ستون عاماً على مجلس الأمة الكويتي: نقد وتقييم


أحمد الديين
الحوار المتمدن - العدد: 7506 - 2023 / 1 / 29 - 13:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية     


مداخلة أحمد الديين، عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتية في ندوة “ستون عاماً على مجلس الأمة الكويتي: نقد وتقييم”


جرى انتخاب مجلس الأمة للفصل التشريعي الأول في 23 يناير 1963، قبل ستين عاماً من يومنا هذا، وكان ذلك اليوم هو البداية الفعلية لانطلاق الحياة الدستورية والنيابية، لأن المادة 182 من دستور 1962 تقضي بأن يُعمل بالدستور من تاريخ اجتماع مجلس الأمة، على ألا يتأخر هذا الاجتماع عن شهر يناير سنة 1963.

منطلق تحليل مسيرة الحياة النيابية ونقدها وتقييمها:
في مداخلتي هذه سأنطلق في محاولتي تحليل مسيرة العمل البرلماني في الكويت طوال العقود الستة الماضية ونقدها وتقييمها من موقع اليسار التقدمي المتمسك بالمكتسبات الديمقراطية والدفاع عنها والعمل على تطويرها وتعميقها وتوسيعها، وليس من موقع رجعي معادٍ للديمقراطية… وفي الوقت نفسه فإنني بالضرورة سأستند إلى المنهج الماركسي المادي الجدلي التاريخي في النظر إلى واقع العمل البرلماني في الكويت ومسيرته والنضال من أجل تغييره، ما يعني أنني لا يمكن أن أقوم بتحليل هذه المسيرة ونقدها وتقييمها بمعزل عن النظر أولاً وبالأساس إلى الواقع القائم، وليس فقط بالاكتفاء في النظر إلى مسيرة العمل البرلماني من زاوية النصوص والأحكام والآليات الدستورية والنيابية وحدها، فالأولوية عندنا كماركسيين هو للواقع الموضوعي وليست الأولوية للأفكار المجردة، مع الإقرار بترابطهما الجدلي وتأثيراتهما المتبادلة… وبالتالي فهناك:

