أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدى بندق - الشاعر العربى يبحر نحو المستقبل - قراءة فى شعر خالد البرادعى ومسرحه















المزيد.....

الشاعر العربى يبحر نحو المستقبل - قراءة فى شعر خالد البرادعى ومسرحه


مهدى بندق

الحوار المتمدن-العدد: 2106 - 2007 / 11 / 21 - 10:39
المحور: الادب والفن
    



1 -‏ (شاعر أنت والكون نثر‏ والنفاق ارتدى أجنحة‏ وتزيا بزي ملاك جميل‏ والطريق طويل‏ والغناء إجتراء على كشف سر).‏ كلمات صلاح عبد الصبور هذه أسمعها تهمس رَعَدِةً بها روحي كلما التقيت من يكشف لي سراً. وسواء كان الكاشف فيلسوفاً (من ابن رشد إلى زكي نجيب محمود) أو مفكراً اجتماعياً (من ابن خلدون إلى جمال حمدان) أو إماماً دينياً عاملاً (من على بن أبي طالب إلى محمد عبده) فإنني لا أملك إلا أن أهتف به: شاعر أنت والكون نثرُ فأما (الشعراء) الذين لا يكشفون سراً ولا يجترحون قائماً مستقراً، الشعراء هؤلاء الذين هم أكثر من ا لهم على القلب فإنني أقول لهم : كان أولى بكم أن تنثروا ما نظمتم، وربما كان الأولى فالأولى ألا تنظموا أو تنثروا لكنكم لا تملكون الحياء الذي دفع (بالكميت) وهو بعد صبى إلى أن يستأذن الفرزدق؛ هل يذيع شعره إن كان شعراً أم (يستر) عليه الشاعر الكبير، مؤمناً أن إذاعة المكرر والمقلد والتافه السطحي فضيحة بل هي جريمة.‏ فالشعر في جوهره، إن هو إلا موسيقى الروح تتفجر عطفاً على الكائنات معايشة لها وارتباطاً بمصائرها واندماجاً وجدانياً بكينونتها، وهكذا تفجرت موسيقى صلاح عبد الصبور معبرة عن اندماج مصيره بمصير (لوركا) الشاعر الذي اغتالـته الفاشية، فأما القارئ (الذي يقرأ بعينيه أو بأذنيه لا بقلبه) فما هو إلا منافق لأنه ليس أخاً شبيهاً بالإنسان.‏ Hypoctrie lecteur‏ Mon semblabe, mon frére‏ وها هو ذا الشاعر السوري العربي خالد البرادعي يصرخ ليس من طعنة الرصاصة في قلب الشهيد اللبناني، بل من أوراق النفاق الكثيرة التي تدبجها الصحف العربية تذرف الدموع بعين وتنظر إلى أرصدة أوراقها المالية في بنوك الغرب بعين أخرى.‏ (سمعتُ المصاحفَ تبكي‏ وأنتم جميعاً قتيلٌ بكى قاتلهْ‏ وكان اليهوديُّ يسحبُ ناقتهُ‏ مِنْ قناةِ السويسِ إلى طبريا‏ وتاريخكم كُلُّهُ راحلهْ )(1)‏ في هذه القصيدة (يوميات شهيد في لبنان) يطارد الشاعر تاريخنا فاضحاً أسراره المخزية:‏ ما لِحُكَّامِ الطوائِفْ‏ وزَّعوا أدوارَهم بالعاصفهْ؟