قمر الجزائر 8


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5852 - 2018 / 4 / 21 - 14:15
المحور: الادب والفن     

ستلقي على عاتقها كل المسئولية، هذا ما قالته حسيبته التي له. إذن، فلتتحمل المسئولية كلها! سيعود سعدي إلى التسكع في القصبة، كالسابق. ألم يكن دمها هي الذي سال بين ساقيها؟ عائلتها هي التي شانتها؟ شرف أبيها هي الذي جرجرته في الطين؟ جدائلها هي التي لوثتها؟ ماضيها هي الذي ضحت به كحاضرها ومستقبلها؟ هو، سعدي، لم يزل يواصل السير على رصيف شارع العربي بن مهيدي، ذلك الثوري الذي ادعى الجنرال ماسو أنه انتحر، حتى لا يقيِّم، هو كذلك، إلا تاريخه الذي له. العربي بن مهيدي، ذلك البطل المنتصر رغمًا عنه. نصر مقدم للإقطاعيين. أبو سعدي، أول إقطاعيي البلد، لم يكن يشعر بأيِّ تعذيبِ ضمير، بأقلِّهِ، لم يكن يشعر بأقلِّ تعذيبِ ضمير، وهو يسقي الأرض من دم أولئك الفلاحين المساكين الذين كانوا يخدمون الأرض. بينما كان يمتلك النصر، بينما كانت الأرض ملكًا للكافرين بالنعمة، للذين لم يكونوا يخدمونها. سعدي، على صورة أبيه، لم يكن ليتراجع، وسيبقى كما كان دومًا، إقطاعيًا ابن إقطاعي. لكنه شجاع ينظر إلى المستقبل بأمل وإصرار. "بَلِّعْ فُمَّكْ!"
و... ثم، لا! لن يتملص من آثار جريمته. كانت قطرات دمها هي التي سالت، غير أنها من صنع موساه هو. انسابت القطرات كخمر كريم في حلقومه المرمري. أحرقت أحشاءه لكنها دمغته هو إلى الأبد. لهذا، سيبقى إلى الأبد متورطًا في الذنب، في الجريمة، في لحظة الرعب تلك. تلك اللحظة المرعبة التي ستمسخه صرصارًا أسود في مَنْمَلَة. لام نفسه. و... لا بأس! إنه مصير كل الذين يفكرون أنهم مذنبون. البراءة قضية غربية. استيهام. إنه مصير كل الذين يعيشون في اليأس. على الأمل أن يكون مجرمًا، كالقبلة، كالتحسيسة، كالفكرة ودقات القلب، كالجوع والظمأ، المتعة، الشهوة، الحب، الكره.
لا، لا، من اللازم أن يتحمل، هو، وكليًا، كل المسئولية، فمم كانت مذنبة؟ فتحت ساقيها لمتعته هو، وَتَرَكَهَا كالجيفة إلى الكلاب. هو من فعل كل شيء، وتخلص فيها من قذارته، بعد أن سلبها أغلى ما كانت تمتلكه في الوجود. سيقول كل هذا لصلاح. لصديقه صلاح. لحطاب الماضي. ربما خفف عنه ذلك. سيقول كل هذا لصديقه المخلص. سيستمع إلى نصائحه، وَسَيَتَّبِعُهَا كالطفل. نعم، كان هو المجرم، الطاغية، السادي، المغتصب، ولم تكن المرة الأولى.
عند ذاك، تذكر جانين التي كان يظن أنه قلعها من ذاكرته، كما يقلع شوكة من قدمه. كان في باريس، لكن ذلك كان مختلفًا، نعم، كان ذلك مختلفًا. جانين، جاني، لم تكن حَسِي، وحَسِي لن تكون أبدًا جانين. عادت إلى ذاكرته طائفة من الأسباب. هو الذي اغتصب جانين، بينما حَسِي هي التي دفعته إلى اغتصابها. هَدَّأَهُ إثبات الحالة هذا. مع جاني، كان المجرم، بينما مع حَسِي، كان البريء. ابتسم سعيدًا، وساحة بور سعيد ترتسم جانبيًا من بعيد. زيادة على ذلك، في ذلك الوقت كانت جانين في الثالثة عشرة، بينما حَسِي اليوم في الثلاثين. وتفتحت ابتسامته. ما فعله، كان غلطتها هي، إذا كان من الممكن الحديث عن غلطة. حَسِي كانت بالغًا، وكان ذلك بمحض إرادتها. أشفق على جانين، وجرفه الشعور بالذنب. تذكر مَسْكَنَهُ في شارع الأنفاليد، وعادت إليه صورة جسدها الذي انهار. أحس أن جاني، الصغيرة جاني، تطارده، وهي تسدد إصبع الاتهام إليه. لكنها لم تكن سوى عاهرة، ككل الفرنسيات... إن لم يُزِلْ بكارتها، أزالها غيره عن طيب خاطر. عندما لطخها بالدم، أحس بنفسه كالعملاق، مخلصًا لثورة الراديو والتلفزيون، ولوطن الجنرالات. وفي نفس الوقت، كان ينتقم من أبيه، ومن جي موليه، وبعد ذلك من كل رؤساء فرنسا الذين أتوا بعده، وكان يكسب قلوب الفلاحين الذين سلبوهم المجد.