قمر الجزائر المِصراع الأول الفصل الأول4


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5380 - 2016 / 12 / 23 - 11:35
المحور: الادب والفن     

سيقول إن هربه بسبب الليل، فهو دومًا ما كان يخاف من الظلام، بل وأكثر من هذا، كان ذلك كيلا يعلم إذا ما كان المغتصِب أم المغتصَب. حتى كامو ما كان قد عرف حالة مماثلة مع "شمسه السوداء"، التي كانت له مبعث سعادة، ولهم مبعث تعاسة. ومنذ اللحظة التي استردا فيها أنفاسهما والضمير يذكرهما بواجباتهما، قَرَنَ سعدي صورة حسيبة بالبرهان ذي الحدين الذي كان يعذبه. لأي قالب عليّ الخضوع بالضرورة قبل الموت مجانًا؟ لأن من طلبت مني أن أحررها عبر جسدي ستجنح بجسدها إلى الدعارة أو إلى الثورة...
دلف إلى زقاق معتم، ونظر إلى السماء، مترددًا، وهو يشعر بنفسه غير قادر على متابعة النجمة الوحيدة التي تنبثق من الدجى. هذه النجمة، كانت عين الله له، وكانت تخفق كالراية، متعجرفة، مفتتنة، مضللة. هل سيتمكن من العودة إلى حسيبة ليمسح دمعها ويذوق من جديد طعم ثغرها؟ هل سيتمكن من الرجوع ليقول لها إنه لم يكن غير مكترث بمصيرها؟ و... ألم يكن باستطاعته، حتى ولو مرة واحدة في حياته، أن يسلك سلوك الرجل، الرجل بالفعل؟ أن يجرؤ على معاملتها معاملة المرأة، المرأة الحقيقية، المرأة التي لا تقتصر على "العورة"، أو على العار؟ أن يجرؤ على الاقتراب منها دون أن يربكه الشعور بكونه قوادًا إلى الأبد؟
لكن لا!
هي الباغية! المجرمة!
أليست الدم؟
كانت كل شهواته جافة. كان يريد شيئًا واحدًا، أن يزعق في أذني براءته. أخذ يضحك، انحنى، وهو يسعل، وأخذ يصرخ: "أنا بريء! أبله مسكين، لكن بريء!" عندما اعتدل، تلاقيا، هو وواحد ضعيف العقل، وجهًا لوجه، يبدو عليه الثمل.
- ما الذي أستطيع فعله من أجلك، خويا الزغير؟ سأل السكير بصوت أبح. كنت ماضيًا من هنا، وسمعت سعالاً وصراخًا.
- هذا لا شيء، أجاب سعدي، أصابني توعك، بعض التوعك.
- بسبب رطوبة الأزقة، خويا الزغير. هذا واضح للجميع. بسبب غائط الرطوبة هذه التي تفتك فتكًا ذريعًا بنا. الربو. هذا يعطينا الربو. لدينا الربو كلنا منذ بعض الوقت.
كحكح، ومد له قنينة كحول:
- اشرب لتدفأ، هناك بطاطا للجميع.
- بطاطا أم خمر للجميع؟
- خمر. سيدي إبراهيم. هناك خمر للجميع. البطاطا، اقتلعناها كلها لنزرع الكروم. أضربت أمي عن الطعام لهذا، بقدر ما هي مجنونة بها. البطاطا، هي ربها على الأرض. وأجود خمرنا نصدره إلى البلد الأصلي، كأجود غازنا، وكأجود بترولنا. كل ما لدينا من أجود من جهة أخرى.
- إلى البلد الأصلي!
- البلد الأصلي، خويا الزغير، البلد الأصلي، فرنسا، الوطن الأم! وهذا، هذا خمر حامض كالخل، مليح فقط لنا، نحن الفئران الصغيرة، لكنه يدفئ القلب.
استحوذ سعدي على الزجاجة، عازمًا على الهرب من الحاضر. تجشأ السكير، وتمايل:
- أعرف، أنت ذاهب إلى الجبل، خويا... الزغير.
- الجبل! أي جبل؟ أنت تهذي أم ماذا؟!
كان يرغب مع ذلك في الإفلات من الحقيقة، كل الحقيقة، ليس فقط من ساقي حسيبة المفتوحتين، لكن كذلك من كل غائط الواجبات والمسئوليات التي تضغط بكل ثِقْلِها عليه. أوطأ السكير صوته، وهو يعتقد أن باستطاعته الهمس، لكن ذلك كان جهدًا ضائعًا:
- من يتجول في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل هو فَلْلاق لا ريب، مجاهد إن شئت، واحد أحمق. حزرت. لكن حذار! الفرنسيون في كل مكان. هم في كل مكان هؤلاء الشياطين الصغار الجميلون. لو لم أكن أعرف بعض الأزقة الخفية لوقعت بين أيدي الفرنجة الفرنسيين، خويا الزغير.