‏ فتميميَّ يُهادنْ‏ ومعدِّيٌّ يلاينْ‏ وقريشيٌّ يواري النجسَ الغربيَّ عن راياتِ مازنْ‏ ونزاريٌّ يصبُّ الزيتَ في نارِ هوازنْ‏ وكُلابيٌّ يُنادي في المآذنْ‏ أَنَّ من أَسْلَمَ للغزوِ سِلاحهْ‏ فَهُوَ آمِنْ (2)‏ فتاريخنا هذا ليس إلا تاريخ حكام تعلموا بقاءهم على العرش مرتهن بشرطين، أو لهما قهر رعاياهم، وثانيهما خضوعهم هم أنفسهم للغرب الاستعماري.. وأما شعوبنا فتحيا خارج التاريخ إن كانت ثمة حياة خارج التاريخ والشاعر خالد يؤكد في مسرحيته الشعرية (الأمبراطور زمسكس)(3) هذا المعنى حينما يصور مأساة أمة لا يتولى أمرها إلا كل انقلابي قادر على اغتيال سلفه ما دام يجد حولـه من يصور لـه الجريمة في هيئة عمل ثوري.‏ تيوفانو : لا. في مَقْتَلهِ راحتُنا‏ إِنْ كانَ سيؤذي خطواتِ الثورَةِ‏ والمسرحية جميعها تدور حول محورين اثنين: القصر الملكي والكنيسة، فهما وحدهما مطبخ السلطة والتسلط، أما الشعب فهو المطبوخ المأكول على موائد الغزاة ثم ينال الطغاة ما تبقى من لحمه وعظامه. ولقد يرى الناقد المحترف أن غياب الخصم antagonist أو قل غياب البطل الحقيقي Pratagonst (الشعب) لا شك يضعف الصراع الدرامي إن لم يكن ملغياً لـه أساساً لكن الشاعر بمنطق الفنان التشكيلي إنما يستحضر هذا الغائب بشكل مطلق وكأنه يدعوه إلى التدخل ليوقف هذه المهازل الجارية باسمه. فالشعب اصطلاحاً هو الناس لكن في كيان سياسي موحد، إنما وحدته قمينة بألا تنفى أو تطمس تنوع طبقاته وفئته وضرورة تشكلها في أبنية ذاتية (أحزاب نقابات، جمعيات، مؤسسات... إلخ) فأي بلدان الوطن العربي يسمح بنمو هذا المجتمع المدني وتطوره؟ ربما كانت مصر بحكم وقعها الجغرافي البحر أوسطي واحتكاكها من قديم بثقافات أوروبا وبحكم سبقها إلى التحديث أقرب العرب إلى هذا المطلب شريطة ألا تنخلع من (موضعها) العربي لأنها منه موضع (القلب) من الجسد بالمعنى الشعري لا الفسيولوجي، فإذا انخلع عن جسده ضل القلب وغوى الجسد وتخاصمت أعضاؤه.‏ (هذي مصرُ مسافرةٌ نحو الغربِ. ضحى‏ تغتسل وتستبدل مئزرها‏ فثياب الليلْ‏ أضيقُ من لغةِ الضوءْ‏ والأرضُ مبللَّة بالزيت هنا‏ وشيوخُ البدو يغنون مساءً‏ وصباحاً‏ يختصمونَ على بوابة مقصورتها)‏ فإما إذا مصر استبدلت بالموضع situation الموقع site واستبدلت بالعروبة النظام الشرق أوسطي/ الأوربي/ الأمريكي سقط عنها مئزرها وإذا شعبها الذي قاد الثورة العربية ذات يوم قريب:‏ (عريانٌ أعزلْ‏ والطاغوتُ طويلُ‏ والليل البارد أطولْ)‏ وكأَنَّ البرادعي يتنبأ وهو يرى إخفاق المجتمع المدني بقيادة الطبقة البرجوازية في إنجاز الوحدة العربية إخفاقَهُ في السير بالثورة الوطنية الديمقراطية إلى غايتها. فالبرجوازية المصرية تلك الطبقة المذبذبة منذ ميلادها ، تضغط عليها الرأسمالية لتكون تابعاً لها وتضغط عليها الطبقات الشعبية لتقودها إلى الاشتراكية وهي لا تريد التبعية ولا الاشتراكية، فماذا تفعل غير أن تثبت أو تتجمد حتى يخرج من صلبها بورجوازيون صغار ينادون بالعودة إلى الماضي.