نايف الذي رحل غريباً


أحمد الديين
الحوار المتمدن - العدد: 7143 - 2022 / 1 / 22 - 19:38
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     

بعيداً عن أرض وطنه، رحل عنا في الغربة اللعينة، حتى وإن كانت بلاد الغربة مدينة سياحية ساحرة مثل مدينة فالنسيا الأسبانية، رحل نايف الأزيمع يوم الثلاثاء الماضي ١٨ يناير ٢٠٢٢، الذي كانت غربته الإجبارية ضريبة مؤلمة ما كان يفترض أن يتحمّلها وحده، وذلك جراء ما سبق أن كتب عنه ذات مرة الدكتور أحمد الخطيب من أن نايف “كان يضع ثقته المفرطة بأشخاص عملوا معه، وبآخرين تعامل معهم، لكنهم استغلوا هذه الثقة، لتجيير العمل لمصلحتهم(…) الكثيرون جهلوا طبيعة عمله والمشاكل التي وقع فيها، وآخرون أساؤوا تفسيرها واتهموه ظلماً، فعالم التجارة وعبيد المال كعبيد الكراسي لهم ثقافتهم الخاصة… وما أشد ظلم ذوي القربى، غير أنها ضريبة الزمن الرديء الذي نعيشه”.
نايف الأزيمع، لمَنْ لا يعرفه، كان وهو طالب في المرحلة الثانوية أحد الأركان المؤسسة لصحيفة “الطليعة” الأسبوعية لسان حال المعارضة الوطنية، منذ كانت في بداية ستينات القرن الماضي تصدر من مقرها الأول المتواضع في تلك الشقة التي تطل على شارع فهد السالم… وبجهده ومثابرته فقد تولى نايف في بداية سبعينات القرن الماضي بناء ثم تجهيز مقرها الأخير في شارع الصحافة، واضطر للابتعاد عنها لتولي مهمة استثنائية محفوفة بالمكاسب والمخاطر، كان هو ضحيتها الأولى!
وعندما كان طالباً في المرحلة الثانوية انتُخب نايف الأزيمع في ديسمبر ١٩٦٤ سكرتيراً للاتحاد المحلي لطلبة الكويت، الذي كان يمثّل الجناح الآخر للحركة الطلابية الكويتية قبل تأسيس جامعة الكويت وانتقال مقر الاتحاد الوطني لطلبة الكويت من القاهرة… وأذكر أنني في بداية العام ١٩٦٥ في ذات نهار جمعة التقيت نايف أول مرة خلال رحلة طلابية إلى البر، حيث قدّم لنا محاضرة سياسية تعبوية…وكان لذلك الاتحاد المحلي دور مشهود في قيادة حراك طلابي واسع تمثّل في اعتصامات وتجمعات حاشدة خلال شهر مارس من العام ١٩٦٥، إلى أن خنقت السلطة ذلك الاتحاد في أغسطس من العام ذاته عبر إحالة العناصر التي كانت تتولى إصدار نشرته إلى النيابة العامة لاتهامهم بإصدار نشرة غير مرخصة، وكان اسمها “النشرة” وبينهم الدكتور طارق عبدالله وأحمد الهلالي، ثم أصدرت وزارة الإرشاد والأنباء (الإعلام في هذه الأيام) تعميماً جائراً إلى الصحف والمجلات المحلية بمنع نشر أي بيانات أو تصريحات صادرة عن الاتحاد المحلي لطلبة الكويت.
وبعد تعطيل الاتحاد، وبعدما تخرّج نايف في الثانوية غادرنا إلى فرنسا للدراسة الجامعية، إلى أن عاد في نهاية الستينات، وواصل العمل مع مجموعة القيادة التاريخية لحركة القوميين العرب، بعد انفصالنا نحن اليساريين عن تلك الحركة وتأسيسنا “الحركة الثورية الشعبية”، مع أن نايف كان أقرب ما يكون إلى اليسار… وحينذاك كان لنايف دوره المشهود وبصمته الواضحة في دفع القيادة التاريخية لحركة القوميين العرب في الكويت نحو تأسيس صيغة سياسية تنظيمية بديلة ذات وجهة تقدمية هي “حركة التقدميين الديمقراطيين” التي أصدرت أول برنامج لحركة وطنية في الكويت في العام ١٩٧٠ وخاضت على أساسه انتخابات مجلس الأمة الثالث في العام ١٩٧١ وفازت بأربعة مقاعد نيابية، قبل أن يتولى مسؤولية تنفيذ المهمة الاستثنائية الشاقة، التي كلفه بها الدكتور أحمد الخطيب، واضطرته للابتعاد عن ممارسة أي دور سياسي أو تنظيمي مباشر في الحركة الجديدة التي كان له الدور في وضع لبناتها.
