مهرجان المربد الشعري بعيون من حضروا ومن غابوا


قاسم حسين صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7889 - 2024 / 2 / 16 - 20:17
المحور: الادب والفن     

مهرجان المربد الشعري..
بعيون من حضروا ومن غابوا

أ.د. قاسم حسين صالح

توطئة
الآن وبعد ان هدأت الأنفعالات الأيجابية والسلبية بخصوص مهرجان المربد الشعري بدورته الخامسة والثلاثين الذي عقد في البصرة للفترة من ( 7-10 شباط 2024)، وقبل أن نبين ما له وما عليه بموضوعية ، فأن الأمر يستوجب ان نقر بحقيقة ان اللجنة المنظمة للمهرجان بذلت جهودا كبيرة في تنظيمه،برغم صعوبات كبيرة تتصدرها ان عدد المشاركين فيه من العراقيين والعرب تجاوز الأربعمئة مدعوا، ما يعني ان على المنصف ان يشكر اللجنة المنظمة ممثلة بالدكتور الشاعر عارف الساعدي لمتابعته الحثيثة لفعاليات المهرجان ، ولرئيس الأتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الشاعر علي الفواز،وأمينه العام الشاعر عمر السري اللذين تواجدا في البصرة قبل ايام من انعقاد المهرجان ، وشكر خاص لرئيس فرع الأتحاد في البصرة الشاعر فرات صباح الذي كان دينامو المهرجان.
ونشير الى حقيقتين ،الأولى ان اي مهرجان ثقافي بحجم مهرجان المربد الأخير،لن يكون ناجحا تماما بدون مآخذ فنية او تنظيمية او ثقافية.
والحقيقة الثانية، انني تصفحت ما كتب عن مهرجانات المربد السابقة (من عام 1971) فوجدتها لم تسلم من النقد الموجه لها،بل ان بعضهم وصف عددا منها بأنها (مهزلة ،مسخرة).








المهرجان..هل حقق رسالته؟

يعدّ المربد ايقونة الثقافة العراقية وهوية البصرة الثقافية ورموزها الفكرية من الخليل بن احمد الفراهيدي وبشار بن برد الى بدر شاكر السياب. ويذكر الرواة ان المربد كان قد اسسه البصريون القدماء ليكون اول سوق شعري عربي بعد سوق عكاظ زمن العصر الجاهلي ، ويفترض في مهرجانه ( 2024 ) ان يواصل رسالته ويغني ارشيفه الذي يحتفظ باسماء رصينة في الثقافتين العراقية والعربية، وبما يليق بالبصرة التي تحمل ارثا جماليا وتاريخيا وثقافيا وكونها فينوس الشرق.
فهل حقق المهرجان بدورته الخامسة والثلاثين..رسالته؟

كنت حضرت المهرجان من لحظة افتتاحه في المدينة الرياضية صباح الاربعاء 7 شباط الى لحظة ختامه في فندق جراند ملينيوم مساء السبت 10 شباط ، وحضرت ندواته الشعرية وجلساته النقدية ، مع ان عددا منها كان يعقد معا بنفس الساعة.
ويمكن القول بأن ابرز ما حققه المهرجان هو انه كرّم فلسطين لتكون ضيف شرف المهرجان ،وحقق مناسبة ممتعة التقى فيها شعراء وأدباء عرب وعراقيون مغتربون مع زملائهم من محافظات العراق.

وما يميزه ايضا اننا استمتعنا بقراءات لنخبة من الشعراء العرب والعراقيين ،تنوعت قصائدهم ووازنت بين أشكال الشعر العربي بين العمود والتفعيلة والنثر...وجلسات نقدية تناولت موضوعات جديدة مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي.

ولقد حرص القائمون على المهرجان على التخفيف من ضغوط الجلسات الشعرية والنقدية المغلقة بتنظيم سفرة نهرية ترويحية الى بوابة الاهوار في منطقة كرمة علي. وعلى مشارف اهوار البصرة حضر المربديون حفل افتتاح غاليري سماري للفنون الذي ضم اعمالا فنية في الرسم والنحت لعدد من الفنانين العراقيين المعروفين ، وتوزعت على اجنحة فندق كراند ملينيوم معرض فنون تشكيلية وحرف يدوية ونشاطات متنوعة أخرى.

المهرجان ..بعيون من لم يحضروا

كنت استطلعت رأي عدد من المثقفين بالمهرجان فاتفقوا على ان أهم مأخذ على المهرجان انه دُعيت إليه أعداد ليست قليلة ممن ليس لهم علاقة حقيقية بالشعر أو نقده، وليس لهم دور أو فاعلية أو حتى رمزية ثقافية، وما أُتي بهم سوى استجابة لمبدأ (الشللية) والعلاقات الشخصية، وأستبعدت شخصيات كان ينبغي أن تكون حاضرة فهو مهرجانها.
وقال آخرون: نعم هناك هنات وملاحظات لا يمكن ان تقال الا بالود ، ولايمكن لها ان تبخس الجهد الكبير ، ولمن اداروا مهرجانات مماثلة معرفة تامة بان لا يمكنك ان ترضي الجميع مهما بذلت ، لكن علينا ان نجعل عتبنا راقيا ،انيقا ،وحضاريا ، وهو جزء من التغير المنشود اجتماعيا ،وثقافيا ، واخلاقيا. وشخّص آخرون ان المهرجان حضرته شخصيات لها ثقلها المعرفي او الثقافي لكنها لم تستغل.فيما اوجز آخرون القول بأن (كل شيء خارج ابواق السلطه فهو جميل) ،وسخر آخرون بقولهم (نشاط لا يقدم ولا يؤخر..مهرجان خاص لفئة معينة منها واليها)،وأنني (لا اؤمن بمربد لا يتخذ من عبدالرزاق عبدالواحد رمزا له).
وأرى أن اهم مأخذ على المهرجان، ان الكثير من القراءات الشعرية كانت تلقى بصيغة خطابية حتى لتحسب الشاعر خطيبا سياسيا! ،وان بينها قصائد لا ترقى الى مستوى المهرجان المربدي..وبقدر ما استمتعت بقراءات شعرية وجلسات نقدية فقد آلمني جدا أنني رأيت شعراء ونقادا قد اتعبتهم..الشيخوخة.