‏ (العودة نحو قبور الموتى أسلَمْ )‏ ويرفع أشباح الماضي هؤلاء سيف الإرهاب الديني في وجه الدولة والمجتمع المدني جميعاً حتى يصرخ الشاعر موجوعاً:‏ (مصرُ مسافرةٌ‏ يا ولدي لا تعرف أنت إلى أين )‏ غير أن شعر البرادعي ليس نبوءة دينية كنبوءة عاموس في العهد القديم بل هو بحث عن الـهوية يحذر وينذر، وليس غوصه في التراث بل ليس إلا صدى قويّاً لحركة التنوير التي بدأها في القرن الماضي الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين، استخلاصاً لفكر المعتزلة من براثن النسيان وتجديداً لفلسفة ابن رشد وفقه الأحناف الأول لكنه يكتشف مثل (حسن طلب) أنه لا يمكن مقايضة:‏ (بالنعت الفلزِّ‏ بخمسة الأسماء علم وظائف الأعضاء، بالمترادفات مفاعلات في الذرة، الآلات بالعلل المصانع بالمضارع والمضاف إليه والمجرور بالجزم الجيولوجيا، بلام النصب أو واو المعية أو أداة النهي هندسة القوى، بعلامة التأنيث درفلة المعادن بالمعلقة الجهاز) (4)‏ ذلك أن البرادعي حين يلتقي (ألولغا) امرأة الحضارة العلمية لا يجد في جيبه من هدية لها إلا قصيدة الشعر:‏ سمعتُ مَنْ يهتفُ في ضلوعي‏ : لابدَّ مِنْ هديةٍ تُفرحُها‏ وانغرستْ أصابعي العشرةُ في جيوبي‏ فلم أجد غيرَ القمرْ‏ وضُمةً مِنَ النُّجومْ‏ نسيها السَّحرْ‏ وبضعَ أُغنياتْ‏ ضلَّت بعصرِ التيهِ والشتاتْ‏ والتصقتْ قصيدةٌ بكفِّي‏ تُلحُّ أن أكتبُها‏ لكنَّ هذا الحُسنَ مِنْ أمامي أَحرقَ أَيَّ حرفِ (5)‏ إن حواء الحضارات تحتاج إلى الجديد فالأصالة لا تعني القديم بحال، بل التميز فحسب، أن تكون أصلاً Origin فلا تكون تقليداً حتى لنفسك ولماضيك، ولأن الشاعر العربي الأصيل قد أدرك أنه لا شيء طالما قدم نفسه للعالم المعاصر باعتباره حفيد بناة الأهرام ومشيدي المسجد الأموي، فلقد كان ضرورياً أن يحاول الرحيل إلى المستقبل.. وهذا الرحيل مطالب إياه بأن يتزود بأدوات فنية غير التي درج القوم على استعمالها. فالعمود الخليلي بثباته الإيكولوجي وتناظر معماره في المصراعين (معبراً عن ثنائية الحاكم والمحكوم، المطلق والنسبي في توازيهما توازي شريطي القطار أبداً بغير التقاء) ذلك العمود / المعمار لن يكون سفينة الرحلة في البحار الغامضة، لا ولا حتى وحدة التفعيلة تلك التي قننتها وأطرتها نازك الملائكة حتى صارت مطلقاً جديداً. بل تنوع التفاعيل وهارمونية الإيقاعات هي التيار الذي يحاكي (الخلق الأول) الذي يرى أن (الوجود) يظل ناقصاً لا يكتمل معناه إلى في (الحقيقة) وهذه الحقيقة لا يمكن تجسيدها إلا بالعمل حيث يستلهم العمل حقيقة الجمال مثلاً من الجميل) الذي يتشكل كل آن. الحقيقة إذن لا تكون إلى في المستقبل وليست هي قط تلك التي (كانت) في الماضي. لهذا فإن الشعر الجديد وإن استخدم التفعيلة فإنه يستخدمها حقاً ولا يتركها تستخدمه. بمعنى أنه بمجرد أن يستنفد طاقتها الموسيقية تراه يثب إلى غيرها:‏ Hbpping, Like a Bird fram‏ Branch to another‏ خالد البرادعي