من جهة واقع التبعية للإمبريالية، التي تفرض هيمنتها على الأوضاع في بلادنا مثلما تهيمن على واقع غالبية بلداننا العربية، بل غالبية البلدان التابعة، ولهذه التبعية ومحاولات الفكاك منها انعكاساتها وتأثيراتها وتناقضاتها على واقع الحياة السياسية في بلادنا.
وهناك من جهة أخرى طبيعة السلطة، وأقصد طبيعتها الطبقية وطبيعة حلفها الطبقي الرأسمالي الطفيلي التابع، وعقلية المشيخة، التي تتحكم في جوانب مهمة من مفاصل الحياة السياسية، وضمنها الوضع الدستوري والممارسات السياسية والنيابية.
وهناك من جهة ثالثة الصراع الاجتماعي أو لنكن أكثر تحديداً الصراع الطبقي الدائر في المجتمع الكويتي بكل تناقضاته وتعقيداته وحركته، وضمن هذا السياق نلاحظ تبدل مواقع البرجوازية الكويتية التي تراجعت من كونها طبقة ذات مصالح وتوجهات متناقضة نسبياً مع السلطة بهذا القدر أو ذاك، بحيث كانت بمثابة “الحامل الاجتماعي” لراية النضال الديمقراطي في الفترة بين ثلاثينيات إلى أواسط ستينيات القرن العشرين ولكنها في أواسط السبعينيات عندما تنامت طبيعتها الطفيلية وتشابكت مصالحها مع السلطة فقد تحولت إلى حليف للسلطة وشريك فيها، بل أصبحت هي الركيزة الطبقية الأساسية للسلطة وقاعدتها الاجتماعية، وتراجعت نزعتها الليبرالية لتبرز نزعتها الرجعية سياسياً والنيوليبرالية اقتصادياً، وتحولت من طبقة لها مصلحة في إحداث شيء من الإصلاح والتغيير إلى طبقة ذات مصلحة في الحفاظ على الأوضاع القائمة ومنع تطورها، وهذا ما انعكس بالضرورة على دورها في الحياة السياسية وفي العمل البرلماني… وكذلك هناك عنصر آخر لا يقل أهمية وهو بروز دور ممثلي البرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى من البرجوازية على المستوى السياسي بدءاً من أواسط سيتنيات القرن العشرين، بكل تذبذباته وانتهازيته وتناقضاته… وهناك عنصر آخر وهو بروز دور الطبقة العاملة والفئات الشعبية وحركتها النقابية العمالية وصولاً إلى قيام حزبها السياسي المستقل بدءاً من أواسط سبعينيات القرن العشرين، وما يحمله هذا من دلالات تتصل بتوسيع دائرة العمل السياسي، التي كانت مقتصرة على الطبقة البرجوازية الكبيرة، والتبدلات التي جرت على مكونات الحركة السياسية وتوجهاتها ومواقفها.
وهناك من جهة رابعة حالة التخلف الاجتماعي والثقافي التي جرى تكريسها عن عمد ومحاولة إحياء البنى التقليدية القبلية والطائفية والعائلية واستغلالها في الحياة السياسية عموماً، والانتخابية تحديداً.
وهناك من جهة خامسة التأثيرات السلبية لسيادة قيم المجتمع الاستهلاكي التي انعكست من بين ما انعكست عليه، على الحياة السياسية، بما فيها الممارسة النيابية.
وهناك من جهة سادسة الصراع حول قضية الديمقراطية بين السلطة وحلفها الطبقي من جانب والقوى الشعبية والديمقراطية من جانب آخر الذي شهد معارك كبيرة في مواجهة تزوير الانتخابات والانقلابات السلطوية المتكررة على الدستور والتضييق على الحريات والتصدي الشعبي لها والنضال من أجل إصلاحات سياسية ديمقراطية.
وهناك من جهة سابعة موازين القوى المتبدلة، التي كانت في الغالب مختلة لغير صالح الحركة الشعبية والديمقراطية.
وهناك من جهة ثامنة الواقع الجغرافي السياسي الهش للكويت ضمن محيطها الإقليمي بكل تناقضاته وصراعاته ومحاوره وضغوطاته وانعكاسات ذلك كله على الواقع السياسي الكويتي، وعلى الحياة النيابية.
فعلى مثل هذه العناصر من الواقع المحلي والإقليمي، بكل تناقضته، شهدنا المسار المتعرج والمأزوم للحياة السياسية في الكويت، وضمنه مسيرة الحياة النيابية.

