مداخلة أحمد الديين في ندوة -إصلاح المسار السياسي- ديوان الأستاذ عبدالله النيباري


أحمد الديين
الحوار المتمدن - العدد: 706 - 2004 / 1 / 7 - 04:10
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية     

تعاني الكويت مجموعة من الاختلالات الهيكلية على مستوى إدارة الدولة، واقتصادها، وفي التعليم، وهيكل العمالة، والتركيبة السكانية... ولا أظن أنّ هنالك مَنْ يجادل حول تفشي الفساد، واستغلال النفوذ، وانتهاك سيادة القانون، أو ينكر حاجة البلاد إلى الإصلاح، إذا استثنيا بالطبع أولئك المنتفعين من بقاء الأوضاع على ما هي عليه!
إنّ مهمة الإصلاح تعنينا جميعاً، تعني الحكم، وتعني الحكومة، كما تعني النواب، وتعني المجتمع، وتعنينا كأفراد، إلا أنّ المسؤولية الأكبر تقع أولاً على مَنْ بيده مسؤولية اتخاذ القرار، وتحديداً القرار السياسي.
وبالتأكيد فإنّ هنالك أولوية للإصلاح السياسي تسبق ما عداه من إصلاحات، إذ لا يمكن الادعاء بإصلاح الاقتصاد أو السعي إلى إصلاح التعليم أو إصلاح جهاز الإدارة الحكومية من دون أنْ يكون هنالك بالأساس إصلاح سياسي على مستوى سلطة اتخاذ القرار في الدولة.
إنّ الإصلاح المنشود ليس مجرد تدابير إصلاحية متناثرة هنا وهناك لا يجمعها رابط، وإنما يجب أن تكون جزءاً من  نهج إصلاحي واضح يستهدف استكمال مشروع بناء الدولة الحديثة، وإلا فلن تعدو هذه الإصلاحات إن وجدت كونها إصلاحات جزئية، محدودة، وناقصة!
ولعلّ الخطوة الجديّة الأولى في اتجاه الإصلاح تبدأ بنقد الوضع القائم، وعدم القبول به، وعدم تبريره أو الدفاع عنه.
بعد هذه المقدمة، يمكننا التوقف أمام أربعة اختلالات أساسية في المسار السياسي للدولة الكويتية:
الاختلال الأول: تراجع مشروع بناء الدولة الحديثة.
الاختلال الثاني: نهج الانفراد بالسلطة.
الاختلال الثالث: إفراغ النظام الدستوري من مضامينه الديموقراطية.
والاختلال الرابع: فساد النظام الانتخابي.

والاختلال الأول، المتمثل في تراجع مشروع بناء الدولة الحديثة، بدأ عملياً في العام 1976 مع أول انقلاب غير دستوري، حيث أوقف المسار الديموقراطي قسراً، واختط الحكم نهج تهميش القوى الإصلاحية والحيّة في المجتمع،  وعمد إلى عزلها وإضعافها، وما حل نادي الاستقلال وتمكين جمعيات الأحزاب الدينية إلا مثال على ذلك، حيث استخدم الحكم هذه الأحزاب الدينية عن عمد وسبق إصرار لإخضاع المجتمع الكويتي، فقوّاها واستقوى بها، ومكّنها من السيطرة على مقدرات اقتصادية ومواقع نفوذ وانتشار، كما رعى حلف قوى الفساد والتخلف، وشيئاً فشيئاً تم التخلي عن مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، دولة الدستور وسيادة القانون والمؤسسات والمجتمع المدني، لصالح مشروع مختلف هو "مشروع الحكم".
صحيح أنّ الحياة الدستورية والنيابية قد عادت بعد ذلك، ولكنها سرعان ما تعرضت إلى انقلاب غير دستوري ثان في العام1986، ولعله لولا الغزو والاحتلال وما تبعهما من تداعيات لما توقف الأمر عند هذه الحدود.
وبعد التحرير لم تجر عملية إعادة بناء الدولة الكويتية الجديدة على أسس جديدة، وإنما حدث تبدل نسبي في موازين القوى وتوسع هامش الانفراج السياسي، مما أدى إلى عودة العمل بالدستور، ولكن من دون إيمان كامل بالنظام الديموقراطي، وإنما مجرد محاولة للتعايش مع الدستور، مع العمل المستمر على إفراغه من مضامينه الديموقراطية.
وقد وعت بعض عناصر أسرة الحكم من الشباب خطورة استمرار هذا التوجه فدعت في وثيقة شهيرة أعدتها في العام 1992 إلى إحداث توافق بين مشروع الحكم ومشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة. ولكن الخط العام للقوى المؤثرة في الحكم لم يتغير، ولا تزال الأولوية لديها متمثلة في "مشروع الحكم"، من دون ربطه بمشروع بناء الدولة، وإصلاحها، وتقدمها.
ولا سبيل لإصلاح هذا الاختلال، إلا بإعادة الاعتبار إلى مشروع بناء الدولة الحديثة، أو على أقل تقدير تحقيق شيء من التوافق بين "مشروع الحكم" وبين مشروع بناء الدولة الحديثة، مثلما كانت عليه الحال في بداية عهد الاستقلال.