الذي بدأ عمودياً ثم صار من شعراء التفعيلة (بالمقصود الملائكي) نراه الآن يندفع شيخاً/ فنياً متجاوزاً ثنائية الماضي/ الحاضر واثباً إلى مركب sunthesis هو مستقبل الشعر المعادل الموضوعي لمستقبل الأمة:‏ ( وأنا‏ كلما لامستِ النشوةُ كأساً‏ رحلت ذاكرتي‏ خلف مطايا من سرابْ )‏ فالموسيقى في هذا المقطع تشي بما سوف يكون عليه المستقبل من تنوع ورفض للأوهام التي تعيش عليها الذاكرة. فالسطر الأول يعطيك انطباعاً بأن التفعيلة من البحر المتدارك بزحاف الخبن، لكن السطور التالية تكشف عن تفعيلتين من البحر الرمل تامتين ثم ثلاث تفعيلات من نفس البحر لحق بها زحاف) فعودة إلى تفعيلة المتدارك المخبونة وفجأة نرى وثبة إلى رجز دخل عليه (الطي) فعودة إلى المتدارك بإدخال علة زيادة (التذييل). وفي مقطع آخر نرى استخدام دائرة المتفق (المتقارب والمتدارك) يرصعها الرمل بزحاف (الكف) وليس المتقارب العروضي:‏ (تقولُ النوارِسُ – وهي تلملِمُ أَعْراسَها‏ : إنَّ للبحرِ فَصْلَ غِيابٍ‏ ينامُ بهِ مُسْتريحاً مِنَ الخَوْفِ‏ ثم يُلمْلِمُ أسرارَهُ نحوَ صُبحِ الشُّطوطْ‏ و ترجِعُ للبحر أَفراحُهُ الغافِيَهْ‏ و الطيورُ تخبِّئ في البرْدِ أسْرارَها ) (6)‏ إن الوعي الجديد باللغة وبإمكانياتها وموسيقاها المستقبلية يتساوق مع وعي الإنسان الجديد الذي ينظر إلى مشكلات الحاضر بضوء المستقبل لا في ظلال الماضي، لهذا فإن الشاعر الجديد لا يكترث بالتشبيه البليغ أو الاستعارة أو الكناية، بل يلجأ إلى ابتداع صور خيالية بمنطق الديالكتيك ( وليس بمنطق أرسطو) وخالد البرادعي حين يرى (فصل الغياب) معادل الثورة العربية (ينام في البحر) معادل الزمن المجسد، لا يلبث أن يكتشف أن هذا النوم (بالمعنى الجنسي) لا بد وأن يولد طيوراً (لم يقل نوارس لأنه لا يدري ماذا ستكون) وهذه الطيور تخبئ أسراراً والشعر وحده يعرفها إنها الفرحة والضحكة التي يخشاها السلطان:‏ ( : أنتَ عبدَ اللهِ مقبوضٌ عليكْ‏ تَحفرُ الأَرضَ بلا إذنٍ منَ السُّلطانْ‏ كَيْ تَكْشِفَ أسْرارَ السنينَ المُقبِلَهْ‏ تَتَخَفَّى نحنُ شاهَدْناك في ظلِّ الخُزامَى‏ و تُنادي الغيمةَ المرتَحِلَهْ!! ) (7)‏ وقد يقتله السلطان لأنه كشف السر وعرف فأذاع أن المستقبل للشعب.. ولكنه بضحك:‏ (شاهَدَ الحُرَّاسُ عبدَ اللهِ‏ مَشْنوقاً على السُّورِ صَباحاً‏ و بُكاءُ الريحِ يُخْفي ضَحِكَهْ .) (8)‏ ليكن، فإن رحلة الإنسان العربي تبدأ (مثلما تقول) من الآن وعيناها على المستقبل والضحكات في العيون اجتراء على كشف سر.‏ شاعر أنت يا خالد ... والكون نثرٌ‏ ***‏ 2‏ جماليات اللغة الدرامية في مسرحية (الزهرة والسيف)‏ ليست الدراما الشعرية مجرد اتحاد فيدرالي بين الشعر والدراما. الدراما الشعرية إمبراطورية لا تني تتسع بغير حدود. إنما أملاكها تمتد على خارطة الروح لا الأجسام. السلم فيها توأم سياسي/جمالي للحرب. والحرب غايتها السلام.