نداء إلى الحركات النسوية: -حياة الفلسطينيات مهمّة-


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 7837 - 2023 / 12 / 26 - 22:54
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات     



تمرّ الحركات النسويّة العربية ،منذ اندلاع حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة ، بامتحان عسير بل لنقل هو مأزق اختبار مدى الالتزام ب إيطيقا العمل النسويّ و"التضامن النسوي والتساؤل حول حدود الانخراط في النسوية العابرة للقوميات" . فإذا كانت الأدبيات والخطابات النسوية تلّح على تنزيل الفعل النسويّ في إطار النضال السياسي والالتزام بمناهضة كلّ بنى الاضطهاد والهيمنة بما فيها الاستعمار والاحتلال الغاشم فإنّ المتوقّع من الحركات النسوية اليوم، تجاوز التعبير عن التعاطف من خلال إصدار بيانات المساندة أو تنظيم بعض المسيرات والتظاهرات هنا وهناك إلى توحيد استراتيجيات العمل المنظّم وإثبات الوجود في الفضاء العامّ كقوّة ضغط قادرة على التأثير في الرأي العالمي. إذ لا يستوي فعل "صاحبات الامتيازات" اللواتي يصدرن البيانات ويتناقشن حول الوضع، وهنّ في أماكن آمنة مع فعل الغزّاويات وسائر الفلسطينيات على الأرض، وهنّ يحاولن الصمود وتحدّي استراتجيات الطمس والحجب التي تمارسها وسائل الإعلام المتواطئة. إنّ الإبادة الشاملة ودفن النساء وهنّ حيات واغتصاب بعضهن وشق بطون الحوامل والاختفاء القسري لمجموعات أخرى وتجويع الأطفال وذبح الرجال من الوريد إلى الوريد... تستدعي أشكال نضال جماعي ناجعة وذات أثر على مستوى تغيير القرارات والمواقف.
فلطالما تحدّثت المنظرات النسويات عن قدرة النساء على تثوير الأوضاع والفعل في الواقع، وكثر الحديث في العشرية الأخيرة، عن قدرة الشابات المنتميات إلى جيل الغضب على ابتكار أشكال نضال جديدة(تحويل الأجساد إلى أدوات نضال،...) أحدثت صدمة وكان لها أثر مدوّي. ومعنى ذلك أنّ النسويات كسرن حواجز الصمت والخوف واخترقن الحدود التي فرضها النظام البطريكي والأنظمة القمعية واستعدن حقهن في امتلاك الفضاء العامّ وجعلن حضورهن في الشوارع والساحات وغيرها من الأمكنة فعّالا ونوعيّا. أفبعد الفعل والحركة يحل السكون؟
لا نخال أنّ استحضار تاريخ مشاركة النساء المسلمات والمسيحيات في حركات التحرّر من الاستعمار غير محفّز على ادراج هذه التحركات ضمن تاريخ من العمل التضامني والتشبيك والاصطفاف وراء القضايا العادلة إذ ظلّت فلسطين دائما في قلب النضال. ولا نحسب أنّ النضال ضدّ الاضطهاد والهيمنة والإقصاء والتهميش يُخاض بمعزل عن مناهضة العسكرة، militarism والاستعمار، والاحتلال الصهوني، يُضاف إلى ذلك أنّ انشغال النسويات العربيات في العشرية الأخيرة، بقضايا العنف وقتل النساء يجعل الاهتمام بمناصرة الفلسطينيات أولوية ويضفي سمة الانسجام على التحركات النسويات إذ لا مصداقية لحملات مناهضة العنف على أساس النوع الاجتماعي دون إثارة تقتيل الشابات والنساء الفلسطينيات. كما أنّ عنف الدولة المارقة ومن يقف بجانبها يجعل مواجهة الأنظمة القمعية والاستعمارية واجبا أخلاقيا.
