سياسة الصدمة


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 7486 - 2023 / 1 / 9 - 00:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يما يلي مقدمة كتابي الجديد الذي سيكون قريبا في المكتبات .
مقدمة.
قبل عامين تقريبا صدر كتابي: سياسة الأزمة، حوارات وتأملات في سياسات تونسيةـ، وفيه قراءة لمظاهر ومضامين الوضع السياسي التونسي بين سنتي 2018 و2020، وكان ذلك الكتاب استمرارا لكتابين سابقين يعالجان بدورهما ذلك الوضع منذ انتفاضة 17 ديسمبر 2010 حتى سنة 2013 ، الأول صدر سنة 2011 وعنوانه : تونس الانتفاضة والثورة ، والثاني عنوانه : الربيع العربي والمخاتلة في الدين والسياسة وصدر سنة 2013.
وكان القصد من تلك المؤلفات الوقوف على الوضع السياسي من جهتين، الأولى معاينة الأحداث أثناء وقوعها، والثانية تحليلها بالكشف عن محدداتها وتطوراتها، فضلا عن القيام بمقارنات بينها وبين أحداث سابقة تونسية وعربية وعالمية.
وتمثل الأحداث اللاحقة مادة الكتاب الرابع و يمتد أغلبها بين سنة 2021 و نهاية سنة 2022 ،وقد اتبعت فيه نفس التمشي المنهجي، أعني التحليل العيني للواقع العيني والمقارنة واستخلاص النتائج والتنبؤ بمآلات الوضع. وهو مثلها مسكون بهاجس تجميع الأحداث وترتيبها واخضاعها الى المساءلة على النحو الذي يمكن للأجوبة عنها تيسير فهمها بصورة تتجاوز ظواهرها الى بواطنها فالتاريخ ليس سردا لوقائع وانما هو تدقيق وتحقيق لها ، وهنا تؤدي الفلسفة وظيفتها من حيث تحليل الوضع السياسي بالنظر في التناقضات المحركة له وتحديد اتجاهات سيره القادمة.
لقد كانت تونس في طليعة الانتفاضات العربية مثلما كانت أيضا في طليعة الانقلابات عليها ، و قد حافظ المنتفضون فيها بهذا القدر أو ذاك على روح المقاومة فتركت الانتفاضة الكبيرة المجال لانتفاضات صغيرة متنقلة من جهة الى أخرى ، مما أضعف حكم الإسلام السياسي وحلفائه الليبراليين وسمح ببروز ظاهرة قيس سعيد وفتح السبيل الى التحرر ولو جزئيا من حكم العشرية السوداء ، وهذا أمر مهم يحاول الكتاب تبينه دون إغفال سؤاله الرئيسي الذي لا يخفى طابعه النقدي وهو هل يمكن اصلاح الدولة بالدولة ؟
واذا كانت المؤلفات السابقة تتناول الوضع في ظل الانقلاب على الانتفاضة التونسية بالتفريق بين الثورة والانتفاضة والتمرد الخ .. والكشف مبكرا عن ذلك الانقلاب وطبيعته واعتماد مفهوم المخاتلة لسبر غور خطاب الانقلاب في السياسة والدين و صناعة الأزمات فإن الكتاب الحالي يعرض ال الوضع في جانب كبير منه في ظل تغيرات مهمة جرت في نهره ، دشنها الاختراق في جسم الانقلاب الذي مثله فوز غير متوقع بالرئاسة سنة 2019 لمترشح ينتسب الى انتفاضة 17 ديسمبر ، وهو ما مثل منعطفا عبر عنه قيس سعيد بإفصاحه شيئا فشيئا ، قولا وفعلا ، عن قطيعته مع الانقلاب الذي سرعان ما بدأت أركانه ترتج خاصة مع هبة 25 جويلية 2021 وما تلاها من وقائع كانت عبارة عن صدمات متتالية، إذ لم يكن المنقلبون يستفيقون من واحدة حتى تأتي أخرى أكثر شدة . ومن هنا توظيف مفهوم الصدمة لقراءة تلك الأحداث ، ومن ذلك أيضا كان عنوان الكتاب .