- لماذا تقول الفرنجة الفرنسيين؟ هناك من ليس فرنسيًا؟
- ألم تكن تعلم؟ هناك الفرنجة الفرنسيون وهناك الفرنجة الجزائريون.
- آه! تعني الحَرْكِيَّة؟
- الفرنجة الجزائريون، قلت، يا قحبة! في أي ماخور تعيش، قل لي! أضربت أمي القحبة عن الطعام لهذا، نعم، أيضًا، صار هذا كمهنة لها، فكسروا لها الأسنان.
- خسارة للبطاطا.
- ليس كثيرًا كثيرًا. من الحظ أن البطاطا نقليها أو نغليها. بعد ذلك، نبلعها دون حاجة إلى مضغها. أقدم نفسي...
خلع سترته الوسخة، وكشف عن قميص كاكي ممزق مزين ببعض الميداليات القديمة، ثم أودع مواصلاً التمايل:
- علي لابوانت، هذا أنا. غدوت جنرال.
- ما أعلمه، مات على لابوانت في كمين نصبه له الجنرال الفرنسي الشهير ماسو، منذ زمن بعيد.
- الحق يقال، خويا، أنا لم أزل حيًا. وفوق كل شيء جنرال، كخصمي المِقدام. أنا هابط من الجبل على التو. اشرب لتدفأ، اشرب، أدفئ قلبك!
بلع سعدي جرعتي نبيذ.
- صحيح خمرك حامض.
- لكنه يدفئ الغائط في الأمعاء، خويا الزغير.
- الغائط الجزائري، عكس الغائط الفرنسي، لا يدفأ أبدًا من جرعة أو جرعتين.
- لا مكان للعنصرية عندما يتعلق الأمر بالغائط، يا غائط الكلب! فاكتف بالقليل لتُدفئ قليلاً قذارة كل القذارات وَبَلِّع فمك!
فجأة، أمسك سعدي من كتفيه مصيخًا السمع:
- هل تسمع خطواتهم؟
- أنا لا أسمع شيئًا، يا دين الرب!
- هم يقتربون، مِظليو كل الشياطين هؤلاء. وإذا وقعت بين أيديهم، ذبحوك كالحلوف. اهرب إذا أردت إنقاذ نفسك، خويا! اهرب بسرعة!
عند ذاك، أخذ "الجنرال" يركض، ثم غير رأيه و، مستديرًا نحو سعدي، لاحظ أنه كالأبله بقي مسمرًا في مكانه.
- لكن اهرب، أيها الغائطي، صاح، انفد بجلدك، يا دين الدين!
واندفع في زقاق بلا منفذ. بعد ذلك، سمعه سعدي، وهو يقلد الطلقات النارية بصوته الراعد، ثم وهو يطلق ضحكًا هستيريًا. "هناك من لم يزل يظن نفسه يعيش بالفعل في زمن الاستعمار!"، قال سعدي لنفسه ورأسه بين يديه لما فجأة، كما في الحلم، رأى أناسًا يصلون من كل ناحية، من كل حدب وصوب يأتون، زرافاتٍ ووحدانا، كأنهم طيور ليلية، خفيفي الحركة كاللصوص، منتظمي الخطوة كالجنود. اختفوا كلهم في الطريق المسدود حيث اختفى علي لابوانت في اللحظة السابقة. اندس سعدي في الظلال خلفهم، كثعلب الرمل الذي لا أهمية له. مد عنقه ليرى ما كان يجري، واكتشف بذهول علي لابوانت الهائج المائج كالشيطان في وسط تلك الغوغاء، مرتديًا رداء باي الجزائر، متشامخًا، ملوحًا بمنشته في حركة متصلفة. كانوا كلهم من حوله يركعون، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بعد أن ذهبوا ليسرقوا له. تركوا عند قدميه غنيمة اليوم: نقود بالأكوام، مجوهرات، ملابس من كل الألوان. لصوص متسكعون. كلهم لصوص متسكعون. كانت لبعضهم شفة مشطورة أو أنف مجدوع، فالأمر كان كالتالي: يبرز الفَلْلاقة أمامك فجأة، مسكونين بذاك الحقد الأعمى نحو كل ما هو "كولونيالي": "أنت تدخن؟ سجائر فرنسية فضلاً عن ذلك! لدعم اقتصاد العدو، بدل أن تساهم في جمع التبرعات للجبهة!" ويشطرون لك الشفة. ضربة السكين تروح مبرقة، وتنحرف أحيانًا، فيجدعون لك الأنف. بعد ذلك، خوفًا من أن تجد نفسك مذبوحًا، تصبح طوع أمر هذه الجبهة الهالكة، والتي بايها هذا الباي الهالك. فَحَصَ علي لابوانت، هذا الرجل المتعطش للمجد والثراء، بعناية كبيرة، حصاد اليوم، ثم أمر عباده الصالحين بالانتقال إلى التسلية والتسلي، فقاموا ورقصوا، شربوا وَكَيَّفوا، حتى أنهم تراذلوا وتضاجعوا، وأنشد الشعراء منهم شعرهم على آلات الطرب، شعرًا منحرفًا.

يتبع المِصراع الأول الفصل الأول5