المعتزلة..مفكرون مجددون أم كفرة وزنادقة؟


قاسم حسين صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7850 - 2024 / 1 / 8 - 12:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

المعتزلة
مفكرون ومجددون..أم كفرة وزنادقة؟
أ.د. قاسم حسين صالح
رئيس ومؤسس الجمعية النفسية العراقية

ظهر المعتزلة في أواخر العصر الأموي( بداية القرن الثاني الهجري ) في البصرة،وتعدّ من اوائل الفرق الاسلامية التي تأثرت بالفلسفة الاغريقية وادخلتها الاسلام كفلسفة جديدة اسهمت في تطوير الفكر الاسلامي دينيا وسياسيا واجتماعيا،لاسيما في العصر العباسي. ومن الجديد الذي امتازت به انها غلّبت (العقل على النقل)،وقالوا بالفكر قبل السمع، ورفضوا الأحاديث التى لا يقرّها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك.

ومن اهم واخطر ما امتازت به انها مارست نقد الفكر والعقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وانفردت في نقد العامة من الناس بل واحتقارها لهم..وكان من بين ابرز فلاسفة هذه الفرقة الكلامية( ثمامة بن الاشرس) الذي حظي بمكانة كبيرة عند الخليفة المأمون. ويروى عنه قوله للمأمون:وما العامة ؟ والله لو وجهت انسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق اليك عشرة آلاف منها وقد سواها الله بالانعام فقال:( أم تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون، ان هم الا كالانعام بل اظلّ سبيلا).
اشكالية الأسم
يميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن اسم ( المعتزلة ) جاء من إطلاق بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهودية التى ظهرت بعد السبى البابلى والمعروفة بـ"الفروشيم"، وهى كلمة عبرية يردافها بالعربية اسم "المعتزلة". غير ان المستشرق السويدى هنريك صمويل نيبرج اعترض على هذا التفسير التاريخي لاسم المعتزلة، فيما أورد المؤرخ الشهير المسعودى أن أصل كلمة "اعتزال" هو القول بالمنزلة بين المنزلتين،أى باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين، إذ جاء المصطلح من طبيعة المعتقد نفسه كالمرجّئة الذين بالغوا فى الرجاء أو أرجؤوا العمل، والرافضة الذين قالوا برفض خلافة أبى بكر وعمر.
نشأة الحركة
بحسب دراسة بعنوان "المعتزلة" للدكتور مصطفى حلمى، تكاد تجمع المصادر التاريخية وكتب الفرق على أن نشأة مذهب الاعتزال ترجع إلى اختلاف واصل بن عطاء مع شيخه الحسن البصرى (110هـ) في الحكم على مرتكب الكبيرة، واعتزاله مجلسه لهذا السبب، فيما عدا هذه الرواية الشهيرة فإن الملطى - توفي سنة (377) - يعود بنشأة المعتزلة إلى أيام تنازل الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنهم كانوا من أصحاب على فاعتزلوا الناس ولزموا البيت والمساجد قائلين "نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك المعتزلة".. والأرجح الرواية الأولى.
ومن أشهر الأقوال فى هذا الإطار ما يرويه الشهرستانى أن واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصرى اعتزل مجلس الأخير حين اختلف معه فى مسألة مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فى منزلة بين المنزلتين، حيث قال الحسن البصرى تعليقًا على انفصال ابن عطاء عن حلقته "اعتزل عنا واصل"، ومن هنا ،بحسب هذا القول، جاء اسم المعتزلة.
خمسة اصول..شرط الأعتزال