اشكالية الشاعر احمد مطر

هنالك موقفان بشأن ان يكون الشاعر احمد مطر شخصية مهرجان المربد بدورته الخامسة والثلاثين ،الأول يرى انه لا يمتلك (الموهبة الشعرية )، وأنه ليس شاعرا حداثويا مثل السياب وشعراء الستينيات وما بعدها، فهو ليس أكثر من ناقم وشتّام للسلطة والحكّام،وأنه ليس جديرا بأن يطلق اسمه على مهرجان المربد وهناك شعراء عراقيون اكثر استحقاقا منه.
والثاني يرى انه (ملك الشعراء) ويكفيه انه يمتلك تجربة شعرية متعددة الاوجه ، وله دور كبير في تجديد الشكل الشعري وانتج شعرا عصيا على النسيان، واستحدث اساليب جديدة ومبتكرة في شعره ، وقدم نمطا جديدا من الشعر يعكس التجديد والابتكار في الادب العربي الحديث لاسيما في (لافتاته) الشعرية التي تحمل قصائد قصيرة ومهمة للناس تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي بطريقة اقرب ما تكون للروح الشعبيه،كقوله:

(نعم ..انا ارهابي..
انصح كل مخبر ينبح ،بعد اليوم، في اعقابي
ان يرتدي دبابة
لأنني
سوف ادقّ رأسه
ان دق ،يوما بابي!).

وبغض النظر ما اذا كنت مع هذا الموقف او ذاك، فأن اجمل ما حصل هو ان المهرجان احتفى بشاعر وهو حي وخرق عادتنا في الأحتفاء برموزنا العراقية بعد موتهم.
ونشير الى ان احمد مطر المولود في تنومة البصرة عام (1954) يعيش الآن في لندن شبه كفيف وبوضع صحي سيء.
الحاضر في الشعر..الغائب في المهرجان
الشعر العراقي له تاريخ يمتد لقرون، وتذكر في مصادر إنخيدوانا أو إنهدوانا(2285-2250 ق م) وهي أميرة أكدية من أهل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، والكاهنة الأعلى للإله نانا إلهة القمر عند السومريين في مدينة أور، وأنها أقدم شاعرة معروفة تم تسجيل اسمها!.وقد عرف العراق بـ«بلد الشعر والشعراء» أو «بلد الشعراء» عند الأدباء العرب.
واستمر الشعر في صعود لاسيما في العهد العباسي حيث دعمه الخلفاء والأمراء واجزلوا العطاء والهبات للشعراء، ليصبح هو الهوية للثقافة العربية وصورة ذلك العصر. ومع تعرض العراق عبر تاريخه لمحن، أقساها ما حدث لبغداد على يد هولاكو(1258)، ورمى الكتب وبينها دواوين الشعر في دجلة، فأن العراق بقي موطن الشعر والشعراء..فلماذا؟
اطلعت على ما كتبه مفكرون عن الشعر ( ابن منظور ، الجرجاني ، بن طباطبا، بن خلدون...) فوجدتهم انهم يصفونه فنيا ويغفلونه نفسيا،مع ان حقيقة الشعر ..سيكولوجية مطلقة، لأنه انفعالات، والانفعالات لها فص موجود في الدماغ مسؤول عن الفرح، الحزن، الغضب، الحب، وأن كل انفعال له هرمون خاص يزداد حين يستثار. فالشعور بالفرح، مثالا، مرتبط بهرمون "الدوبامين" الذي يُنشط المخ ليفرز "السيروتين والأندورفين والاندوكانابى المضادة للضجر". وحين تقع في الحب يفرز "الأدرينالين والدوبامين" اللذين يزيدان شعورك بالسعادة. وعند الغضب تزداد ضربات القلب ويرتفع التنفس وتنقبض العضلات، لترسل إشارات لإفراز "الأدرنالين والكورتيزول والتيستوستيرون".
ولأن الشاعر لا يقول شعرا مؤثرا الا حين يستثار انفعاليا، فأن مقولتنا.. (الشعر حقيقة سيكولوجية مطلقة).. تكون هي الأصدق في وصف حقيقة الشعر.ومع ذلك فان سيكولوجيا الشعر كانت غائبة في مهرجان المربد..مع ان الأتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق كان قد اصدر لنا كتابا بعنوان (في سيكولوجيا الشعر والشاعر ) هدف الى( توثيق العلاقة بين الذين يصفون المشاعر والانفعالات بأرق ما في اللغة من مفردات وبين الذين يكشفون عن اسرارها ، وكيف تتشابك العاطفة مع الحالة النفسية والمزاج والشخصية والخبرات وما يمتع المتلقي بالمسرات..).. واننا قدمنا ورقة بعنوان ( الشعر والشاعر والمتلقي من منظور سيكولوجي).. ولم تقدّم!
ومع ذلك تبقى البصرة والمربد توأمان خالدان يقولان في كل عام.. اهلا بكم ايها المحتفون بالكلمة التي تنطق بالحقيقة وتحترم كرامة الأنسان القادمون الى وطن الشعر والشعراء.. العراق الحميل.

*