الحاجة إلى السكر والزيت والماء والحليب... أهمّ من الحاجة إلى نظام ديمقراطي: في تغيير أولويات التونسيين/ات


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 7382 - 2022 / 9 / 25 - 11:32
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

لا حديث للناس اليوم إلاّ عن السكر والزيت والماء والحليب وغيرها من المواد المفقودة في السوق، ولا شيء يشغلهم سوى كيفية مواجهة النسق السريع لارتفاع الأسعار ولا اهتمام لأغلب وسائل الإعلام إلاّ بمتابعة سلوك التونسيين ورصد «همجيتهم» و«تهافتهم» و«لهفتهم» وهروبهم من مواطن العمل بحثا عن قوارير الماء أو أكياس السكر...
ولكن ما معنى أن يتحوّل التزود بالمواد الأساسية /الكمالية الموضوع الرئيس في حياة التونسي/ي؟ وهل تعدّ هذه العلاقة بالأشياء والحرص على الامتلاك من أبرز النتائج المترتبة عن هيمنة الثقافة الاستهلاكية وتغلغلها في كلّ الأوساط الاجتماعية بقطع النظر عن السن والجندر والطبقة والفقر و...؟ وهل أن العمل على تجميع /تخزين أكبر قسط من المواد الغدائية علامة دالة على الخوف من الآتي والمجهول وبحثا عن الخلاص الفردي بتأمين الغذاء؟

لاشكّ أنّ النظام العالمي الجديد نجح في تعميم ثقافة الاستهلاك، وترسيخ الاستهلاك التفاخري» وتغيير عادات الناس وسلوكهم وقيمهم ورؤيتهم للحياة ولأنفسهم وخلق عالم واحد متجانس ومنمّط، معتمدا في ذلك على تكثيف الإعلانات في الفضاءات العامة وفي مختلف وسائل الإعلام. فكلّما نظرت أو سمعت أو تصفّحت «الفايسبوك» حاصرتك دعوة لاقتناء هذا المنتوج أو ذاك أو عرضت عليك تسهيلات القروض البنكية لشراء «كبش العيد» أو «تجديد أثاث البيت» تحفّزك على الشراء...

وعندما تتحول فتيات الانستغرام أو «الفاشنيستات» وغيرهن من المشرفات على برامج التسويق في التلفزات إلى أدوات للترغيب في هذا المنتج أو ذاك وتغدو حيواتهن الشخصية وأجسادهن وسائل مثلى لترويج السلع وتسويقها فلا تتوقّع «الصمود» أمام الإغراء وترشيد الاستهلاك والتفكير في أثر الاستهلاك في البيئة واعتبار المال وسيلة للتنمية والادخار... وبين الرغبة في امتلاك الأشياء والحاجة إلى تسليع الذات ما يشي بالتحولات التي نشهدها في المجتمع التونسي إن كان على مستوى السلوك أو المنظومة القيمية أو الوعي أو الثقافة ...

إنّ من تداعيات انغماس التونسيين/ات في ثقافة الاستهلاك تغيير أنماط علاقاتهم وتقييمهم للآخرين باعتماد معاير ترتبط بالمادة وتشيء أجسادهم... ولكن الأخطر من كلّ ذلك الاستلاب و«التدجين» وتحويل وجهة الاهتمام وإعادة ترتيب الأولويات. فلا شغف بالسياسة ولا رغبة في فهم المناويل الاقتصادية أو الناتج المحلي الإجمالي ولا استعداد للتضامن مع المعوزين واللاجئين و... ولا انشغال بتحليل أبعاد الحرب بين أوكرانيا وروسيا ولا اهتمام بالانتخابات ولا ردّ فعل عن القوانين الصادرة والمراسيم والبيانات ولا متابعة لمختلف الأنشطة الثقافية والفنية ولا تركيز على الأحداث الكبرى في العالم.

فما دخل التونسيين/ات باحتجاجات الإيرانيات على النظام؟ وماذا يمثّل حدث إحراق النساء الحجب والشبّان صور السياسيين؟ وما دلالة حلق النساء والشابات لشعورهن؟ وما الغريب في أن تخلع إيرانية الحجاب وترقص أمام شرطة «تهاب» الجدائل؟ و ما الغريب في «تأديب» النساء الرافضات لبس الحجاب؟
أن يقتصر وجود التونسي/ة داخل مجتمعه على الاستهلاك والبحث عن إشباع غرائزه المتعددة أمر مثير للقلق، وأن يغضب التونسي/ة من أجل فقدان السكر ولا يحرّك ساكنا أمام التجاوزات والفساد والحرقة والهجرة النظامية وانحدار التعليم والإعلام وأزمة الأخلاق وتزييف الوعي والحدّ من حرية التعبير والاعتداء على الصحفيين/ات والناشطين/ات وغيرهم وقتل الحياة السياسية والحراك المجتمعي فذاك أمر مثير للغضب والسخط.

الشوارع إلى حدّ اليوم «آمنة» لكن حين يختزل المواطنون/ات حياتهم في الركض وراء السكر والماء والوقود تنغلق عقولهم ويعزلون عن العالم ويتقوقعون على ذواتهم. ومتى كثرت الضغوط والإكراهات وتعدّدت الأزمات تنفك القيود ويغيب الانضباط فينفلت العقال. إنّ ما يحدث في لبنان وإيران ليست أحداثا معزولة إنّها مؤشّرات وعلامات دالة على انبثاق سلوك جديد وتغييرات عميقة وحركات اجتماعية جديدة تقاوم باستراتجيات مبتكرة أكثر راديكلية من ذي قبل لفقدان الأمل إنّه جيل الغضب... سيل جارف لا يلوي على شيء.