موت عابر خلف قضبان الجحيم


بدر الدين شنن
الحوار المتمدن - العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 15:31
المحور: الادب والفن     

هناك بعض الناس ، يتمنون ، لسبب ما ، أن تنتهي حياتهم باكراً . ويحددون لهذه الرغبة ، أحياناً رقماً تقريبياً من سنين أعمارهم .
بعضهم يفعل ذلك بدافع الخوف من تزايد ضعف أداء أحد أعضاء الجسم الرئيسية العليل ، ومذلة المرض . وحالة العجز الحزين .
وبعضهم تحاصرهم ظروف قاهرة لكبريائهم ، ليس لها حل في الواقع المنظور .
وهناك من تمكن منه شعور الفقد اليائس الشديد .. لحبيب .. أو عزيز .
وهناك من يريد أن يرحل عن الحياة .. محافظاً على جمال يتمتع به في أعين الناس .

أم أنا .. فقد تمنيت .. بعفوية تامة .. وأنا في الثلاثين .. أن تكون نهايتي في الخامسة والأربعين . وصرت كلما مضت سنة من العمر .. وبعدها سنة .. أشعر باقتراب الرقم الذي تمنيته . وأفكر .. لماذا اخترت حدود عمري بهذا الرقم . فلا أجد جواباً مقنعاً .
فأنا لا أكابد من مرض عضال .. ولا وضعاً صحياً مقلقاً .. ولا فقري فقراً مدقعاً .. ولا أهتم بمعايير الجمال المتوفرة عندي أو عند غيري .. لكن الرقم ظل دون تعليل .
وكلما صادف ظهور هذا الرقم أمامي .. كنت أصحك في نفسي من الخواطر التي يثيرها .
وأحلـها .. ربما هناك من يعرف تفاصيل حياتي .. ورغباتي .. قد سرب هذا الرقم بخبث إلى وعيي .. وأدخله تكراراً في حياتي .
وأتساءل من هو هذا الشخص .. الذي وضع الرقم ضمن أقداري . .. وهل هناك فعلاً .. من يحدد أقدار الآخرين ومصائرهم . ؟ وأستهزئ من الفكرة والسؤال . وتمضي الأيام .. ويبقى السؤال معلقاً .

ولما بلغت في أوائل الربيع الخامسة والأربعين .. لم أعرف أني قد وصلت إلى الرقم ، الذي عبر حياتي ، وتوهمت أنه الحد الفاصل بين موتي وحياتي .
فقد كنت منذ سنوات منهمكاً بأعمال ومهام ، تستنزف مني كل الوقت في الليل والنهار . وفي ذاك النهار بالذات ، كنت عائداً من دمشق حاملاً مواد النشر ، للعدد الجديد من الجريدة المكلف بإصدارها في الشمال .
كنت سعيداً ، لأن كل المواضيع التي قدمتها .. إليهم هناك .. قد حصلت بعد نقاش متعب ، على الموافقة عليها .. وبقي علي أن أسلمها لصاحبي .. لتطبع وتصدر . وذهبت إلى حيث أتوقع ، أن صاحبي هناك ، لأسلمه المواد .. ونتفق على موعد لاستلام العدد جازاً .

لم أجد صاحبي في ذاك المكان .. وإنما وجدت بدلاً عنه .. أناس يحملون أشياء قاتلة مرعبة .
وأخذوني مقيداً معصوب العينين .. إلى مكان ما .. في ذاك المكان اكتمل الرقم الخمس والأربعون
وبدأت في مكان يحتوي على شروط وأدوات الجحيم .. التي تستخدم بقتل روح الإنسان وجسده .. بدأت أدقق .. بشيء من الهوس .. إن كان الرقم اللعين معي هنا .. يرصد ما يجري .

كان الرجال الذين كلفوا بالتعامل معي .. وأنا سميتهم الأبالسة .. كانوا بلا مشاعر إنسانية أو رحمة . وأدركت بعد وقت قليل ، أنهم رغم الوحشية التي يظهرونها في التعامل معي ،إلا أنهم لا يريدون ، لغاية خبيثة عندهم ، أن أموت بسرعة . فقررت خوفاً من انهياري المفاجئ ، رغماً عني ، أن أموت لأسقط ما يريدونه مني غصباً عني .. وقاومت مقاومة جسدي الغريزية للموت .
في وقت آخر بعد ساعات .. أو أيام .. تجاوز " الأبالسة " حدود المعتاد في توحشهم .. وحدود الحفاظ على الحياة .. وفجأة أحسست إني قد دخلت حالة الموت .. فابتسمت وارتحت .. ولم أعد أشعر .. مثل الأموات .. بشيء .
ولما فتحت عيني .. لم أعرف أين أنا ..
هل مت فعلاً .. وإن مت فأي قبر هذا الذي أنا فيه .. هل أنا في عالم آخر .