وغني عن البيان أن الكتاب لا ينظر الى التغيرات باعتبارها تمثل تحولا نوعيا في طبيعة الدولة والمجتمع ، غير أن ظروفا كثيرة تبدلت ، مُرجحا أنها تغيرات كمية ولكنها مهمة كما ذكرنا ، وأن الانتفاضة التونسية مستمرة بهذا القدر أو ذاك من خلال الصدمات فما يجري الآن هو ارتداداتها التي تتخذ شكل انفجارات في السيــاسة خاصة وبقدر أقل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة .
لقد حافظنا في هذا الكتاب على النصوص التي صدر أكثرها في جرائد ومواقع الكترونية كما هي، بما في ذلك تسلسلها الزمني الذي بدت عليه ابان نشرها ولم ندخل أي تغيير عليها عدا بعض التدقيق اللغوي ، بما من شأنه أن يقدم للقارئ لوحة للوضع السياسي التونسي خلال السنوات المشار اليها ويمكن الأجيال القادمة من الالمام بالانتفاضة ولواحقها من زاوية تأريخية أيضا .
و اذا كان ما يهيمن على تلك النصوص هو التحليل فإن ذلك لا يعني أنها خالية من النقد كما قلنا ، نقد المنقلبين على الانتفاضة ولكن أيضا صناعها بالوقوف على هزائمهم وانتصاراتهم خلال تجاربهم الواقعية ، وفي صلة بنقيصة رئيسية تتعلق بمسألة التنظيم ، فقد برهنت الأحداث أن الشعب دون تنظيم يظل رغم اندفاعاته الثورية الجارفة عاجزا عن تحقيق نصره .
إن السياسة موازين قوى والشعب لا يزال ضعيفا، هذا ما يجب إدراكه وهو لم ينجز ثورة، المنجز هو ما دونها و الانتفاضات والهبات الشعبية تغير الوضع كميا لا نوعيا، لذلك يظل القديم هو الأقوى مستفيدا من صفوفه المنظمة وماله الوفير وإعلامه الخبيث ومثقفيه التقليديين ودعم رعاته الخارجيين ، و هذا حال تونس الآن . ولتغيير تلك الموازين هناك طريق واحد يتمثل في تنظيم الشعب وتوحيده، وفي لهيب المقاومة سيكتسب ثقافة جديدة تقوم عليها سياسة جديدة ...شعب جديد يخرج من رحم شعب قديم ... تونس الجديدة لا يمكن أن ترى النور إلا وهي تدفن تونس القديمة. وهذا الاستنتاج نجده في الكتب السابقة أيضا، اذ لم يتغير جوهر نظرنا الى الوضع منذ بداية الانتفاضة حتى اليوم.
والآن فإن الشعب لم يخرجوه ولو مؤقتا على الأقل من السياسة فقط وإنما من الثقافة والنقابة أيضا، ترى كم نسبة الحضور في الندوات الفكرية والأمسيات الأدبية والشعرية الآن؟ كم نسبة المشاركة في الاجتماعات النقابية...؟ من المسؤول عن ذلك؟ أليس الإعلام التافه والسياسة التافهة وثقافة الانحطاط. .ولكن أيضا الوطنيات والوطنيون الذين يتركون الساحة مستقيلين...متعللين بأن العاصفة عاتية ولا سبيل الى مقاومتها ومن ثمة فإن إرجاع الشعب إلى السياسة والثقافة وغيرهما مهمة وطنية ، وهى تبدأ أولا بإيجاد منابر يمكنها نقل الفكرة إلى أوسع الشعب واضحة متميزة ، وهذا الكتاب يطمح الى تأدية دور ولو بسيط في هذا الخضم وذاك المعمعان