ما يميز المعتزلة انها اعتمدت خمسة اصول او عقائد هي :التوحيد ، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر..واشترطوا على من يريد ان يكون (معتزلا)ان يؤمن بها،وانه لا يستحق اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول الخمسة،على حد تعبير ابو الحسين الخياط احد كبار أئمتهم.
ويعني التوحيد عندهم، نفي كلّ الصفات عن الله مثل السمع والبصر بهدف تنزيهه..ومنها توصلوا الى فكرة خلق القرآن. ويقوم (العدل) عندهم عل فكرة العقل وقياس احكام الله على ما يرضي العقل والمنطق،ولهذا فهم نفوا ان يكون الله هو الذي خلق افعال عباده السيئة ومحاسبا عليها بآن واحد، فلا يمكن ان يخلق الله لعباده الا الصلاح والخير..وبهذا يكون المعتزلة اول من خالف عقيدة القدر ونفوها.
وتقوم فكرة (المنزلة بين المنزلتين) على وجود منزلة ما بين الكفر والايمان يقع فيها الفاسق،فان تاب ورجع فقد أمن على نفسه وان مات على كفره فهو خالد في عذاب جهنم، فيما يقصد بالوعد والوعيد هو ان يحكم الله بالعدل المطلق في الاخرة،فمن اطاع الله في حياته جزاؤه الثواب ومن ارتكب المعاصي لا يعفو عنه.
وخامس اصولهم هوالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ويقصد بها فكرة الموقف من الحاكم الجائر..الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.
ونعيد الرأي بأن اسم المعتزلة جاء بعد الخلاف الذي جرى بين واصل بن عطاء( ت 131هج) وشيخه الحسن البصري( ت 110 هج) فاعتزل شيخه وأنشأ لنفسه مدرسة ومذهبا خاصا به، فقال الحسن البصري (اعتزلنا واصل).ما يعني أن نشأة المعتزلة حدثت من هذه الواقعة،وليست من واقعة تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية كما تذكر رواية أخرى،مع ان كلا الروايتين تتفقان على ان المعتزلة اختلفوا مع اهل السنّة والجماعة في مسائل تخص العقل في العقيدة الاسلامية كرؤية الله وقصة خلق القرآن.ولهذا وصفهم كثيرون بانهم ظلوا وانحرفوا عن العقيدة الصحيحة التي جاء بها النبي محمد، وانها خالفت في تأويلها افعال الله وابتدعت كلاما باطلا في كلام الله..و(الأخطر) انها تعتمد المنطق وتقدمه على الوحي.
ويذكر الدكتور علي الوردي في كتابه ( وعّاظ السلاطين) أن المعتزلة يعتقدون أن عليّا كان أولى من ابي بكر بالخلافة وافضل منه ، ولكنهم يرون مع ذلك جواز تقديم المفضول على الفاضل اذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين. ويستندون في هذا على تصريح ابي بكر في خطبته التي افتتح بها عهد خلافته اذ قال :" اما بعد أيها الناس فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم.." (ص 190).
طه حسين و معروف الرصافي
في العام 1928، دُعِي عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، إلى مؤتمر المستشرقين في أكسفورد، فقدّم باللغة الفرنسية ورقتيْن بحثيتيْن؛ إحداهما بعنوان: «استخدام ضمير الغائب فى القرآن كإسم إشارة»، والأخرى كانت بعنوان: «المعتزلة وليبنتز»، تستهدف عقد مقارنة بين المعتزلة، كإحدى أكبر فرق المتكلمين في الفكر الإسلامي، وبين الفيلسوف الألمانى الشهير، ليبنتز( 1646- 1716 فيلسوف ،وفيزيائي ،ومحامي ،ومستشار سياسي) ،ختمها بهذا التساؤل:
«هل من قبيل المصادفة البحتة وجود هذا التشابه، وأكاد أقول هذا التماثل الكامل بين المذهبين؟. أو أن المعتزلة أثروا على ليبنتز من خلال الفلسفة المدرسية؟. ذلك سؤال لا أسمح لنفسى بأن أجيب عنه، ويكفينى أننى طرحته".