‏ هي مملكة للعواطف الحارة. والانفعالات الممطرة، وا لهواجس الثلجية. لغتها العطر والدخان ممتزجان. الحروف فيها أطفال تتواثب للصبا، والأسماء على جبينها فلاحون طيبون منتجون. وبين أيديهم الأفعال فتية ملاحون رواد فضاء، ومعانيها صبايا فاتنات مراوغات، عيونهن: الحورُ ناعسات فاحصات، وقدودهن علامات تعجب واستفهام.‏ ومن جمهورية للتواصل المباشر. ربما كان الحوار فيها يشغل منصب كبير أمناء الرئاسة. ومحتمل أن تتبوأ بها الاستعارات والأمثولات مناصب الوزراء والمحافظين، بيد أن هؤلاء الكبار مستعدون دوماً أن يستقبلوا أي لفظ جلف، وأي كلمة متشردة، أو حتى أصوات الأنوف الوقحة. ولم لا ؟! أليس هؤلاء أعضاء أيضاً في مؤسسة اللغة.. أعلى مؤسسة ديمقراطية بناها الشعب قبل التاريخ؟!.‏ ورغم كون الدراما الشعرية كياناً قائماً بذاته (أنطولوجيا) وليست تعبيراً عن شيء خارجها: إلا أن شبكة من علاقات المخايلة التاريخية والأسطورية. منسوجة بتبرقعات الحاضر، قمنية بأن تسعى وراءها مثابرة كي تقتنصها قنص (بان) دون جدوى، فاللغة الدرامية كوكب دري يسبح في سماء الغد الآتي حُرّاً طليقاً، وهي ربة عذراء لكنها قادرة على إنجاب البطل الخالق المخلوق، الحاكم المحكوم، المتخيل والملموس في آن.‏ فهل من دهش أن تنبجس أفعال وممارسات Prazis هذا البطل في المهد وكهلاً، إنتاجاً مشتركاً بينه وبين توأمه الشاعر، إذ يقومان معاً بتنمية اقتصاديات الجمال؟! وهل من عجب أن يثمر نضال التوأمين إضافة (بل وخلق) عالمٍ من أقواس قزح الملونة المتعانقة في مواجهة فسيفساء الواقع وتشظياته الرمادية؟!‏ يَبْدَهُنا الشاعر الكبير خالد محيي الدين البرادعي على هذا الدرب بدرامته الشعرية الجديدة (الزهرة والسيف) ليؤكد لنا أن الدراما الشعرية لا تتجلى إطلاقاً في هيئة مرآة تعكس الواقع المعيش، لكنها تتجلى فحسب بهيئة بلورة سحرية تكشف عن جوهر هذا الواقع لا أعراضه، بلادته ونقصانه، استفزازاً لـه أن يتغير.‏ وآية ذلك أن الحدث المسرحي هو نفسه في ظاهر الأمر، العرض المختصر لتاريخ الإنسان، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل إلى اليوم.. حيث يقتل جنود الاحتلال النساء والأطفال، وحيث يقتل الإرهاب من يخالفه الرأي والعقيدة ، وحيث تفترس الشركات الرأسمالية الكبرى لحوم الفقراء. وفي الوقت الذي يموت فيه الأبرار لأنهم يرفضون أن يتحولوا إلى قتلة، فإن الفجار لا يتورعون عن قتلهم خضوعاً منهم لغواية المرأة الفاتنة، اللذة، الشهوة، السلطة (رفض محمد أن يقتل أخاه ليظفر بالكنز, لكن أخاه هشام قتله دون تردد ليكتشف أنه قبض الريح في النهاية).