تونس : رئيس تحت التهديد.
فريد العليبي
الحوار المتمدن
-
العدد: 6079 - 2018 / 12 / 10 - 15:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما يجتمع مجلس الأمن القومي في تونس ويلقي رئيس الدولة خلاله كلمة بمثل تلك الحدة فإن حدثا جللا قد حصل ، أو في طريقه لكي يحصل ، ومناسبة الكلمة كانت الكشف عن الجهاز السري ، وهى تؤكد احتداد الازمة السياسية ، التي خلافا لما تقوله حركة النهضة ورئيس الحكومة المتحالف معها عن نهايتها بتغيير بعض الوزراء فإنها تتفاقم .
ويدرك رئيس الدولة أن النهضة وضعت يدها على الحكومة والبرلمان ، وهي في طريقها للسيطرة على قصر قرطاج ، بما يؤكد فرضية الانقلاب الصامت ، لذلك يحاول قطع الطريق أمامها باستثمار ما في يده من أوراق ، ومنها ورقتي الجهاز السري والانقلاب ، ووضعهما بين يدي القضاء العسكري.
وقول الرئيس إن حركة النهضة وجهت اليه تهديدات في بيانها المؤرخ في 26 نوفمبر 2018 يؤكد عمق الخلاف معها ، وهى التي اتهمت الرئاسة بترويج أكاذيب وتوظيف القضاء لغايات سياسية الخ...وقد أجاب هو عن التهديد بالتعبير صراحة عن خيبة ظنه في تلك الحركة ، بذكر عجز بيت من الشعر العربي القديم ، جرى بعد ذلك مجرى الأمثال ، للإشارة الى من واتته الفرصة فاقتنصها ،عابثا سارحا ، مرحا ، يقول فيه صاحبه الذي يرجح أنه طرفة ابن العبد مخاطبا قنبرة ( طائر ) أفلتت من فخ نصبه لها : خلا لك الجوّ فبيضي واصفري ( استعمل الباجي هنا كلمة فرخي ) فالنهضة خيبت أمل الرئيس الذي وضع ثقته فيها منذ صفقة باريس، ودافع عنها في حضرة " الكبار " ، حتى إنه نفى مرة انتماءه اليها لشدة اقترابه من شيخها ، صديقه الذي أكد أنه صوت له خلال الانتخابات الرئاسية الفارطة ولكنها قطعت يده اليمنى ، ممثلة في رئيس حكومته ، الذي أضحى قبضة من قبضاتها ، تشهرها في وجه خصومها ، بما في ذلك الرئيس نفسه ، وهى تتمادي في ذلك ، وبسيطرتها على قصر قرطاج عبر الانقلاب المفترض ، تكون قد مرت من قطع اليد الى قطع الرأس !!.
ولكن ما لم يقله الباجي إلا تلميحا هو الأشد تعبيرا عن مقصده ، حيث يترك الخيبة جانبا ويتجه ناحية مواجهة التهديد بالتهديد ، فقد كتب الشاعر الذي أحال اليه ، مخاطبا القنبرة اللئيمة :"لابدّ يوما أن تُصادي فإصبري" ، بما فهم منه توعده النهضة بصيدها في الأخير، فقد قطعت يده و لن ينتظر حتى تقطع رأسه !!.
وهذا الصراع مرشح لمزيد التطورات خلال الأيام والأشهر القادمة ، وهو غير منفصل عن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تهز البلاد ، وإقرار اتحاد الشغل الاضراب العام في جانفي المقبل . ورغم أن البعض يحاول استثماره في صلة بالانتخابات القادمة إلا أنه قد يخرج عن السيطرة ، جراء الاحتجاجات الاجتماعية المتصاعدة بين الفئات والجهات المحرومة ، وتغذيته من قبل قوى دولية وإقليمية وعربية ، تسعى الى الاستفادة منه لحسم تناقضاتها في ساحة بعيدة عنها ، وهي تجد في تونس أرضا خصبة لذلك .
ويبدو أن الباجي قائد السبسي قد اقترب من ادراك حقيقة مفادها أن من يلاعب الاسلام السياسي ويدخله الى بيته يسقيه سمه ، فبورقيبة ذاق جرعة من ذلك السم ، وبن على أيضا ، وعربيا وقع كثيرون في الفخ نفسه ، وشربوا من نفس الجرة ، ومن أشهرهم " الرئيس المؤمن " أنور السادات الذي قضى اغتيالا على يد أولئك الذين أخرجهم من سجون عبد الناصر ومكنهم في أرض الكنانة فأفسدوها ، وعلى عبد الله صالح في اليمن، الذي راقص ثعابين الاسلام السياسي من سنة وشيعة فانتهي نهاية بشعة على يدها فقد استفاق بعد الأوان ، وواجه مصيره الذي كان ، وهناك أمثلة كثيرة أخرى.
وفي تونس يعرف عن الشيخ راشد الغنوشي ولعه بمخاتلة عدوه ، فالرجل صاحب ذهن مشبع بالتقية ، وقلما يتطابق ظاهره مع باطنه ، وهو لا يفصح عما يفكر فيه إلا بعد أن يكون قد تجسد عملا ، متباهيا بما أنجزه ، وهو لا يجد حرجا في قول وفعل الشئ وضده ، فبينما كان حزبه يهدد الرئيس ، كان هو يرسل اليه وروده لتهنئته بعيد ميلاده ، وربما كان الباجي هذه المرة يضحك في سره ، وهو يستقبل الهدية بانتباهه الى أن طائرة " التوافق " التي جناحاها النهضة والنداء كما وصفها الغنوشي، لم تطر أبدا في سماء تونس، ومن طارت وحطت وتستعد لأكل كل حبات القمح التونسي ، هي " حمامة " الغنوشي دون سواها ، وهو الذي دقت الآن ساعته ، لكى يدرك أن الحيلة في ترك الحيل .