فلسطينيات -عائشة عودة-: الساعيات نحو الشمس!


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5335 - 2016 / 11 / 6 - 12:22
المحور: الادب والفن     


"صباح الخير يا فاطمة"! هكذا كانت عائشة عودة المعلمة اليافعة في قرية عين يبرود قريباًمن رام الله تبدأ تدريسها حصص الرياضياتعقب اعتقال وسجن فاطمة البرناوي اول واشهر مناضلة فلسطينية سنة 1967 والحكم عليها بالمؤبد. بعدها بسنتين فقط تعانق عائشة فاطمة في سجن الرملة بعد اعتقالها والحكم عليها بمؤبدان وعشر سنوات.تهمة الإثنتين القيام بعمليات مسلحة، كلتاهما تعرضتا لتعذيب فظيع لإنتزاع الاعترافات. لم تكونا وحيدتان سواء في النضال او الاعتقال، او نسف البيوت او التعذيب وانتهاءً بالسجن المؤبد. كان قسم النساء الفلسطينيات في السجن يتسع عدداً، وضم مئات الاسماء التي صارت نجوماً في سماء المقاومة: رسمية عودة، مريم الشخشير، عفيفة بنورة، تريز هلسة، سامية الطويل وكثيرات كثيرات. صارت شمس صباح الرملة تتسلل إليهن كل يوم من النوافذ العلوية الصغيرة لغرف السجن تلاعب شعورهن وتقول صباح الخير ايتها الشموس. تجربة المناضلات الفلسطينيات في السجون الفلسطينية فائقة الغنى ومثيرة وكثير من جوانبها ما زال طي الإهمال، وتحتاج إلى رصد وتوثيق كتابي ودرامي.
عائشة عودة تشتغل على فرد طيات ما تم إهمالهوكشفها تحت الضوء: ملحمة من المقاومة والوجع فائقة الفوران بالتاريخ والقصص والوعي. نشرت مؤخراً "ثمنا للشمس" ثالث كتبها وفيه تسجل تجربة المقاومة في السجن، تجربتها ورفيقاتها في مرحلة استمرار النضال ضد المشروع الإحتلالي داخل السجن. هي لا تحب كلمة "سجينة" او "اسيرة"، تلفظها وترفضها، كما ارسلت لفدوى طوقان التي بعثت لها بقصيدة مهداة "إلى السجينة عائشة عودة". تقول عائشة سنوات السجن استمرار للنضال بوسائل اخرى، وفي مكان آخر. كانت معاركها الدائمة ضد إدارات السجون هي نبع "تفاؤلها الثوري" ورفيقاتها: مزقن الاعلام الإسرائيلية التي اصر السجان على رفعها على ابواب غرفهن بمناسبة "عيد استقلال إسرائيل" إمعاناً في الإذلال. تقوم معركة بين كل حين وحين انتهت بالضرب والعزل الإنفرادي. يناديها مدير السجن الباطش ليعطيها درسا في إستراتيجيات خوض المعارك. يقول لها إذا اردت خوض معركة عليك القيام مسبقاً بما يُسمى "تقدير موقف"، وهذا التقدير حول ميزان القوى ينبئك بإحتمالات النصر، وبناءً عليها تخوضين المعركة. لكن عندما يكون احتمال النصر صفر مطلق فإن خوضك الحرب ليس سوى انتحار. عائشة لم تنصت لمنطق موازين القوى، وكانت تناكف كل السجانين بأن مؤبداتهم لا تعني لها شيئاً وانها ستعود إلى الحرية والشمس. بعد عشر سنوات من اعتقالها جاءت الشمس، وافرج عن فاطمة واكثر من سبعين اسيراً واسيرة إثر عملية "النورس" في اول عملية تبادل بين المقاومة الفلسطينية واسرائيل سنة 1979.