غير ان معروف الرصافي في كتابه (الشخصية المحمدية) يوضح ما هو اكثر بقوله ان الحسن البصري(الذي لا يرتاح له معروف!) وصف بالفصاحة وبالعلم والتقوى،وان له حلقة في مسجد البصرة يرتادها رواد العلم في زمانه.
ونشير الى ان البصرة كانت يومها الحاضرة الثقافية للدولة العربية يتخرج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والادب والشعر. وكان واصل بن عطاء، الألثغ الذي لا يحسن نطق حرف الراء..ويستبدل الكلمات التي فيها (راء) بأخرى خالية منه تؤدي نفس المعنى! من بين من يحضرون مجلسه يتذاكرون في المسائل العلمية من اصول الدين وفروعه ،فكان واصل من الآخذين عن الحسن البصري. ولما اثبت ابن عطاء (المنزلة بين المنزلتين) أمره الحسن باعتزال مجلسه ،فاعتزل هو وبعض اصحابه وألفوا حلقة أخرى في ناحية من نواحي المسجد ،فاطلق الناس عليهم اسم المعتزلة( صفحة 749).
ومع أن الرصافي يصف حادثة الأعتزال بأنها تعدّ أول انشقاق مذهبي حدثت في الوحدة الأسلامية، فاننا نرى ان هذا هو اول تفعيل للعقل الاسلامي في حرية التفكير وأول تحد في تناول( الممنوع) لما يعدّ مقدسا وجعله مسموحا في اخضاعه للمنطق. ويحسب لهم انهم تمكنوا من التأثير في السلطة ونظام الحكم يوم استطاعوا جعل الخليفة المأمون يؤمن بافكارهم،لاسيما القول بخلق القرآن الذي ينافي الفكر السائد بان القرآن قديم غير مخلوق..بل انهم دفعوا المأمون عام 218 هجرية الى ان يجمع القضاة ويمتحنهم في قضية خلق القرآن في واقعة فكرية سميت (المحنة) وصفها الدكتور علي الوردي في كتابه ( منطق ابن خلدون) بأنها كانت حدثا مهما في تاريخ الاسلام الفكري استمرت اربعة عشر عاما لقي فيها المعارضون لفكرة خلق القرآن شتى انواع الاضطهاد والبلوى (صفحة219).
وكان الامام احمد بن حنبل من اشد المعارضين لفكرة المعتزلة،مبررا ذلك بأنه لا يصح ان تصل فكرة خلق القرآن الى العامة لأنها ستؤدي الى عدم التقديس وضعف الأيمان،فيما ردّ المعتزلة بالقول ان عقيدة العامة قد فسدت بتأثير الأساطير والخرافات التي راجت بينهم،ولا يمكن اصلاحها الا عن طريق تعويدهم على النظر العقلي في أمورهم الدينية.
رأيان متضادان..كلاهما صحيح!
ما يعجبك في هذين الرأين المتضادين،ان كليهما صحيح! برغم أن أحدهما ثابت وآخر متحول. وكان يفترض تعميق هذه الممارسة الفكرية في نقد العقل الديني،لكنها انتهت للأسف بخلافة المتوكل(اغتيل في 247هج)،اذ يقول المسعودي:
(لما افضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال ،وأمر الناس بالتسليم والتقليد )(ص 199)، وصاروا يضطهدون ويطاردون المعتزلة متهمينهم بالزندقة..ومنها ظهر القول المشهور(من تمنطق فقد تزندق).

والحقيقة التي يغفلها كثيرون ،انه حيثما شاعت فكرة(نقد الدين تحديدا) قابلة للحوار والجدل ،وتعرض فلاسفتها الى الأضطهاد فانه،يظهر مفكرون وفلاسفة،يحيونها او يطورونها او يدينونها،وقد ظهر في حينه فلاسفة كبار من بينهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكوية، فيما ظهر حديثا مفكرون تأثروا بفكر المعتزلة الى هذا الحد او ذاك مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.
ولأننا نعيش الآن مرحلة فكرية مشابهة فان اثارة مثل هكذا قضايا فكرية جدلية تؤدي الى ظهور فلاسفة ومفكرين ومثقفين جدد يشيعون نقد العقل الديني بما يجعل العقل الجمعي العربي يتحرر من التسليم بمعتقدات دون ان يعمل عقله فيها،وتمكّنه أن ينتقي منها ما يتلاءم وافكار ومعتقدات العصر الأيجابية التي تحترم كرامة الانسان وتجعل لوجوده معنى.

*