلك كله مازال التنظيم متمسك بالدولـة الدينيـــة كآيدلوجيا ومشروع مع الزعم بأنه ديمقراطي وهما أمـران لايستقيمان معا. فلتبني دولة المواطنـة كأساس، يحتاج التنظيم لتحول شبيه بتحول حزب العدالة والتنمية التركي وأن يجد تخريجا فقهيا لذلك وهذا أمر لايؤهله واقعه له. والأسوأ هو أن التنظيم برغم نـقده للفساد ولدولــة الفساد، لايقدم تفســيرا مقنعــا حول الأسباب التي حولت أصحاب الأيادي المتوضئـة ونماذج القوي الأمـين لفاسدين، ويريد أن يلقي بهذا الأمـر على شماعة السلطة فقـط دون أن يصل إلى أن ذلك هو شأن السلطــة الشموليـــة لرأس المال الطفيلي تحــديدا. ولـذلك يقف الدكتور/ الترابي وتنظيمه في نقدهم عند المؤسسات الماليـة التابعة للدولة ولجهاز الأمن وضرورة عدم منافستها للناس في الأسواق، ولايعممان النقد لطبيعة نشاط هذه المؤسسات نفسه. وهذا يعني أن الدكتور وتنظيمه يريدان خصخصـة هذه المؤسسات التي تمارس التطفل، وإعادتها للحزب مما يعني أنهما يرغبان في تكريس النشاط الطفيلي خارج جهاز الدولة وتحت مظلة الحزب. وهذا ببساطة يعني إعادة هذه الدورة الجهنمية وبناء تنظيم آخر للنشاط الطفيلي من الممكن أن يثب على السلطة في أي لحظة.

ماتقدم من ملاحظــات وإستنتـــاجات، بالحتم لايغطي كامــل مايمكن إستخراجه من ظاهرة الإنقسام/ المفاصلـة، ولكنه يشكل مجــرد مقدمــة لقراءة أوليــة تسمح بالبنـــاء عليها لإتخاذ مواقف سياسيــة آنيــة وعاجلــة لتصحيح مسار العمل المعارض.

18/ أشار المشروع للخط التنظيمي وقصره على الشكل التنظيمي، وفي تقديرنا أن الخط التنظيمي يشتمل على أكثر من ذلك حيث لايمكن فصل البناء التنظيمي عن الشكل والمبادئ التنظيمية وقراءة ذلك في واقع معين ومرحلة زمنية يمثل الخط التنظيمي، في حين أن قصر الخط على الشــكل قد يقـود للتبسيط المخل والرؤية الأحادية لعلاقة جدلية معقدة وعدم إستيعاب للخط ولنشاط الحزب التنظيمي.
خلاصة:-
نود أن نؤكد أن ماتقدم هو خطوط عامة للمساهمة في نقد المشروع، لم يتسن لنا الوقت لإعادة ترتيبها أو مراجعتها لوضعها بشكل أفضل وأكثر علمية‘ ولكننا فضلنا أن نبادر بها على أن ننتظر ماقد لايحدث أبدا لضيق الوقت، عسى أن تكون مساهمة ذات قيمة وتقود لمراجعة المشروع ولو في بعض مناحيه.
ودمتم



#أحمد_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لفرنسا وجهة نظر!!!(عودة هادئة لقانون حظرالرموز الدينية بعد إ ...
- موقف مرائي من الإحتلال! (في الرد على بعض محاججات دعاة التطبي ...
- إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان مرة أخيرة (ملاحظات ...
- إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان مرة ثالثة (الآثار و ...
- إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان مرة أخرى (لماذا إنت ...
- النظام القانوني للدولة المهدية-أول دولة دينية في تاريخ السود ...
- مفهوم الدولة في الشريعة الإسلامية وأثره في تغييب مبدأ سيادة ...
- إنقسام الجبهة الإسلامية الحاكمة بالسودان- صراع د. الترابي وت ...
- مداخلة في فقه مصادر القانون (التشريعات الإسلامية في السودان ...
- أخطاء قاتلة في قراءة إستراتيجية!!( حديث في محرمات السياسة ال ...
- هوامش على المتن-(قراءة نقدية موازية لمقالات الأستاذ نقد الخم ...
- في أصول ضبط المصطلح- السودان: نخبة نيلية حاكمة أم نخبة طفيلي ...
- أثر التشريعات الإسلامية في النظام القانوني السوداني
- مسائل لا تحتمل التأجيل-التحالفات وقضايا المشاركة في السلطة
- الشريعة الإسلامية وغياب مفهوم النظام القانوني الحديث
- أزمة شريكي نيفاشا- محصلة طبيعية لبداية وحسابات خاطئة


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - أحمد عثمان - مساهمة في نقد مشروع التقرير السياسي العام المقدم للمؤتمر الخامس