مسيرة الحياة النيابية من زاوية البنية الدستورية القائمة:
أما إذا انتقلنا إلى مستوى آخر من التناول في النظر إلى المسيرة النيابية وذلك بالتركيز على البنية الدستورية وانعكاساتها على الممارسة النيابية، فيمكننا القول إنّ مجلس الأمة كمؤسسة دستورية نيابية، موجود ويعمل في ظل أوضاع غير مكتملة كديمقراطية برجوازية، أو على نحو أدق في ظل أوضاع غير ديمقراطية، تتمثل أبرز جوانبها في:
1- عدم اكتمال شعبية التمثيل البرلماني جراء عضوية الوزراء من غير النواب المنتخبين في المجلس، ونسبتهم تصل إلى نحو ثلث عدد النواب المنتخبين.
2- سطوة السلطة التنفيذية حيث لا يمكن أن تنعقد جلسات المجلس إلا بحضور الحكومة، ما يمنح الحكومة حق تعطيل الحياة النيابية، وهذا ما شهدناه مراراً وتكرارا.
3- منازعة مجلس الأمة في حقه المطلق بأن ينفرد وحده بإصدار اللائحة الداخلية للمجلس التي تنظم أعماله، حيث أصبحت اللائحة تصدر بقانون يمكن للحكومة التدخل في صياغته ورده، بل يمكن للحكومة نظرياً تعديلها وإصدارها بمرسوم بقانون خلال عطلة المجلس أو حله، وذلك بدلاً من أن يصدر مجلس الأمة وحده اللائحة وفقاً للمادة 117 من الدستور التي تقضي بأن يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية متضمنة نظام سير العمل في المجلس ولجانه وأصول المناقشة والتصويت والسؤال والاستجواب وسائر الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور . وتبين اللائحة الداخلية الجزاءات التي تقرر على مخالفة العضو للنظام أو تخلفه عن جلسات المجلس أو اللجان بدون عذر مشروع.
4- محدودية سلطة مجلس الأمة في التعامل مع برنامج عمل الحكومة، حيث لا يحق له إقرار البرنامج، وإنما إبداء الملاحظات حوله، ولا يستطيع أن يمنح الحكومة الثقة على أساس هذا البرنامج أو يحجبها عنها.
5- محدودية وتقييد سلطة حجب الثقة عن الوزراء ورئيس مجلس الوزراء، فهذا لا يتم بالنسبة للحكومة ككل، وإنما لأعضائها منفردين بشرط المرور أولاً بآلية الاستجواب، وأما رئيس الوزراء فهناك مبالغة في تحصينه يتحدث عنها الدستور نفسه في مذكرته التفسيرية.
6- الانتهاك الذي تعرضت له الحصانة النيابية الموضوعية بدءاً من العام 2010 في سابقة محاكمة النائب الدكتور فيصل المسلم عندما أبرز الشيك الشهير، ما فتح الباب أمام تكرار تلك السابقة في انتهاك الحصانة الموضوعية للنواب في عملهم النيابي.
7- غياب الحياة الحزبية السليمة، والتأثيرات السلبية للنظام الانتخابي الأكثري الفردي، ما كرس فوضى العمل النيابي.
8- القيود التي فرضها ما يسمى قانون حرمان المسيئ على حقي الانتخاب والترشيح.
9- سلبيات انتقال نظر الطعون من المجلس للمحكمة الدستورية، حيث تقضي المادة 95 من الدستور بأن يفصل مجلس الأمة في صحة انتخاب أعضائه وتجيز له أن يعهد بهذا الاختصاص إلى جهة قضائية، ما أدى إلى تكرار حالات إبطال الانتخابات النيابية.
10- سلبيات منح المحكمة الدستورية حق تفسير مواد الدستور، بل إعادة تفسيرها، ما أدى إلى فرض المزيد من القيود على العمل البرلماني، فعلى سبيل المثال جرى تقييد حق السؤال البرلماني عندما صدر عن المحكمة الدستورية قرار تفسيري بشأن المادة 99 في العام 2005، مع أن المادة 173 حصرت مهام المحكمة الدستورية في الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح، ولم تشر إلى اختصاصها في تفسير أو بالأخرى إعادة تفسير نصوص الدستور.
11- ما تم فرضه من سوابق غير مقررة دستورياً بشأن الرقابة القضائية المسبقة على القوانين… مثلما حدث في 2019 وفي السنوات الأخيرة عندما اعترض مجلس القضاء الأعلى على بعض اقتراحات القوانين، وأبرزها اقتراح قانون الهيئات السياسية، وكذلك اعتراضه على اقتراحات قوانين أخرى تتصل بتنظيم القضاء… علماً أنّ مجلس القضاء الأعلى يمثّل على أرض الواقع قوام المحكمة الدستورية، وبذلك أصبح للقضاء رقابة مسبقة على التشريع غير ذات أساس دستوري إلى جانب الرقابة اللاحقة المتاحة دستورياً.

