تونس : ما دين الدولة ؟


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 7291 - 2022 / 6 / 26 - 16:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ظل العرب ومن بينهم التونسيون يتخبطون حتى الآن في معضلة الارتباط بين السياسة والفكر الديني المتزمت ، وهو ما كان سببا في فتن مروعة لا تزال نيرانها مشتعلة حتى الآن ، ذهب ضحيتها ملايين البشر، فضلا عن عرقلة تقدمهم من قبل قوى محافظة استعملت الدين لتأبيد نفوذها ، فكانت سيطرة السلطة الدينية شبه الدائمة على السلطة السياسية و الثقافية وعلى كل مناحي الحياة تقريبا . وكثيرون هم أولئك الذين قدموا حياتهم موتا وسجنا ونفيا بسبب محاولتهم الفصل بين الدين والدولة ، وهي الجهاز السياسي الأكثر شهرة ، فقد اتهموا بالمروق وجرى تكفيرهم ، ومن بينهم فلاسفة وأدباء وساسة .
والمفارقة أنه من رحم العرب خرج ابن رشد ، الذي صرخ يوما: أيها الناس لست عالما بأمور دينكم وإنما أنا عالم بأمور دنياي ، كما أنهم هم الذين ما انفكوا يحفظون عن ظهر قلب قول النبي العربي : أنتم أولى بأمور دنياكم ، ولكن دون قدرة على هضمه عمليا حتى الآن .
واذا كانت بلدان كثيرة ، من الغرب الأوربي حتى الشرق الصيني والهندي والروسي الخ .. قد حلت تلك المعضلة بوقف الاشتباك بين الدين والدنيا ، فإن العرب ظلوا عاجزين عن تحقيق ذلك ، وربما يُفسر هذا بأنهم لم يعرفوا ثورات فعلية خلال عصرهم الحديث فظلوا يقتاتون من ثورات السلف خلال العصر الوسيط ، التي كانت فيها الكلمة العليا غالبا للدين جراء ظروف تاريخية معلومة .
واليوم تشهد تونس وهى تتأهب لإعلان دستورها الجديد ، سجالا مكررا حول تلك المسألة التي ظل يلفها الغموض في دستوري 1959 و 2014 . ويبدو أن الاتجاه الآن هو نحو قطع خطوة تبدد ما التبس ، وتضع حد لذلك الاشتباك بتأويل يتبناه رئيس الجمهورية يقول إن الدولة مؤسسة وهي كسائر المؤسسات لا دين لها ولا تحاسب كفرا وايمانا، ولا تدخل جنة ولا نارا . ومن ثمة وجوب التنصيص على دين الأمة عوضا عن دين الدولة ، مثلما يتم الحديث حتى في الأوساط الأكاديمية عن فلسفة إسلامية وعلوم إسلامية وتفكير إسلامي ، حيث لا يحضر الدين بمعناه الضيق وانما بمعناه الحضاري الواسع .وهو على هذا النحو يرتقي بذلك السجال الى مستوى التفكر والتدبر. و ما كان هذا ليقع دون الفعل الثوري التونسي من انتفاضة 17 ديسمبر حتى هبة 25 جويلية الشعبية ، فذلك الفعل يقترب من أن تكون له انعكاساته السياسية والاقتصادية والقانونية الخ .. .
و إذا نجح التونسيون في حل المعضلة فذلك سوف يحسب للانتفاضة التونسية ، وسيكون لقيس سعيد الفضل في انجاز ما تعذر ، ولن يقف الصدى في تونس وانما سيشمل بلاد العرب قاطبة ، فربط الدين بالأمة دون الدولة مهم ، ففي هذه الحالة تكون الدولة محايدة دينيا وهو ما سينعكس في القوانين وهذا ما يحتاجه العرب اليوم . ووقتها فإن التونسيين الذين قدموا للعرب شعار : الشعب يريد اسقاط النظام سيقدمون لهم هدية ثمينة أخرى هي الفصل بين الدين والدولة ، بما يحد من الفتن الطائفية والمذهبية.
كان ابن رشد حريصا على مخاطبة الناس بما يفهمون ، ورغم ذلك كفروه فحرمت الأمة التي خاطبها من عقله، بينما استفادت أمم أخرى لم يخاطبها منه ، هذا في الفلسفة ، أما في السياسة فقد كان بورقيبة في القرن العشرين حريصا على الأمر نفسه ، و لكنه لم يستطع حتى تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الميراث ، بسبب قيود الفكر الديني المتزمت، وهو ما فشل فيه الباجي قائد السبسي أيضا خلال القرن الواحد والعشرين رغم توفر الفرصة، و جاء قيس سعيد معولا على مخاطبة الناس بما يفهمون أيضا ، وهو يخطو الآن خطوة في الاتجاه الصحيح ، من خلال الفصل بين الدين والدولة ، والمفارقة أنه اتحدت ضده قوى الاسلام السياسي وقوى الحداثة الهجينة ، أما الشعب الذي يبحث عن الشغل والأرض والحرية والسيادة الوطنية والعدالة فهو معه كما تؤكده مؤسسات سبر الآراء ولا تهمه السجالات