تونس الباكية .


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 5878 - 2018 / 5 / 20 - 14:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ماتت السياسية التونسية مية الجريبي فانفحرت عواطف التونسيات و التونسيين من المواطن ‏الفايسبوكي التعيس حتى ‏الرئيس الذي أصدر بيان تأبين . قالوا كانت مناضلة شرسة ولبؤة ‏وعملاقة وأيقونة ومقاتلة واستثناء الاستثناء وهي من معدن نادر ، ‏وتمنوا السلام لروحها ‏‏الطاهرة والزكية وطالبوا بتشريفها بجنازة وطنية ، واقترح مدرس فلسفة سك عملة تحمل ‏صورتها الشخصية وأفرج اعلامي ‏عن صورة تجمعه بها وقد وضع يده على كتفها ،وقال ‏طالب أنه سمع أنها كانت تقف وسط الطريق دفاعا عن حرمة الإنسان ، ودبج شعراء ‏فايسبوكيون قصائد بالمناسبة ‏وقال أديب أنها كانت تحبه ويحبها ، وبكوا زمانا رديئا يأخذ ‏فيه عزرائيل " اللعين والانتقائي " المناضلين تباعا ورجا " يساريون "ملاك الموت " ‏‏الالتفات قليلا الى اليمين وإلا انقرضوا وبقي اليمين وحده يسرح ويمرح .‏
وبلغ آخرون مية رسائلهم الى ‏أحبائهم في العالم الآخر من الشهداء حتى الآباء والأمهات ‏والإخوة فقد أضحت المسكينة مكلفة بمهمة ‏ساعي بريد بين الدنيا والآخرة حال موتها ، ‏وكتب أحدهم الكلمات التالية التى تعكس حالة احباط جارفة تعصف بتونس كلها : ‏‏"حبيبتي ‏مية بلغي شهداءنا أن تونس تنزف وأن وضعنا يزداد سوءا ،وأن دماءكم مازالت في أعناقنا ‏‏،بلغهم أننا في زمن ردئ ،زمن ملوث ، وطننا بين ماض مستعمر وحاضر عاجز ومستقبل ‏مجهول،رحمك ‏الله،وأعاننا على زمننا‎.‎‏"‏ بما يذكر بتلك الرسائل التي كان يكتبها المظلومون ‏المصريون الى الامام الشافعي المتوفى منذ قرون راجين إياه رفع الضيم عنهم فوجد فيها ‏عالم الاجتماع النابه سيد عويس مادة خصبة لتحليل سيكولوجية المقهورين ( أنظر كتابه : ‏من ملامح المجتمع المصري المعاصر – ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي ‏‏).‏
هل كانت "مية " السياسية كل ذلك يا ترى ؟ كان حزب مية المتقلب الأسماء من ‏الاشتراكي الى الديمقراطي وصولا الى الجمهوري الأقرب من بين " اليسار الرسمي " الى ‏سلطتي بورقيبة وبن على ، حتى أن أمينه العام كلف في وقت ما بمهام من قبل الرئيس الفار ‏وشارك في أغلب المسرحيات الانتخابية وسمح له بإصدار جريدة ومجلة ، كما كان الأقرب ‏الى الجماعات الاسلامية حتى أنه لقب بـ "نجيب الله "، ومية نفسها لم تقل يوما أنها تريد " ‏اسقاط النظام " ولا أودعت زنزانة ، وعندما حلت بمدينة الرقاب المكلومة بشهدائها ‏وجرحاها بعد الانتفاضة الأخيرة لتعقد اجتماعا طردها غاضبون من القاعة رافعين شعار " ‏البي دي بي والتجديد باعوا دمك يا شهيد " في اشارة الى تولي قائد حزبها وحزب التجديد ‏للوزارة في استغلال رث لانتفاضة لم تحقق بعد أهدافها . ‏
يبدو أن تونس الباكية تبحث عن أبطالها بين الموتى وعيونها مشرئبة الى السماء بينما ‏تغرق رجلاها في أرض رخوة ، انها تضع وزر أزمتها على الأموات وتعترف أنهم الأقدر ‏على حلها لو كانوا بين أحيائها ، فقد مات الرجال ومية نفسها لم تكن امرأة ....بل كانت " ‏ألف رجل " بحسب ما كتبوا ..........ربما نجد في العجز عن مواجهة الأزمة والخوف من ‏‏" المجهول " ما يفسر كل هذا الكم من البكاء كما أن الأساطير تجد في ذلك أخصب تربتها .‏