المنظور الفيزيائي للكون عند رونيه ديكارت


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 5972 - 2018 / 8 / 23 - 21:10
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

" وجب علينا أن نستنتج وجود جوهر ممتد طولا وعرضا وعمقا وقائم الآن في العالم"1

لقد أفضى مسار الشك المنهجي الذي قطعه ديكارت إلى اكتشاف الكوجيتو من حيث هو اليقين الفلسفي الأول إلى التعرف على أفعال النفس من جهة الوعي والتفكير والإرادة والاقتناع بأهمية الصدق الإلهي في ضمان الوجود الفكري والمحافظة على بقاء الكون واستمراره. ثم يأتي بعد ذلك الدور على عملية التفكير في العالم بغية التعرف على خصائصه وطبيعته وإدراك الأشياء المادية من جهة ماهيتها ووجودها.
لكن ماهي العلاقة بين الله والعالم؟ وكيف تبين صفة الخلق في هذا العالم الذي يحيا فيه البشر؟ وما معنى الخلق المستمر؟ وعلى أي نحو خلق الله العالم وحفظه في الوجود من كل ضياع ؟ وإذا كانت حقائق الثبات والخلود والأزلية ترجع إلى القدرة الإلهية الخلاقة فما القول في العالم الطبيعي وصفة الحدوث التي تشير إلى تلك القدرة إشارة مستمرة؟ وهل العلم هو نفسه في اليقين الميتافيزيقي واليقين العلمي واليقين العملي؟
لقد جاء في كتاب مبادئ الفلسفة ، الجزء الثاني، 21، أن " العالم هو ، في معناه الأكثر عمومية، المادة التي يتركب منها الكون، الجوهر الممتد في الكون كلهsubstantiae corporeae universitas ". فالعالم بهذا التعريف لا يمكن أن يتماه عند ديكارت مع الطبيعةnature بصورة تامة ومتطابقة. إن الطبيعة بالمعنى الديكارتي قد تم تعريفها من خلال مبادئ أكثر عمومية ( خاصة القوانين الثلاثة عن المحافظة على الحركة والتمييز بين الأجسام الصلبة والأجسام السائلة). لهذا السبب يقترح ديكارت الانطلاق من عناصر تجريبية وفرضيات نظرية بغية المرور من معرفة عامة بالطبيعة إلى معرفة جزئية بالكون يتم من خلالها اختبار مدى صحة هذه القوانين وهو ما يسهل إدراك العالم الحقيقي أو العالم الجديد.
بيد أن تصور ديكارت لمسألة المادةmatière على أنها مجرد جوهر ممتد أحدث في النظرية الديكارتية للعالم عددا من التبعات التي يقوم بعرضها في كتاب العالم أو الضوء على النحو التالي:
كل جزء من المادة يقبل الانقسام بصورة غير معروفة20 وامتداد العالم غير معروف21، ولقد تكونت الأرض والسماوات من المادة ذاتها، وبهذا يتعذر الحصول على عوالم كثيرة وإنما هناك عالم واحد22.
توجد هوية مشتركة وتطابق تام عند ديكارت بين مصطلحي العالمmonde والكون univers ، ولكن النسق المتكون من الأرض والشمس والكواكب المرئية لا يتمتع بأي منزلة تفاضلية ولا تمركز خاص.
كل نجمة تم اعتبارها من طرف ديكارت شمسا قائمة الذات ترافقها مجموعة من الكواكب والأقمار التي تدور حولها في سمائها، ولو فرضنا المساء التي توجد حولها سائلة فإن هذه الكواكب تكون محمولة في دوامة من المادة تتكون من أجسام صغيرة وصلبة في دلو حيث الماء يدور بواسطة عصا (المبادئ3).
أما النيازك والشهب فهي مثل الأجرام تتكون من نفس العناصر وقادرة على المرور من نسق الى آخر.