وفي مهمته تلك، حقق نايف ما حققه من نجاحات، ونسج ما نسجه من علاقات، بمن فيهم رؤساء دول وقيادات أحزاب وجبهات تحررية، وخاض ما خاضه من تجارب استثنائية متنوعة، ولكن الحياة وتعقيداتها وثقل المسؤولية وتبعاتها أوقعت نايف في مصاعب ومصائد حاصرته طوال حياته اللاحقة، واضطرته إلى مغادرة الوطن، وهو الشاعر الذي يعشق الكويت، والقائد السياسي والتنظيمي الموهوب، الذي كان يمكن أن يكون له شأن عظيم في الحياة السياسية لو لم يكن ذاك مساره، ولا أقول قدره!
ورغم المخاطر فقد عاد نايف إلى الكويت خلال محنة احتلالها في صيف العام ١٩٩٠، مثلما عاد غيره من رجالات الحركة الوطنية وشبابها وبينهم الدكتور خالد الوسمي، وسعود راشد العنزي، وغيرهما، ممن وجدوا أن الوطن يتطلب وجودهم فيه… وأذكر أنني التقيته ذات ظهيرة صيفية شديدة الحرارة في منزل الدكتور خالد الوسمي بالرميثية بعد عودتهما، ودار بيننا حديث طويل حول الوضع القائم ومهمات الحركة الوطنية… وواصل نايف تحركاته خلال أيام الاحتلال، إلى أن جرى اعتقاله هو وابنه وليد مع الشهيد فيصل الصانع، حيث كانا يبيتان تلك الليلة المشؤومة من شهر سبتمبر ١٩٩٠ في منزل الشهيد بمنطقة كيفان، ويومها حوّلت مخابرات نظام الاحتلال ديوان الشهيد إلى كمين اعتقلت فيه العديد من رجالات الكويت وشبابها، وبينهم الشهيد خالد الصانع والفقيد راشد المحارب وغيرهما، حيث قبع الجميع في زنازين المخابرات العراقية بالبصرة إلى شهر ديسمبر، ثم جرى فصل شهداء أسرة الصانع ممن حكموا بالإعدام عن بقية المعتقلين، الذين أفرجت عنهم سلطات الاحتلال، وبينهم نايف ليعودوا إلى الكويت المحتلة.
وبعد اندحار قوات الاحتلال عن أرض الكويت في ٢٦ فبراير من العام ١٩٩١، أذكر أنني التقيت مساء اليوم التالي ٢٧ فبراير نايف الأزيمع في منزل الأخ الكبير عبدالله النيباري بضاحية عبدالله السالم، وبحضوره وحضور الدكتور خالد الوسمي، اتفقنا على تأسيس المنبر الديمقراطي الكويتي كائتلاف وطني، وفي يوم ٢٨ فبراير قدمت بتكليف من قيادة “حزب اتحاد الشعب في الكويت” مسودة بيان تأسيس المنبر وآلية عمله التنظيمي، الذي سبق أن اتفقنا على تأسيسه، وجرى صبيحة يوم الثاني من مارس ١٩٩١ عقد المؤتمر التحضيري لذلك الائتلاف في ديوان عبدالمحسن الفرحان بالروضة وإقرار تلك الوثائق وانتخاب قيادة كنت أحد أعضائها، وذلك بحضور العشرات من قيادات مختلف تيارات الحركة الوطنية الكويتية وكوادرها وعناصرها، وكان بينهم نايف الأزيمع، الذي استمر مقيماً بالبلاد بضع سنوات قليلة، ثم اضطر مرة أخرى إلى مغادرة الكويت خلال النصف الأول من التسعينات، وغاب نايف عن الصورة إلى أن نشط خلال النصف الثاني من العقد الأول لألفيتنا الثالثة في الكتابة على صفحات جريدة “الجريدة”, واحتلت قصائده بالعامية جزءاً ليس قليلاً مما كتبه ونشره في عموده المقروء… ثم شيئاً فشيئاً غاب نايف مرة أخرى عن المشهد، الذي كان يمكن أن يملأه نشاطاً ويثريه فكراً لو كان موقعه بيننا، إلى أن رحل عنا يوم الثلاثاء الماضي ليموت في الغربة اللعينة.
وكم أتحسر عندما أرثي نايف الأزيمع، من دون أن أتمكن حتى من الحصول على صورة له… فيا له من غياب مؤلم!