وكذلك فإنه لا يمكن نقد وتقييم مسيرة الحياة النيابية بمعزل عما تعرض له مجلس الأمة والحياة الدستورية والنيابية من تزوير فجّ في انتخابات 1967، وما تكرر من تعطيل غير دستوري في 1976 و1986، والانقطاعات في مسيرة الحياة النيابية بسبب تكرار الحلّ في 1999 و2006 و2008، وإبطال الانتخابات النيابية أكثر من مرة.
وفي الوقت ذاته لا يمكن القفز على ما قامت به السلطة وحكوماتها المتعاقبة بالتواطؤ مع الغالبية أو الأقلية النيابية المحسوبة عليها من استهتار بالدستور عبر بدعة تأجيل الاستجوابات منذ 2010، وبدعة تأجيل الاستجوابات المقدمة والمزمع تقديمها في مجلس2020، وبدعة تأجيل جلسات مجلس الأمة لفترات طويلة خارج إطار تطبيق المادة 106 من الدستور المتصلة بتأجيل الجلسات بمرسوم.

تساؤلات مغرضة:
ولنكون قريبين من النقد الشائع لمسيرة الحياة النيابية في الكويت فإنه كثيراً ما تثار انتقادات مغرضة تستهدف الحط من قدر مجلس الأمة والحياة النيابية، من بينها: انعدام الإنجاز، ومسؤولية مجلس الأمة عن تعطيل التنمية، ودوره في تقييد الحريات.
ونبدأ بالتساؤل الأول: ماذا قدم مجلس الأمة؟
لست هنا بصدد تقديم صورة وردية عن الحياة النيابية وأداء مجالس الأمة المتعاقبة، ولكن هناك قائمة طويلة من التشريعات والأعمال الرقابية المهمة والمفيدة للمجتمع والدولة والاقتصاد الوطني التي أنجزتها مجالس الأمة طوال الستين سنة الماضية، مع استثناء سنوات الانقطاع، من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
في مجلس الأمة الأول 1963: إقرار قانون التعليم الإلزامي، وقانون إنشاء ديوان المحاسبة، وقانون إنشاء بنك التسليف والادخار، ورفض الاتفاقية المجحفة التي قدمتها شركات النفط الأجنبية للكويت بشأن تنفيق العائدات.
وفي مجلسي الأمة الثالث 1971 والرابع 1975: رفض اتفاقية المشاركة النفطية المجحفة بحق الكويت، وإقرار قانون تأميم الشركات النفطية الأجنبية، وإنشاء صندوق احتياطي الأجيال القادمة، وإنشاء محكمة التمييز والمحكمة الدستورية، إقرار قانون الوصية الواجبة.
وفي مجلس الأمة الخامس 1981: التصدي لمشروع الحكومة لتنقيح الدستور.
وفي مجلس الأمة السادس 1986: إقرار خطة التنمية والقانون رقم 60 لسنة 1986 بشأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وفي مجلس الأمة السابع 1992: ملاحقة قضايا سرقات المال العام في الناقلات والاستثمارات الخارجية، وإقرار قانون حماية المال العام وقانون محاكمة الوزراء، وتشكيل لجنة تقصي الحقائق عن التقصير والتهاون في مواجهة الغزو والاحتلال.
وفي مجلس الأمة العاشر 2003: إقرار قانون الحقوق السياسية للمرأة.
وفي مجلس الأمة الحادي عشر 2006: إلغاء نظام الدوائر الخمس والعشرين وإقرار قانون الدوائر الخمس بأربعة أصوات بعد الحملة الشعبية “نبيها خمس”.