‏ ذلك الحدث البسيط، الذي يذكرنا ببساطة أحداث التراجيديات الإغريقية الكبرى، ينسج حولـه شاعرنا الكبير البرادعي ثوباً شفيفاً تزينه جماليات لغوية لا حدود لها، جماليات هي بذاتها مجموعة أفعال وردود أفعال. فقارئ المسرحية يكاد يلهث وهو يتابع إغواء المرأة للبطل. وقارئ المسرحية يرهص لنفسه بأن البطل سيصمد. وحين يكتشف أن نبوءته تحققت يكون القارئ أعني، قد استدرج إلى صلب الحدث. صار جزءاً لا يتجزأ من هذا العالم العجيب. ومرة ثانية يخمن القارئ أن الإغواء سيتبدل، وأن المرأة اللذة الشهوة السلطة لها مساحة ستنتقل إلى الجانب المعاكس فتحرض الشقيق الآخر بالضد على شقيقه، وبينما كان القارئ على يقين من صلابة الأخ الأكبر، نراه مستضعفاً مستخدماً متشككاً في قدرات الأصغر على المقاومة. هل لأن الأصغر صغير النفس؟! هل لأنه اعتاد أن يكون المعيل لا العائل؟! هل لأنه كان مقلداً ولم يكن قط مبدعاً؟!‏ أسئلة كثيرة تتناوش القارئ بينما يكون متحدراً مع الشقيق الأصغر في اتجاه ا لهاوية المروعة حيث السيف والرقبة المقطوعة والدم المتفجر عن قلب الحبيب، وحين تبلغ المأساة ذروتها بمقدم الأم، مع اكتشاف القاتل أن التي أغوته هي ذاتها هاجرته، فالوجود كله كذب وعدم.‏ بيد أن خالد محيي الدين البرادعي ليس شاعراً عدمياً، بل هو شاعر مناضل (على نحو ما بينا في دراسة لنا سابقة)(9). شاعر يستخدم أحياناً آلية النقد الذاتي لتراثنا وحاضرنا جميعاً كي نفيق ونتغير. وأحياناً أخرى نراه يستخدم آليات الفكر الحداثي ولغته الطازجة في بث الأمل:‏ (تقولُ النوارِسُ – وهي تلملِمُ أَعْراسَها‏ : إنَّ للبحرِ فَصْلَ غِيابٍ‏ ينامُ بهِ مُسْتريحاً مِنَ الخَوْفِ‏ ثم يُلمْلِمُ أسرارَهُ نحوَ صُبحِ الشُّطوطْ‏ و ترجِعُ للبحر أَفراحُهُ الغافيَهْ‏ ..... ...... ....‏ تلك اللغة الدرامية وهي إبداع على غير مثال سابق، هي بعينها ذلك الـ Antigonist الذي يتصدى للبطل الشرير في ملحمة الوجود: الفناء. وفي هذه المسرحية تحديداً نرى الفناء بطلاً شريراً تحيط بنا أفعاله منذ البداية حتى النهاية. فالجدب الذي حلَّ بحقل الأخوين كان البداية، بداية المأساة، وهو المعادل الموضوعي Objective correlative للجدب الكامن في النفس البشرية. وكما كان منديل ديدمونة مجرد تكأة سيكولوجية انتهز عطيل فرصة ضياعه ليفجر أحاسيسه الدفينة التي لا تصدق استحقاقه لتلك الجميلة. فإن البرادعي استطاع أن يوحي إلينا بأن الحقل المجدب. واحتياج بطل المسرحية (محمد) إلى المال لاستصلاحه مرة أخرى، إنما كانا معاً مجرد تكأة نفسية يتفحص بها الرجل أعماق نفسه، كي يصل إلى إجابة لسؤال خطير: هل أنت مستعد أن تقتل لتظفر بطيبات الحياة؟ وكان الجواب قاطعاً باتراً:‏ إنَّكِ حِسْناءٌ مجْنونَهْ‏ حَسْناءٌ حَمْقاءْ‏ إنكَ جِنِّيَّهْ‏ يملؤها الشرُّ وتعشقُهُ‏ هل أَقْتُـلُ مَنْ يَبْصِرُ بي والدَهْ‏ ويَحنُّ إليَّ حَنينَ الطِّفْل إلى أَبَوَيْهْ‏ أَقْتُـلُ أُمّاً… مَنَحَتني فَصْلَ نَضارَتِها‏ واكْتَهَلَتْ مِنْ أَجْلي‏ ... ... ...