ديمقراطية جديدة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5599 - 2017 / 8 / 2 - 21:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أولاً

ستكون الوشائج بين الدول العربية، في زمن العلمانية، كما كانت الوشائج بين الولايات المتحدة عند مولدها فدرالية من ثلاث عشرة دولة مستقلة، تتمتع كل منها بميزات معينة، وكالدول العربية تتقاسم نفس الثقافة ونفس الأهداف. سيحترم دستور الدول العربية احترام دستور الولايات المتحدة لهذه الفدرالية، وسيفصل بدقة وصرامة السلطات عن بعضها، السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية، فيتكلف مجلسا النواب والأعيان بسن القوانين، ويتكلف رئيس بتنفيذها، وتسهر محكمة عليا على احترام الدستور عند القرارات التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن منذ جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، بدأت تظهر التكتلات الإيديولوجية التي أدت إلى تشكيل الأحزاب، وفي البيت الأبيض أخذ الرؤساء الذين أعقبوا جورج واشنطن بتوسيع سلطاتهم، فالحروب تفرض اتخاذ قرارات عاجلة لا تحتمل الرجوع إلى منتَخَبين، بينما نحن، في زمن العلمانية، لن تكون لدينا حروب، وكذلك، ذرائع الأمن القومي كالحياة السياسية والدبلوماسية العالمية تجعل من السلطة المركزية التي هي سلطة البيت الأبيض سلطة ما فوق الدستور، ونحن، في زمن العلمانية، لن تكون لدينا حياة سياسية تطغى على كل حياة، ولا دبلوماسية عالمية تفرض رؤيتها على كل دبلوماسية.

ثانيًا

في الولايات المتحدة اليوم كالأمس لم يمنع الدستور مفاسد النظام الانتخابي، نظام ينكر على أصحاب الاختلافات الإنسانية الحق في التواجد والاستقلال والازدهار، ويجعل منها اختلافات سياسية حول مصالح حزبية هي في الواقع مصالح مافيوية ليس باستطاعتها أن تولد إجماعًا وطنيًا حول المسائل الحياتية للواقع، ليكون تقاسم "الغنائم" بين الحزبين الأساسيين طوال المدة التشريعية، هم يقولون بين اقتصاديي البلد، وهي في الواقع أوليغارشية، حكم القلة، لا حكم المواطنين، جماعة صغيرة نافذة همها الاستغلال.

ثالثًا

لما سبق، ستكون للفيدرالية العربية، في زمن العلمانية، طريقتها الدستورية الجديدة في الحكم، فتمنع الأحزاب، لأنها كتل مافيوية، ولأن أدواتها الإيديولوجية كالماركسية والدينية والليبرالية تقف عاجزة اليوم أمام الثورة الرقمية التي تجتاح العالم، والتي قسمت العالم بين منتجين ومستهلكين، وليس بين عمال وأرباب عمل، فغيرت هذه الثورة التكنولوجية في مرحلتها الرقمية الحالية الإنسان، وغيرت المجتمع بينما -ويا للمفارقة- تَغَيُّر المجتمع لم يغير طريقة الأحزاب في الحكم، التناوب في الغرب والاستبداد في الشرق. في حالة التناوب في الغرب الأحزاب هنا لإدارة أزمة رأس المال، فما يدعى باليسار وباليمين كالنبتة ذات الفلقتين، هما في جوهرهما واحد، لأنهما من نفس "العجينة"، وهما في مظهرهما غير واحد لبعض التدابير والإجراءات الشعبية التي يتغطى اليسار بها. في حالة الاستبداد في الشرق الملك أو الرئيس هو الحزب، وباقي الأحزاب، إن وُجدت، فليست إلا دمى متحركة.

رابعًا

لهذا نجدنا باحثين عن ممارسة سياسية جديدة لواقع اجتماعي جديد الأحزاب بأدواتها الإيديولوجية لا تؤثر فيه، لأن الواقع الاجتماعي الجديد تجاوز إلى الأبد هذه الأنماط القديمة في الحكم التي تنتمي إلى واقع اجتماعي قديم، ومع ذلك لم تزل تصر على تسلق عنق الواقع الاجتماعي الجديد، بينما تغمض الرأسمالية عينيها عنها طالما أنها في خدمتها، ومن بحثنا واجدين نمطًا جديدًا في الحكم محوره الإنسان، لا شيء غير الإنسان، لأن الإنسان اليوم هو القائم في قلب التطور التكنولوجي، كتقني بعد أن انتهى أن يكون عاملاً يبيع قواه العضلية، وكفاعل إنتاجي بعد أن انتهى أن يكون موضوعًا للاستغلال، على الأقل الاستغلال بصيغته المطلقة كما هو عليه في أدبيات الاشتراكيين الماديين والمثاليين على حد سواء، وصار هناك ما ندعوه "بالاستغلال المتفاوَض عليه" بعقد يرضي الطرفين التقني ومالك التقنية. هذا ما يحصل في الولايات المتحدة خاصة، وفي الغرب عامة، وهذا ما سيحصل عندنا في الشرق، في زمن العلمانية، مع تطبيق برامج التنوير والتجديد التي اقترحناها.

خامسًا

بناء على ذلك، سنؤسس لنظام سياسي جديد، فنخلق ديمقراطية جديدة تتواءم مع الواقع الاجتماعي الجديد عمادها منظمات المجتمع المدني، ومفهوم المجتمع المدني مفهوم يشمل كل المنظمات وكل البنيات غير التجارية وغير الدَّوْلِيَّة (من دولة) ينتظم الناس فيها لتحقيق أهداف ومُثُل عليا مشتركة. لهذا بدلاً من المضي عند الانتخاب بأحزاب ترشح من يصوت الناس له وتتنافس فيما بينها، ناسٌ اللاوعيُ يسيرهم في واقع ثقافي متدنٍ تسيطر عليه وسائل الإعلام، وتنافسٌ بالتالي غيرُ شريف، بدلاً من المضي عند الانتخاب بهذه الأحزاب، تقوم منظمات المجتمع المدني بترشيح من ثلاثمائة إلى ألف منتخِب، فإذا كانت لدينا ألف منظمة، كان لدينا مليون منتخِب يمثلون كل مواطني البلد، ومليون منتخِب وعيهم عالٍ بالنسبة لوعي غيرهم، ومن المليون منتخِب يكون المرشحون الذين يتم انتخاب أعضاء مجلس النواب منهم، وهؤلاء ينتخبون من أعضاء مجلس النواب رئيس الدولة، الذي يعيِّنُ رئيسًا للحكومة، ولا يقوم بأي دور آخر في الحكم غير الضامن للدستور. إنه نظام مراتب المجتمع في أحسن صوره! النظام السياسي الحر الوحيد في العالم وللعالم، لأنه نظام كوني إنساني يتعدى الأحزاب والأقطار والأجناس ابن زمانه، شرطه شرط هذا الزمان، ومن شرطه حل كل الأحزاب، منعها، لكنه لا يمنع أفرادها من المشاركة في منظماته المدنية بصفتهم الفردية، بلا أي طموح شخصي، لأن طموح الواحد الوحيد هو بناء الوطن، وفي الحالة العربية منافسة الأمم في العلم والتقدم.