ويليه ذلك التساؤل عن إنجازات مجلس الأمة تساؤل مغرض آخر عن دور مجلس الأمة في تعطيل التنمية.
وهنا نستذكر مثالاً مشهوداً… إذ كانت آخر أعمال مجلس الأمة في العام 1986 قبيل الانقلاب السلطوي الثاني على الدستور في الثالث من يوليو ذلك العام تتمثّل في إقرار خطة التنمية وإقرار القانون رقم 60 لسنة 1986 في شأن التخطيط الاقتصادي والاجتماعي، فيما كشف لنا الواقع الملموس أنه في ظل تعليق عدد من مواد الدستور وتعطيل الحياة النيابية وفرض الرقابة الحكومية المسبقة على الصحف وانفراد السلطة بالقرار لم تتحقق التنمية الموعودة، وإنما شهدنا وقوع العديد من جرائم الاختلاسات الخطيرة للمال العام.
وكذلك هي حال التنمية المعطلة خلال سنوات الانقلاب السلطوي الذي سبقه في العام 1976 التي شهدنا خلالها بروز كارثة المضاربات في سوق المناخ ولم نشهد التنمية المزعومة.
إن غياب التنمية لا علاقة له بمجلس الأمة، التي يدعى أنه عطلها، بقدر ما أنّ غياب التنمية يعود بالأساس إلى تحكّم المصالح الطبقية الطفيلية الضيقة للقوى المتنفذة والمسيطرة على مقدرات البلاد، وطبيعة التوجهات والسياسات والقرارات الاقتصادية المتخذة لخدمة تلك القوى، التي لا مصلحة لها في التنمية، بقدر ما لها مصلحة مباشرة في المزيد من الاستحواذ واستغلال النفوذ والتنقيع والفساد والمضاربات.

وأخيراً يبرز أمامنا التساؤل المغرض الثالث عن دور ومسؤولية مجلس الأمة في تقييد الحريات.
ذلك أنه جرى بالفعل فرض العديد من القوانين المقيدة للحريات خلال السنوات الستين الأخيرة عبر إقرارها في مجلس الأمة، ولكن تلك الترسانة من القوانين غير الديمقراطية كانت نتيجة تواطؤ حكومي نيابي، بدءاً من مجلس الأمة الأول في العام 1965 عندما مررت الحكومة والغالبية النيابية الموالية لها قوانين الموظفين والأندية والتجمعات والمطبوعات والنشر، ما اضطر نواب المعارضة الوطنية الثمانية إلى الاستقالة من عضوية ذلك المجلس… مروراً بمجلس 1967 المزور، الذي شرّع واحداً من أخطر القوانين المقيدة للحريات، وهو القانون 31 لسنة 1970 بشأن تعديل قانون الجزاء فيما يتصل بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والخارجي… وفي العام 2016 عندما مررت الحكومة والنواب المحسوبون عليها قانون حرمان المسيئ سيئ الذكر.
باختصار، ليس مجلس الأمة كمؤسسة ولا النواب جميعهم، بل الحكومة والغالبية أو الأقلية النيابية المحسوبة عليها هي التي شرّعت عشرات القوانين المقيدة للحريات.

التقصير في الرقابة المالية:
مثلما هو معروف تاريخياً فقد ارتبط نشوء البرلمانات في العالم بمحاولات فرض رقابة مالية على مصروفات إنفاق الملوك والأمراء والحكام المطلقين ولتنظيم الموازنات العامة في الممالك والإمارات والدول، حيث تمثل التشريعات المالية والرقابة عليها أهم اختصاصات المجالس النيابية، ولكننا في الكويت نشهد ظاهرة بالغة السلبية تتمثل في الاستخفاف بهذين الاختصاصين، عبر سلق قوانين الميزانيات وإقرارها جميعاً في جلسة واحدة، وتجاهل اعتماد الحسابات الختامية للوزارات والهيئات العامة، ما أدى إلى زيادة الهدر في الإنفاق الحكومي وفتح الباب أمام عدم انضباط أوجه الصرف في الميزانية… ما يتطلب الانتباه إلى هذه السلبية وضرورة نقدها وعدم السكوت عليها.