وعلى أرضية الاختلال الأول تكرّس نهج الانفراد بالسلطة، الذي يمثل الاختلال الثاني، حيث لم يعد مجلس الوزراء، كما يفترض أن يكون، هو مركز القرار السياسي، بل إنّ هنالك حكومة مقررة ومجلس وزراء تنفيذي، وتوسعت سلطات رئيس مجلس الوزراء بحيث تخطت حدودها الدستورية المرسومة لرئاسة الاجتماعات والتنسيق بين عمل الوزارات، ليتحول الوزراء إلى موظفين كبار لدى رئيس الحكومة يأتمرون بأمره، ولم يعد هنالك اليوم بين وزرائنا "رجال دولة" من ذوي الرأي السياسي... فيما استمر احتكار المناصب السيادية في الحكومة.
والسبيل إلى إصلاح هذا الخلل يتمثل في التزام الأسس الدستورية لإدارة شؤون الدولة، عند مشاورات تكليف رئيس الوزراء، وعند تشكيل الوزارة وتوزيع مناصبها، وفي آلية عمل مجلس الوزراء واجتماعاته، وعند اتخاذ قراراته.

أما الاختلال الثالث المتمثل في إفراغ النظام الدستوري من مضامينه الديموقراطية، فقد بدأ منذ مجلس الأمة الأول عندما تمكنت الحكومة وغالبيتها النيابية من تمرير مجموعة من القوانين المقيدة للحريات، مما أدى إلى استقالة نواب المعارضة الثمانية.
ولا يزال هذا النهج مستمراً، فمرسوم قانون الاجتماعات العامة والتجمعات والمواكب يحظر على سبيل المثال اجتماعنا الليلة، وينطلق على خلاف الدستور من أنّ الاجتماعات العامة محظورة أصلاً مما يتطلب ترخيصها قبل انعقادها، كما سلب قانون جمعيات النفع العام من المواطنين ما قررته المادة 43 من الدستور لهم من حق أصيل في تأسيس جمعياتهم، وكذلك فقد فرض قانون المحكمة الإدارية حصانة على القرارات الحكومية، مهما كانت جائرة، عندما تتصل بقضايا الجنسية والإقامة وتراخيص الصحف والمجلات ودور العبادة، وسلب قانون المحكمة الدستورية من المواطنين حقهم في الوصول المباشر إلى القضاء الدستوري بوصفهم من "ذوي الشأن" وقصره على الحكومة ومجلس الأمة، بل لقد توسعت سلطة المحكمة الدستورية على خلاف النص الدستوري لتشمل تفسير نصوص الدستور، وهو ما توسعت الحكومة في استغلاله أسوأ استغلال، حيث كررت محاولاتها لتنقيح الدستور عن غير الطريق المقررة لتنقيحه، وذلك عن طريق إعادة تفسيره، ولعلنا نذكر أزمة طلب الحكومة تفسير المادة 71 من الدستور في العام 1995، التي اختلقها الرئيس السابق لمجلس الوزراء، إلى أن اضطر إلى سحبه، وها هي الآن أزمة جديدة تطل برأسها بسبب الطلب الحكومي الجديد لتفسير المادة 99 من الدستور المتصلة بحق النائب في توجيه أسئلة إلى رئيس مجلس الوزراء والوزراء، بهدف تقييد هذا الحق، ولينسحب هذا القيد بعد ذلك على الاستجوابات!
إنّ إصلاح هذا الخلل يتطلب إعادة الاعتبار إلى مبادئ النظام الديموقراطي المقررة في الدستور، فالديموقراطية ليست مجرد ورقة في صندوق انتخابات ومقعد في مجلس الأمة!

وأما الاختلال الرابع فٍيتمثل في فساد النظام الانتخابي، الذي انفردت السلطة بالعبث به في العام 1980 خلال عهد انقلابها الأول غير الدستوري وفي غياب مجلس الأمة، حيث فتتت الدوائر الانتخابية العشر إلى خمس وعشرين دائرة صغيرة، وذلك بهدف تمرير مشروعها سيئ الذكر لتنقيح الدستور، وعندما فشلت فإنها حرصت على الإبقاء على هذا التقسيم، الذي كرّس الطائفية، وقوّى القبلية، وأفسد العملية الانتخابية، وجعلها سوقاً سوداء لشراء الذمم والأصوات، وحوّل النائب إلى مخلص معاملات، وخرّب المؤسسة البرلمانية.
وفي ظل نظام انتخابي فاسد لا يمكن للأمة، التي هي مصدر السلطات جميعاً أن تمارس سيادتها على الوجه المبين في الدستور بصورة سليمة، وإنما ستكون بالضرورة ممارسة مشوهة!
ومن هنا، فإنّ الجدل لا يدور بين مؤيدي التقسيم الخمس والعشريني ومؤيدي الدوائر الخمس أو العشر، وهو ليس قضية فنية أو تنظيمية مجردة، وإنما هو جزء من معركة بين القوى المستفيدة من فساد النظام الانتخابي وإفساد المؤسسة النيابية من جانب، وبين دعاة إصلاحها من جانب آخر... هذا هو جوهر الأمر!

أخيراً، تلك هي الاختلالات الأربعة في مسارنا السياسي، وهذه هي سبل إصلاحها، إذا سلمت النيّة، وتوافرت الرغبة، وتوافقت المصالح، واتسع نطاق الرؤية، وتحقق العزم... والبديل الآخر، مع كل اسف، سنوات وعقود وجهود ضائعة من الصراع المنهك، وفرص مضيّعة في زمن لا يرحم، وهنا سنكون جميعاً خاسرين!