قبل "ثمنا للشمس" كتبت عائشة "احلام بالحرية" ونشرته عام 2005 وبعده بثلاث سنوات نشرت مجموعة قصصية بعنوان "يوم مختلف" تطلق فيها لتداعيات وتراكمات التجربة كي تتجسد فنيا وابداعياً بعيدا عن ضرورات الإلتزام بالتدقيق في الرواية والتأريخ كما في كتابيها الآخرين. قراءة "احلام بالحرية" رحلة بالغة الصعوبة لما في من تفاصيل عن التعذيب وبشاعته والذي تحملته عائشة ل 45 يوماً. يصعب علينا ان نتخيل فتاة عشرينية في مطلع حياتها تتحمل ما نقرأه من "عبقريات" التعذيب الصهيوني. لم تنكسر ارادتها ولم ينتزع الجلاد منها شيئاً. احتاجت عائشة اكثر من ثلاثين عاماً كي تعود إلى تلك الفظاعات لتوثقها وتكتب عنها بإقتدار وتأمل. في "ثمنا للشمس" تستكمل عائشة عودة رحلة الرصد الدقيق وإعادة تركيب الأحداث. عشر سنوات من التحدي والتلويح بالقبضات للشمس والتواعد معها على اللقاء. اهمية ما تكتبه عائشة متعدد المستويات، ففضلا عن التأريخ السردي لتجربة وحقبة بالغة الأهمية والثراء في تاريخ فلسطين الحديث، فهي تكتب بإقتدار فني وقلم روائي. بين ايدينا نص يصلح لإحالته لمخرج مقتدر كي يصوغ منه دراما سينمائية رائعة، وهو ما اتمناه حقاً. رأينا افلاماً لا تعد و لا تحصى عن تجارب فردية او جماعية في سجون لا تبلغ كثافة القصة الدرامية فيها ربع ما نقرأه في "ثمناً للشمس". مشهد واحد فقط، على سبيل المثال، وهو محاولة الهرب والتناوب على توسيع حفرة صغيرة في نقطة مخفية تحت أساس احد جدران الساحة الخارجية للسجن تستحق فلماً كاملاً وهذا ما انتجته السينما في حالات شبيهة. السطور ادناه تنقل بعض المشاهد من نص عائشة عودة، الحقيقي والدرامي معا، كتمرين تخيلي لكاميرا تجول وتلتقط "زووم إن" و"زووم آوت":
"... اراد جندي ان يتسلى فأحضر "جندباً" وطلب مني أن آكله، فرفضت. هدد، لكني فرضت بهدوء. مزق رفضي شرنقة القهر. تحول الجندي بجندبه إلى رسمية وطلب منها ان تأكله، فرفضت بصوت أعلى واشد. استدار إلى عزية فصرخت به، كانت صرختها كشراع نشر أذرعه للإبحار. رفع الجندي عقب بندقيته ليضربها، فتحفزنا للدفاع عنها كأننا لم نكن قبل لحظات نئن من ثقل القهر ...".
"... كان حصولنا على الدفتر حدثا مهما. قمت شخصيا بكتابة مجموعة "ارض البرتقال الحزين" لغسان كنفاني، وتفاجأت من نفسي كيف كانت في ذاكرتي كما لو اني حفظتها عن ظهر قلب. كتبت رسمية ملخصاً لقصة "الام" لمكسيم غوركي ...".
"... وقال (المحامي العربي الذي وكله اهل عائشة للدفاع عنها): ما كان لك ان تزجي نفسك في السياسة وتدخلي السجن. وكان من الافضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات، فذلك خير من ان تكوني سجينة". اية صفعة يوجهها لي ولنضالي! ... قلت بغضب مشحون بحدة واضحة: لست انا السجينة. انا اكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال امتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم. هم السجناء لا أنا ...".
"...توالت الزيارات ومضى اليوم بين توديع واستقبال. انتهى يوم الزيارة وانا ما زلت في الإنتظار! أيعقل ان اهلي دون الجميع لم يحضروا! يا إلهي، ماذا حدث لهم؟ ... هل كنت وهما وانتهى؟ هل كنت قطعة من جليد ذابت وتحولت إلى دمع سكبته داخل الحمام كي لا تراه الرفيقات؟ ... بعد اسبوع حضرت اختي وحدها. أين امي؟ هل حصل لها شيء؟ شعرت للحظة بأن قلبي معلق بخيط واه سينقطع، وسأسقط في هاوية لا قرار لها ... (اختها): أنت تعرفين اني لا احب مرافقة الختيارت، سأرسلها لك هي ونجمة الاسبوع القادم. هل نسفوا البيت؟ قلت لك ان لا تسألي الاسئلة التي لا فائدة منها (كانوا قد نسفوه فعلاً)."