أول شخص اقترب مني .. ليس من الأبالسة ؟ ثم جاء شخص ثان .. وأخذاني إلى مكان آخر .
ثم جاء عدة أشخاص . كانوا يتبادلون كلمات لم أسمعها .. وإن سمعت بعضها فلا أفهمها . وراحوا يعبثون بي .. من أذني إلى قدمي ؟ وأثناء ذلك فقدت الشعور بأي شيء
بعد كم من الزمن لا أعرف .. بدأت أعرف .. ودوار حاد يغمرني .. أني ما زلت حياً .. وبدأت أفهم بعض ما يقال حولي .. وأشعر بغرز الإبر في حسمي ..وبزرق السوائل فيها في عروقي
ذات يوم سأل أحدهم لا خر عن عمري ، ضمن عدد من الأسئلة . فقفز الرقم حمس وأربعون .. وفتح الرغبة عندي لأعرف عنه أكثر . ماذا يعني ذلك . هل كان الرقم مجرد انعكاس لارتداد شيء غامض في الوعي . وبعد أن مت وصرت في عالم آخر .. طوى الموت ما يتعلق به في حياتي . وأنا بدأت عمراً جديداً بدونه .. وبدون رقم آخر . .. ؟ .. وسخرت من تفكيري ، الذي تصور أني قد أكون في العالم الآخر ولا أدري .

في وقت ما وجدت نفسي في مكان آخر مختلف . وجدت نفسي في غرفة كبيرة ، جدارها الأمامي المطل على ممر كبير مغطى بشبك من القضبان الحديدية . وتضم نحو عشرين شخصاً ، يغمرهم الحزن والبؤس . وعرفت أن هذه الغرفة هي واحدة من عشرة غرف .. تديرها وتحرسها أبالسة مكفهرة الوجوه سريعة الغضب والبطش .
وفكرت أي عالم هذا الذي تحكمه الأبالسة .. وسألت نفسي .. أي رقم زمني تقديري لبلوغ الموت هنا .
وجرت الأمور .. في الزمان والمكان .. كاشفة عن عمق العبودية في العالمين .. عالم تحكمه الأبالسة هنا .. وعالم تحكمه الأبالسة هناك .

ومرت سنوات عدة في غرفة الجحيم .. التي ’طبعت شبكة قضبانها ، على شبكات عيوننا .
ونفكر بأمور مرت بحياتنا .. أو قد تمر بشكل ما .
وعند التفكير في النهايات .. تتصارع الرغبات مع معوقات الواقع .. مع الحلم . ونكاد نقول .. أننا أموات نتحرك . كل يوم يموت فينا شيء .. يأخذ جزءاً من أرواحنا وأجسادنا . ولما تكثر الأجزاء الميتة .. أو المقتولة فينا .. يستخدم الأبالسة ما تبقى من الجسد والروح ، للوصول بنا إلى النهايات المجهولة المكان والسمات . ولذلك ليس في الجحيم وراء القضبان ، وقت محدد للنهايات وأشكالها . إن شبح الموت يحوم فوق الجميع .. دون موعد .. ودون استئذان

بعد أن صرت في عداد جحيم القضبان .. وعرف الموت مكاني .. صار الموت يزورني بين وقت وآخر .. لفترة قصيرة جداً ويغادرني .. دون أن يلمح ولو تلميحاً .. أنه في مرة قادمة سيأخذني معه . وصار الموت العابر .. هكذا سماه أحد الأطباء .. صار عقوبة أشد من عقوبة الموت مرة واحدة . . وتحولت حياتي إلى لعبة عبثية .. بين الموت العابر .. والأبالسة .. والعلاج الناقص
وأحسست بعد سنوات .. أن أبالسة جحيم القضبان الحديدية قد أخذوا من جسدي وروحي جزءاً .. وأخذ الموت العابر جزءاً .. وأخذ العلاج الناقص .. القادر ربما على شفائي لكنه لا يفعل .. أخذ جزءاً .
ولم يعوض أي منهم بشيء يقارب ما أخذه مني . ولم يتركوا لي ، ربما كان ذلك سهواً ، سوى جزء من خريطة الذاكرة .

وأخرجوني من القضبان الحديدية .. إلى جحيم واسع مفتوح . وفي جحيم العالم المفتوح هذا ، عرفت بعد مدة وجيزة ، أين قبر حياتي وروحي .. إنه عالم بلا ملامح صديقة رحيمة . وقد ساعدني ما تبقى من خريطة الذاكرة ، على قراءة مجريات عمري المعقدة ، التي عوقبت فيها ، لأني التزمت بمصالح البؤساء وتحريرهم من الاستغلال . فأدركت أني الآن إنسان آخر. ليس هو الإنسان الذي كنت قبل الخامس والأربعين .وقد فسر لي إحساسي الجديد .. أن القهر في عوالم الجحيم .. وآخرها سنين طويلة خلف القضبان .. قد أعاد تشكيل عقلي وجسدي .. وجعلني غير ماكنت ’اعرف به وأعيش بين الناس . إنني صرت إنساناً آخر .. الفاصل بينمها ، هو الرقم خمس وأربعون .

المضحك .. المبكي .. في عالمي الجديد .. الجاف من الصداقة الحقة والرحمة .. أنني لا أملك رقماً جديداً .. يحدد أيام حياتي .. ولا أريد .. لأبقى جاهلاً كم بلغ عمري الثاني بعد الخامسة والأربعين .. وجاهلاً موعد نهايتي مرة أخرى .. لعل ذلك يفتح المجال للحلم أن يتجدد .