‏ وبالمقابل يكون جواب الأخ الأصغر معادلاً لمعدنه الخسيس:‏ قَدَري أَنْ أَرْفَعَ السَّيْفَ إِذَنْ‏ لم يَعُدْ لي أَيُّ دَرْبٍ غَيْرُ هذا‏ ... ... ...‏ ها هو يتذرع بعقيدة الجبر، عقيدة سائر الطغاة. سيقتل وينسب فعلته للأقدار. يمحو إنسانيته وقدرته على الاختيار الحر ليصبح مجرد شيء من أشياء الطبيعة، مثله مثل النار أو السيل أو الحجر الملقى بيد لا يراها. تكأة نفسية أخرى ولكن موقعها كائن في الجانب الآخر من الحياة.. جانب الفناء والعدم.‏ فهل انتصر ذلك الجانب المظلم بنهاية المسرحية؟! بالقطع لا، لأن الأخ القاتل لم يظفر بجنيته. لقد هجرته المرأة اللذة السلطة. فكأن الفناء قد ظفر فحسب بالفناء. ومن فناء الفناء ينبعث الوجود من جديد.‏ تلك هي كلمة المسرحية الأخيرة، وما أجملها من كلمة شعرية درامية.‏ * شاعر وكاتب مسرح وناقد، جامعة الإسكندرية - المجلس الأعلى للثقافة.‏ (1) من ديوان قصائد للأرض قصائد للحبيبة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1989.‏ (2) من ديوان قصائد للأرض قصائد للحبيبة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1989.‏ (3) منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1991.‏ (4) حسن طلب، ديوان الزبرجد 1990.‏ (5) قصيدة : امرأة من لينيغراد، ديوان : قصائد للأرض قصائد للحبيبة.‏ (6) من ديوان عبد الله والعالم، دار العربي ، دمشق.‏ (7)من ديوان عبد الله والعالم، دار العربي ، دمشق.‏ (8)نفس المصدر السابق.‏ (9) الشاعر العربي يبحر إلى المستقبل، مجلة إبداع، القاهرة عدد أكتوبر 1993.‏



#مهدى_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشروع الحداثى لجابر عصفور إلى أين
- وماذا بعد أن تسقط أمريكا ؟
- القصيدة في نشوء آخر .. قراءةفي شطح الغياب لمهدى بندق
- هل تقوم الحرب بين سوريا وإسرائيل ؟
- قصيدة : الخروج
- قصيدة : جاء دوري
- رشدى
- حوارات مهدى بندق 7 - مع د.وحيد عبد المجيد
- كرمة الإدانة
- قصيدة- ظل الملك
- سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر الحمل الكاذب والحمل المجهض
- الدكتور وحيد عبد المجي دمفهوم الليبرالية مختلف عليه وقد استخ ...
- اللبرالية الجديدة..حل مؤقت لأزمة دائمة
- المَحْلُ وما أحاط
- والعكس وما يغشى
- بعد عرفات سيزيف الفلسطيني يبني بيتاً
- مطوي بيميني منشور بيساري
- صفرٌ في الغَلَس
- وعي بالجهل أم تنمية معرفية ؟!
- اللغة .. والثقافة الشعبية المظلومة - مصر وتونس نموذجاً


المزيد.....




- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهدى بندق - الشاعر العربى يبحر نحو المستقبل - قراءة فى شعر خالد البرادعى ومسرحه