النار في جسدهAaron Bushnellإضرام في التعاطي الإعلامي الأمريكي مع


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 7904 - 2024 / 3 / 2 - 12:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعمّدت أغلب وسائل الإعلام الأمريكية تجاهل حادثة إقدام الجندي "بوشنال Aaron Bushnell على إضرام النار في جسده احتجاجا على تواطؤ الحكومة الأمريكية مع دولة الاحتلال في إبادة الفلسطينيين وممارسة التطهير العرقي. وبالرغم من تصريح أحد أصدقاء بوشنال" بأنّ سبب الانتحار يعود إلى اكتشاف سرّ خطير يتمثّل في مشاركة الجنود الأمريكيين في تقتيل الفلسطينيين فإنّ هذا الخبر لم يحرّك سواكن الجماهير،بل حاولت أغلب الصحف الترويج لسردية الجندي المضطرب نفسيا" و المعتوه و المجنون ... إذ لا يعقل أن تكون آخر كلمات جندي في سلاح الجوّ الأمريكي"Free Palestine "، وهي الكلمة المحظورة التي تُعرّض المتلفظ بها لعقوبات زجرية لا في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا...فقط بل وكذلك في عدد من الدول العربية والإسلامية. فقد حذّر إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ عبد الرحمن السديس،مؤخرا، كافة المعتمرين "من رفع علم فلسطين خلال تواجدهم في الحرمين الشريفين. قائلا: لا تأخذكم العاطفة برفع الهتافات، رجال الأمن بالمرصاد لكلّ من يرفع شعارات سياسية في الحرمين الشريفين".

والواقع أنّ تغاضي معظم وسائل الإعلام عن تحليل الحدث وتحويله إلى قضية رأي عامّ لا يستغرب إذ سبق لامرأة من ولاية أطلانطا (لم يذكر اسمها) أن أشعلت النار في جسدها، منذ أشهر، احتجاجا على ما يجري في غزّة، ولكنّ وسائل الإعلام سعت إلى التقليل من شأن الحدث. ويفسّر موقف عدد من الإعلام الأمريكي بالانحياز لسياسات بايدن وحرص اللوبيات الإعلامية على التحكّم في الرأي العامّ الأمريكي، في فترة انتخابية أقلّ ما يقال عنها إنّها"حرجة"، فضلا عن خضوع عدد من وسائل الإعلام الأخرى للحركات الصهيونية المهيمنة.
ولذا تحوّل الجندي الذي تموقع باعتبار محتّجا يمارس فعلا سياسيا، إلى مجرم إذ طالب السينياتور كوتن Tom Cotton البانتاغون بفتح تحقيق في الغرض للتثبت من انتماءات الجندي وعلاقته بالجماعات الإسلامية المتطرفة بينما صرّح أحد الجمهوريين ومن قدماء المحاربين في أفغانستان والعراق أنّ للجندي"بوشنال "وجهات نظر متطرفة ومعادية للولايات المتحدة". وبادرت بعض الصحف المحترفة في إشاعة الأخبار الكاذبة بترويج خبر مفاده أنّ آخر كلامات "بوشنال كانت التحريض على قتل اليهود.
وسواء تحدثنا عن شبهة الانضمام إلى حركة إرهابية أو راديكالية أو معاداة السامية أو خيانة الوطن فإنّ توظيف هذه "الفزاعات أمر معتاد للتلاعب بالجمهور حتى لا يبدي أي مواطن أمريكي تعاطفا مع هذا الشابّ الذي لم يجد وسيلة للتعبير عن مشاعر الغضب والاستياء إلاّ الانتحار. ففي سياق لم تعد فيه القيم الإنسانية والمبادئ والمثل محفّزة على فرض تغيير السياسات يتحوّل الانخراط في النشاط السياسي اليساري إلى فعل "أناركيّ" فاقد للمعنى، ويغدو اتخاذ قرار إضرام النار في الجسد حجة على الجنون ويكون التعاطي الإعلامي والسياسي الملائم قائما على التهميش ويصبح الحلّ الاجتماعي المقترح دعوة الجنود أو الشبّان الناشطين في بعض حركات الاحتجاج إلى الاتصال بمراكز الدعم النفسي للتبليغ عن بعض الأفراد الذين يمرّون بأزمة نفسية.
غير أنّ الشبان والشابات الذين أدّوا واجبهم العسكري أو انتموا سابقا للمؤسسة العسكرية سرعان ما أبدوا موقفهم من التعاطي الحكومي والسياسي والفكري والإعلامي مع الحدث. فكان الردّ من خلال تقديم الشهادات التي تُدين أمريكا، والخطابات التي تشرح لعموم الأمريكيين ما يحدث باسمهم وبأموال الضرائب التي يدفعونها.
ويُذكرّنا هذا الموقف بالجدل الذي تلى ظهور صور الجنود/ات المورطين في تعذيب المعتقلين في سجن أبي غريب والتي تبيّن بعد سنوات ، أنّ تلك الممارسات كانت ممنهجة وتمثّل جزءا من التدريبات التي تلقاها هؤلاء إذ كانوا يتفنون في التعذيب ويمارسون الإهانة والإذلال والانتهاكات... بعلم الإدارة. ولكنّ نشر الصور هو الحدث المفاجئ الذي أغضب الإدارة الأمريكية وجعلها تبحث عن سردية لإقناع العالم بأنّ هذه الانتهاكات شاذة ومعزولة. وها نحن اليوم، نكتشف أنّ "بوشنال قد أعدّ العدّة فمسرح حدث انتحاره وكتب وصيته وعوّل على كاميراه الشخصية لينقل مباشرة الحدث للرأي العام العالمي، ويتوجه له برسالة واضحة:إنّه ما عاد يعول على وسائل الإعلام بعد أن أفلست في أداء واجبها بمهنية واحترافية وإنسانية وصارت شريكة في حرب الإبادة على غزّة.
إنّ ما تم اغتياله في غزّة ليست المشاعر الإنسانية والقيم والمثل فقط بل اغتيلت الأفكار الكبرى فانتهت أسطورة أمريكا حامية الديمقراطية وحقوق الإنسان.