تُعوّل الفلسطينيات(في الداخل، وفي المنفى و"بلدان الشتات"كجمعية العمل النسوي وجمعية أدوار، والاتحاد العام لمرأة الفلسطينية...) اليوم، على الوعي النسوي للناشطات فيطلقن النداءات الآن وليس غدا بعد أن طال انتظار المبادرات النسوية المتلائمة مع السياق المفصلي الخطير، ويدرجن مطالب إنهاء الإبادة ومحاسبة دولة الاحتلال الصهيوني وفرض الحصار عليها ضمن مشاغل النسويات Ending #Gaza Genocide is a Feminist Issue وهي نداءات تُذكّر المنظمات والجمعيات والمناضلات والقاعديات بالواجب، وتعيد التعريف بالنسوية ومبادئها وتاريخها السياسي وتسترجع الاستراتجيات التي نظّمتها النسويات من قبل، لفضح النظام العنصري في جنوب أفريقيا. وتلحّ النسويات على عامل الزمن فإن لم يحدث هذا التحرّك الآن وبشاعة الجرئم والكوارث التي تهدّد ما تبقى من الفلسطينيين/ات لا تُحرّك من به صمم فمتى ستتحرّك النسويات؟ وهل أنّ النسويات مستعدات لتفويت فرصة تاريخية من أجل إثبات وجودهن كقوّة فاعلة يُحسب لها حساب.
تعتبر الفلسطينيات أنّ حركات المناصرة في الميديا الاجتماعية وحملات التذكير بالتاريخ الفلسطيني ، والتراث الفلسطيني...غير كافية ولا تتناسب مع حجم ما يجري على أرض الواقع من عنف صار يوميّا وممأسسا يستهدف النساء باعتبارهن في تواشج مع القومية والهوية والنظام الرمزي (الأرض، الرأسمال الثقافي، الوطن، الشرف...) ولكونهنّ المنجبات والمربيات وحارسات القيم والهوية دون التغافل عن أصواتهن المزعجة والمربكة للسردية الصهيونية. ولذا تعبث الدولة المارقة بالقوانين الدولية التي تستثني النساء والأطفال والمسنين من الاستهداف العسكري وتعتبرهنّ عدوّات لدودات مثلهن مثل الرجال لأنّهن "يبهرن" العالم بصمودهن واستطاعت خطاباتهن قلب الموازين، وتحدي إعلام ينزع عنهن سمات الإنسانية كما أنّهن بعثن رسائل قوية إلى العالم ورفعن الصوت عاليا مستلهمات القوّة من الإيمان بربّ عادل ورحيم ومن تاريخ من النضال، ولا من قوانين وشرعة دولية ومنظومة حقوقية فشلت في ردع أصحاب القرار.
يجد التعويل على النسويات المنضويات تحت "نسوية العالم الثالث" و النسوية العابرة للقوميات" و النسوية الديكولنيالية و النسوية ما بعد الاستعمارية و النسوية المناهضة للاستعمار"والنسويات العربيات ما يبرّره إذ ثمّة عقود من التنظير والتجارب والممارسات التي حققت التراكم المعرفي ويسّرت العمل المشترك بين نساء الجنوب ولفيف من نساء الشمال وعلى هذا الأساس كان من المتوقّع أن تستغل "سلطة المعرفة" لمواجهة النسوية البيضاء المشرعنة للعنصرية وبيان تهافت خطاباتها والسقوط الأخلاقي الذي بلغته منذ الحرب على أفغانستان وغزو العراق وفضيحة أبو غريب . وكان من المنتظر أن تتضاعف المقالات المفككة للنظريات العنصرية التي تشرعن استباحة دماء الفلسطنيين وتجريدهم من الإنسانية، وتحليل الأساطير التي تبرّر التطهير العرقي، وتوضيح رهانات الاستعمار الجديد القائم على الاستغلال والهيمنة والتهجير القسري والإبادة ...ولكن لم يحدث هذا إلاّ لماما.