اللافت للنظر أن التوزيع الذي قام به ديكارت للعناصر إلى شمس- سماء- كواكب وأجرام يناسب العناصر الثلاث التي تتوزع إليها المادة عندما يتم تحريكها وتقسمها إلى جسيمات وهي الرهيف – الشفاف- الكثيف.
بيد أن المبادئ العامة للطبيعة التي تم اشتقاقها من طرف ديكارت من قوانين المحافظة على الحركة هي نفسها تستند على الدوام الإلهي، ولهذا السبب تقتضي دراسة العالم المرئي امتحان الظواهر الأرضية والسماوية وتقر باستحالة تحطيم العالم الواقعي بافتراض مبادئ أخرى تكون مستنتجة بطريقة استدلالية.
لقد دفع ديكارت علم الكون الذي أسسه إلى مواجهة علمية مع ثلاثة فرضيات فلكية كانت سائدة في بداية القرن السابع عشر:
- نظرية بطليموس التي تقر بمركزية الأرض
- نظرية كوبرنيكوس التي تنفي مركزية الأرض
- نظرية تيكو براهي التي تقوم بالخلط بينهما.
في نهاية المطاف يرى ديكارت أن الشمس تظل في مركز النسق الذي يتكون من عدد من الكواكب التي تحيط بها وتدور حولها ولكنها ليست البتة في مركز الكون ويبرهن على ذلك بأن حجم الكون غير معروف واللاّمتناهي لا يمكن تحديد مركز له. لعل هذا الإقرار في حجة أخلاقية ضد مزاعم الإنسان في معرفة كل شيء كما ذكر ذلك في رسالة إلى الملكة اليزاباث في15 سبتمبر1645 . كما أن التمييز الذي قام به حول تعريف الحركة من جهة الاستعمال الدارج ومن جهة الحقيقة يسمح له بالقول بأن الأرض لا تتحرك البتة بما أنها تتحرك بالنظر إلى السماء اللزج الذي يحملها .لقد طرح ديكارت إشكالية خلق العالم من عدم ex nihilo من حيث هي دوغما دينية تنتمي إلى التقليد المسيحي مع القديس أنسلم الذي اشتغل على دلالة لفظ اللاّشيء rien وخالف بذلك وجهة النظر السائدة في القرن 17 وأقر نظرية خلق الحقائق الأبدية بواسطة الله التي قام بصياغها منذ 1630 في رسالتين إلى ميرسن بتاريخ 15 -04- 1630 و27-05-1630 وأوردها أيضا في رسالته إلى مسلاند 02-05-1630.لقد رأى أن الحقائق الأبدية تغطي البديهيات المنطقية والبنيات الرياضية وماهيات الأشياء والقيم الإيتيقية.
لقد تعارض الموقف الديكارتي مع الموقف الوسيط عند كل من توما الأكويني وسواراز والذي كانا يعتبرا الماهيات تمثل جزء من الحقيقة الفكرية لله وليست البتة مخلوقة من طرفه ، في حين ذهب هو إلى تعريف الله بأنه مؤلف الماهية والوجود بالنسبة للمخلوقات وأن المبادئ الضرورية للعقل تصدر عن حرية الله.
على هذا النحو تأحذ المبادئ الضرورية قيمة القوانين بالنسبة إلى الفكر ومن مستوى الطبيعة أيضا.
بيد أن ديكارت أكمل نظرية خلق الحقائق الأبدية بواسطة الله بإيجاد نظرية ثانية أسماها نظرية الخلق المستمر والتي سمحت له بتفسير الاستمرار في الوجود لكل كائن مخلوق من طرف الله، وفسر ذلك بأن كل جوهر متناه يحتاج إلى نجدة متواصلة لكي يحافظ على بقائه في الوجود ، وفي هذا الإطار يقوم اله بالتدخل في كل لحظة متجددة من أجل إعادة خلقه . بطبيعة الحال يجب أن تكون الحركة التي يحفظ بها الله العالم الذي كان قد حلقه في السابق متطابقة مع حركة الخلق الأصلي (البدئي) لهذا العالم في أول مرة .
المصدر:
1 ديكارت رونيه،، كتاب مبادئ الفلسفة ، القسم الثالث، فقرات 26-28.

كاتب فلسفي