العمل النيابي جزء من العمل السياسي وليس هو العمل السياسي:
ابتلينا في الكويت بثقافة خاطئة سائدة عند الناس، بل في صفوف القوى السياسية وفي وسائل الإعلام تركز على الانتخابات والعمل النيابي وتعوّل عليها على نحو مبالغ فيه، بل تكاد تحصر العمل السياسي في العمل النيابي، بينما هو جزء منه وأحد مجالاته.
وحتى بالنسبة للقوى الديمقراطية فإنّ معظمها يقلل من أهمية أوجه العمل السياسي والجماهيري الأخرى ويركز على العمل النيابي وحده كوسيلة للإصلاح والتغيير، بينما أكدت لنا التجارب التاريخية والخبرات الملموسة أن النجاحات التشريعية والرقابية والمكتسبات الشعبية والاجتماعية والوطنية والديمقراطية التي تحققت، إنما تحققت عندما كان هناك تفاعل وتكامل بين العمل السياسي وتحديداً الجماهيري عندما كان هناك دور مؤثر للحركة الشعبية وللرأي العام مترافقاً مع العمل النيابي، حتى وإن كانت هناك أقلية نيابية إصلاحية، وليس بالضرورة اشتراط وجود غالبية مستقرة، وهذا ما شهدناه في تجارب ومعارك مهمة مثل: تاميم النفط في مجلسي 1971 و1975، وفي معركة إصلاح الدوائر الانتخابية المعنونة نبيها خمس في مجلس 2003 ومجلس 2006، وما شهدناه خلال اعتصامات النواب في المجلس والجماهير في ديوانيات النواب خلال شهر يونيو 2022 احتجاجاً على الاستخفاف بالدستور ولتحقيق مطلب رحيل الرئيسين.

ومناقشة لاقتراحات مغرضة:
في مواجهة بعض سلبيات الممارسات النيابية وتحت ذريعة إصلاح العمل النيابي جرى خلال السنوات الماضية طرح العديد من الاقتراحات المغرضة، ومن بينها اقتراح تنقيح الدستور باستحداث نظام المجلسين بدلاً من نظام المجلس الواحد، واقتراح تقييد حق النواب في استجواب رئيس الوزراء والوزراء.
صحيح أن نظام البرلمان بغرفتين ممثلتين بمجلس نواب ومجلس شيوخ أو شورى نظام موجود في العديد من بلدان العالم، ولكن استحداث مثل هذا النظام في الكويت يفترض أن يصاحبه إلغاء عضوية مجلس الأمة للوزراء من غير النواب المنتخبين، ونقل صلاحية رد القوانين من رئيس الدولة والحكومة إلى مجلس الشيوخ أو مجلس الشورى، مع الالتزام بأولوية دور المجلس النيابي في أعمال التشريع والرقابة، وليس أولوية مجلس الشيوخ أو مجلس الشورى أو حتى مساواتهما مع المجلس النيابي… أما استحداث نظام المجلسين مع بقاء عضوية الوزراء غير المنتخبين في مجلس الأمة واستمرار حق رد القوانين بيد رئيس الدولة والحكومة، فإنه يعني تقليص دور المجلس النيابي وإضعافه، وهو أمر مرفوض.
أما الاقتراح المغرض الآخر لتقييد حق النواب في الاستجواب، فإنه سيؤدي إلى إضعاف الدور الرقابي للنواب، ولكن يمكن تنظيم هذا الحق، عبر وسائل أخرى من يأتي في المقدمة منها الاعتراف بالحياة الحزبية واعتماد نظام القوائم والتمثيل النسبي في العملية الانتخابية، بحيث لا يبقى العمل الانتخابي والعمل النيابي فردياً، كما هي الحال الآن، بل يصبح العمل الانتخابي والعمل النيابي مؤسسياً ومنظماً، وفي مثل هذه الحالة ستختفي أو تضمحل العديد من الممارسات النيابية المنفلتة، حيث يتم التعامل مع أحزاب وكتل منظمة وليس مع نواب فرادى تحكمهم أمزجة متفاوتة ودوافع شخصية.

ختاماً نعم لقد مضت ستون سنة على بدء الحياة الدستورية والنيابية، ولكننا في واقع الحال لا نزال نقف في المربع الأول… أما آن لنا أن نتجاوزه ونتقدم باتجاه نظام ديمقراطي برلماني متكامل الأركان؟