توضع إذن جميع النسويات اليوم، أمام المساءلة. فلم عجز المخزون المعرفي والنضالي والوجداني الذي تشكّل عبر قرون، وتتغلغل في الوعي واللاوعي ليصبح بديهيا، وجاهزا دائماً للاستعمال والاستحضار في أيام الفرح وفي لحظات الانكسار وفي شهور الحصار والإبادة،  عن الفعل في الواقع الراهن؟ ولم وهنت قدرة الفاعلات على صوغ قرارات جريئة وحرّة ومستقلة تفك الارتهان إلى الغرب والتبعية وتقطع مع شبكات التمويل المتورطة في الإبادة؟ ولِم لم تُحرّك أصوات الحاضر الناشطات وهنّ المنخرطات في حركة لا تعرف الجمود والاستقرار تمن بتقاطع النضالات ضدّ مصفوفة الاضطهاد؟ هل يعود الأمر إلى قلّة الموارد ودخلنة الضعف والإحباط والشعور بالقهر والانكسار والعجز الذي يقتل كلّ محاولة للصمود وكلّ قدرة على الابتكار؟ وهل تغلّب بالفعل منطق الخبيرات المحترفات على صوت المناضلات فسيّج التحركات وانتصر للمصالح الخاصة؟ وهل لبراديغم العلمنة دور في اتخاذ عدد من النسويات موقفا من حرب حوّلت حماس والحركات الإسلامية إلى فاعل رئيس، وجعلت خطابات أغلب الغزّاويات ذات ميسم دينيّ يعلي من شأن الجهاد؟.
وليست إثارة هذه الأسئلة إلاّ خطوة محفّزة لانطلاق ممارسة النقد الذاتي وإعادة النظر في أجندا العمل النسوي إذ آن أوان مفارقة الصدمة وتجاوز مرحلة الإنكار والبحث عن المبررات لإقناع الفلسطينيات بأنّنا فعلنا الكثير من أجل نصرة القضية.
تقتضي سياسات المسؤولية الوعي التام بأنّنا مسؤولات عن طريقة توظيفنا لقناعاتنا والخلفيات الثاوية وراء قراراتنا، وأنّه لا يمكن غسل اليد من النتائج المترتبة عن أفعالنا فالاكتفاء بالتعاطف الشكلي أو المشاهدة أو تداول مقاطع من الفيروزيات و الأغاني الفلسطينية وغيرها من الوسائل الناعمة (soft)ما عاد ينفع ولن يسمن من جوع إذ لا مفرّ من التشابك والمواجهة والمقاومة على كافة الصعد. إنّ جرائم المحتلّ والدعاية الصهوينية والتمركز الغربي تستدعي التفكير معا والعمل معا من أجل التعبئة الجماعية وتوحيد الصفّ ومناهضة الخطابات والممارسات والسياسات الهيمنية وإنشاء فضاءات جديدة للنضال المشترك وإنتاج معرفة نسوية بديلة. فهل نحن مستعدات لانتفاضة جديدة ولعمل جماعي تحرّري؟
جاء في "رسالة إلى الحركات النسوية" للمناضلة النسوية الفلسطينية عفاف جابري(24-12-2023:" اليوم يجب علينا تحديد الحدود الفاصلة لعملنا، أن نكون ضدّ كلّ أشكال الهيمنة وأنظمتها بما فيها الاحتلال والاستعمار ومواجهتها بشكل جذري وعملي على الأرض أو أن نكون تابعات للحكومات والمنظمات الدولية ونتخلّى عن الفكر النسوي المقاوم.. لا خيار ثالث..."
إنّ قسوة التاريخ لا ترحم فإمّا أن نكون فيه فنُذكر ويُخلّد نضالنا ، (ونحن اللواتي عملن طيلة عقود على استعادة تاريخ النساء وإبراز مرئيتهن) أو أن نكون خارجه.