السعودية تنتفض!


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5657 - 2017 / 10 / 2 - 23:08
المحور: الادب والفن     

للتغطية على الانتفاضة، والتقليل من أهميتها، أقام الوهابيون عرض موضة للملابس النسائية، الأول من نوعه في العربية السعودية. كان الأمراء من بين أوائل المدعوين والموظفون الكبار، وكانت المفارقة أنهم لم يصطحبوا نساءهم. كان عرض الموضة للنساء، ولم تكن أية امرأة موجودة في القاعة. كان كل الحاضرين من الرجال، كلهم كانوا رجالاً، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر ظهور العارضات لأول مرة في تاريخ جزيرة العرب. الحدث كان مهولاً، وكل قنوات العالم تركت المنتفضين ينتفضون ما شاء لهم الانتفاض، وجاءت لتغطي الثورة النسائية في بلد يطالب رجال الدين فيه المرأة بالتزلج على الويب مع محرم. خفف تقني الحفل الأضواء في الوقت الذي انطلقت فيه الموسيقى، موسيقى جنائزية إذا لم تخطئ الآذان، وبدأت العارضات الملتفات بأحجبة سوداء، كلها سوداء، تضيق أو تتسع، تطول او تقصر، تنغلق أو تنفتح، بدأت العارضات الملتفات بالأحجبة السوداء يتواردن تباعًا. كان خليفة عبد الرحمن، مدير مكتب هنا العالم في العربية السعودية يعلق على المشهد همسًا، وكأنه في معبد، والكاميرا الذكية للمصور المرافق له تنقل كل شيء بأدق التفاصيل، وتلح على حركة الردفين لدى العارضات، والابتسامات الرجولية، ابتسامات تتراوح بين التعجب والتمتع. وفي لحظة من اللحظات، توقفت الموسيقى الجنائزية لتحل محلها موسيقى الهيب هوب، وإذا بالعارضات يأخذن بالرقص، وشيئًا فشيئًا يخلعن أحجبتهن ليظهرن كلهن شقراوات من أوكرانيا، وكانت قمة قمم العرض لما أخذن يخلعن ثيابهن الداخلية، ليكتشف الحاضرون ومشاهدو هنا العالم كتابات على أجمل أجساد نساء العالم تندد بعبودية المرأة السعودية، وتطالب بتحررها. اقتحم رجال الشرطة القاعة، ورموا الكل، أمراء وغير أمراء، بين القضبان.
لكن فعلاً ناريًا كهذا ضاعف من تأجيج الانتفاضة التي انتقلت من حي الجبس في الرياض، هذا الحي الفقير، إلى باقي أحياء عاصمة بلد الألف بئر نفط وبئر، وبعد عرض الموضة الجريء، بلد الألف نهد دم ونهد، فجاء فرانك لانج ليشارك في صنع الحدث بشخصه، وليس فقط بصوته أو بصورته. كان الحدث من الجسامة بقدر ما يستحقه من اهتمام، وكان من الأصالة بقدر ما يفرضه من خَلق. في بلد توقف التاريخ على أردافه منذ عشرات السنين بل مئاتها، كان للشمس ضوء آخر، وكان لليل قمر آخر، وكان الرمل يتنفس كالجسد الذي مات، وعادت تنبض في عروقه الحياة. هل نقول للأنبياء ما لم يقولوه، وللآلهة أن ينزلوا بيننا؟ هل نشرب الماء من أكف جبال السراة، ونسقي القوافل؟ ماذا لو عادت البحار إلى بطونها لتولد بين أذرعنا؟ هل الغضب غضبنا أم غضب العواصف؟ وكل الماضي، مذ كان هناك ماض، كيف نتركه يمضي في سبيله؟ سنحتفل بدين جديد نصنعه بأيدينا، دين ليس وهمًا. سيكون دين الحق لا دين الوهم، سيكون دين الحق والحقيقة، الحقيقة بين حقائق، ولن نحلق وحدنا تحت سماء لنا، ولكن مع غيرنا، تحت سماء لنا ولغيرنا. سنحلق كالطير، وننصت إلى خفق أجنحتنا وأجنحة السنونو. لِمَ الهرب من الرغبات، والأسماك لا تهرب؟ ولِمَ قمع الرغبات غير المستحيلة يوم تستحيل كل رغبة؟ سنبكي بعد أن نضحك، لأننا نخاف من الضحك كثيرًا، هكذا نمارس حرية البكاء، ونفهم معنى الحرية. لن نتركهم يمارسون علينا حرية الاستفزاز، فمن خارج التهويم نسعى، بعد أن كان الحلم هاجس كل يوم. كالمرضى كنا بأحلامنا، في أحلامنا، لا نحتمل من خارجها غيرها، منذ احتلم الصبي والصبية، وهما بين يدي الله لأول مرة، ورأيا في عجزهما قوة الآيات. لم نخرج عن الآيات، فهل كنا نستطيع الخروج؟ لنخرج من جوف البحر كان علينا الدخول من الشواطئ، دخلنا، ولم نستطع الخروج. لهذا كان من الصعب علينا الغرق في قطرة ماء جعلناها تكبر حتى غطت الكون. لف الكون الظلام، وكان الظلام سعادتنا. الظلام سعادتنا كان. كان الظلام سعادتنا، وكانت سعادتنا الظلام. إلى الأبد. كانت سعادتنا الظلام. رفضنا كل سعادة أخرى. رفضنا حتى سعادة الضوء. كانت سعادتنا الظلام، لأننا لم نفهم سواها. سعادة الظلام. لم نشأ سواها. قاومنا كل سعادة غيرها. كل سعادة غير سعادتنا. كل من لهم سعادة غير سعادة الظلام، فتحاشانا الفلاسفة والمجانين والأنبياء. سعادة الظلام، حرية الظلام، متعة الظلام. الظلام. الظلام. الظلام. هل نهمل الاستفزاز لِنَهَمٍ في نفوسنا إلى شيء آخر غير التقوى؟ النور ليس خبزنا، ولا أفخاذ النساء. فاغنر ليس نبينا، ولا موزارت. المريخ ليس بيتنا، ولا القمر المحاق. كان علينا أن نبدأ من هنا، أن تكون البداية على أعتاب قصر متروك للرمال. كان علينا أن نموت، فما الحياة، والحياة ثعبان الجهل، وثدي بين أنياب الذئاب؟ كان علينا أن ندخل على أختنا عارية في الحمام، ونرفع ما بين فخذيها على أسنة الرماح. كان علينا أن نغزو أجسادنا بعقولنا ونقيم لها قوانين أخرى غير قوانين الاستمناء. كان علينا أن نؤسس لمكة ثانية كلندن باريس نيويورك أو شتوتغارت. كان علينا أن نبدأ بمحو صورنا كاريكاتورات للعبث في كل مكان وزمان، وكان علينا... وكان علينا... وكان علينا...
قال فرانك لانج لأحد الشبان المنتفضين، النازعين لألثمتهم، تحت أسوار القصر الملكي، والعالم كله يسمع:
- ليس التعصب حافزًا على التغيير.
- التعصب الأعمى تعني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الديني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب السياسي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الرياضي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الطائفي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب النسائي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الدعائي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الذئابي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الكلابي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الملائكي.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الشيطاني.
- التعصب الأعمى.
- التعصب الأعمى ضروري لحركتنا، في هذه المرحلة على الأقل، مقابل التعصب الوهابي.
- وهل ستتركون الأمور لغيركم كما ترك زملاؤكم المصريون مثلاً الأمور لغيرهم؟
- نحن لا يوجد غيرنا.
- أنتم قيادة أنفسكم؟
- نحن قيادة أنفسنا، نعرفنا قبل كل شيء كما يقول الفيلسوف: اعرف نفسك بنفسك تعرف الله والكون.
- الحكام السعوديون لم يعرفوا أنفسهم بأنفسهم؟
- ولم يعرفوا الله والكون. كل حركتنا لنجعلهم يعرفون أنفسهم، فتكون نهايتهم.
- الأرباح النفطية الأخيرة التي لا تقدر أبعدتهم إذن عن معرفة أنفسهم، وأنتم، ألا تخشون من جهل أنفسكم لما يصبح الحكم بين أيديكم؟
- نحن لسنا قططًا سمينة. القطط السمينة في الليل تبدو أُسودًا، كما هي عليه في السعودية أو في الأراضي المحتلة.
- في السعودية أو في الأراضي المحتلة؟ ما العلاقة؟
- العلاقة هي الاحتلال.
حصلت انفجارات مفاجئة مزقت أجساد العديد من المنتفضين، فذهب محدث فرانك لانج ليرى، وضاع في الدخان. على الرغم من وحشية الحرس الملكي، تمكن الشبان من تحطيم بوابة القصر، واختراقه، فترك صاحب هنا العالم الميكروفون لزميله خليفة عبد الرحمن. زوده الطاقم التلفزي بكاميرا مخفية، وعجل الدخول إلى عالم الحاكم السعودي، عالم الحاكم الأبدي، كما كان القابضون من الأئمة يتشدقون، وأفراد مجلس الشورى الذين لا شورى بينهم يشيرون، واللوطيون ممن يمارسون المتعة على أجهزة تحركها الحركات الاهتزازية يدللون. كان القصر يبدو متروكًا من حراسه، وكلما توغل رجل التحري الخاص السابق في ثناياه كلما تبدى مفتوحًا لكل من يريد الدخول فيه. أخذ بعض الشبان يعودون بسرقاتهم الثمينة، وكأنهم يعودون بأعمارهم. وفي القاعة الملكية لم يكن أحد هناك، أو هكذا خُيل لفرانك لانج، إذ ما لبث أن سمع صوتًا لكهل يوبخ رجلاً، وهو يعطيه ظهره، لأنه لم يقاتل في سبيله. خاف فرانك لانج على نفسه، لمّا أخذ الكهل يهدد بمسدس، ويتوعد، فأخرج مسدسه من صدره، وفي اللحظة ذاتها، جاءت عيناه في عيني الرجل الذي خر راكعًا على قدمي الكهل مرددًا: عفوك، يا مولاي! مغفرتك، يا سيدي! رحمتك، يا ملك الإنسانية! خادمك إلى الأبد يرجو عفوك ومغفرتك ورحمتك! وليحول صاحب أكبر محطة تلفزية في العالم دون ارتكاب ملك الإنسانية لجريمته الإنسانية، أطلق الرصاص عليه، وقتله. مات الملك، وفي الحال، تناول الخادم مسدس جلالته، وأطلق الرصاص على فرانك لانج، وقتله. مات فرانك لانج، والعالم أجمع يتابع من الكاميرا المخفية باقي المشهد لمّا قَلَب الخادم الملك بحذائه، وبصق عليه، ثم غادر المكان بخطى ثقيلة.



القسم الأخير من رواية "هنا العالم"