"... كنت اعلنت الاضراب عن الطعام قبل تسع سنوات ... (ضد) قرار اتخذته امي بمنعي من مواصلة دراستي. كنت سأترفع للصف الثالث الاعدادي، وكنت الفتاة الوحيدة من قريتنا التي تتابع دراستها في رام الله ... اعلنت اني لن اتناول الطعام حتى الموت (بعد ثلاث اسابيع على بداية المدرسة)! مع نهاية يوم الاضراب الاول .. جاءت وجلست إلى جانبي، واخذت تمرر يدها على رأسي: ... كومي كلي (انهضي وتناولي الطعام) وبكرة بنروح على عند المديرة، وانا بترجاها ترجعك. بكلها انك كنتي مريضة".
"... رندة النابلسي (احدى رفيقات عائشة في السجن)، التي انسلخت عن طبقتها (الارستقراطية) ودخلت العمل الثوري وبالذات العمل المسلح، وكانت في سجن نابلس تنتظر حكماً عالياً ... رندة الثورية والرقيقة كزهرة ياسمين، اصبحت وردة السجن وبلسمه. سمينا نوعا من الزهور لم نكن نعرف اسماً له: رند. اما سهام، توأم روح رنده، ابعدت بعد فترة، لتلقى قدرها و تستشهد على ارض سوريا اثناء حرب تشرين، العام 1973.
"... كنت اجلس ولطيفة في ظل الشجرة الوحيدة الموجودة في الساحة المسيجة التي نتحرك فيها. دخلت سيارة إلى داخل السجن، وتعدت بوابة القضبان وتوقفت بالقرب من مكاتب الإدارة. نزلت من السيارة مجندة، ثم نزلت شابة ممشوقة الطول كعود الخيزران، كما تصف امي جمال الطول، شعر حريري كخيوط ذهبية ينسدل ويغطي ظهرها. علقنا، ما اجملها من فتاة! هاتف في اعماقي قال إنها عائدة سعد! هكذا تخيلتها تطير في سماء فلسطين، حين سمعت عن عمليتها أثناء التحقيق ... ذهبوا بها إلى المخزن الاسود وعادت تحمل صرتها .. كانت تحمل حكماً بعشرين سنة. كان الحكم يزيد عن عمرها بثلاث سنوات. عائدة بريئة كالاطفال وشفافة كالبلور. احتلت في القلب مكاناً لم يحتله غيرها، كانت ابنة لنا. سألناها مرة: كيف استطعت إلقاء قنبلتين على دورية عسكرية يا عائدة؟ قالت: ببساطة، ليس من حقهم ان يجوبوا بدباباتهم شوارعنا وحوارينا..."
قصص المناضلات الأوروبيات التي جئن من بلدان مختلفة للقيام بعمليات مقاومة والتي يحتويها "ثمناً للشمس" وانتهين رفيقات لعائشة في السجن مذهلة هي الاخرى، ومعظمهن في العشرينات من العمر: مارجريت من بريطانيا، اوديت ونادية بريدلي من فرنسا، لي من كندا، باولا وماركوت من هولندا وغيرهن.
حولت عائشة ورفيقاتها السجن إلى مدرسة ثورية. المهمة الاولى محو الامية للجميع، بما فيهن مجموعة من بائعات الهوى ممن تردت بهن الاحوال الاجتماعية واضطررن لهذا الطريق. هؤلاء شكلن صدمة ل "الوعي الثوري" لعائشة ورفيقاتها، ايمكن ان يحدث هذا في مجتمعنا الفلسطيني؟ كل واحدة منهن لديها قصة بالغة الكثافة والمرارة. المهمة الي الصمود و"تربية الامل"، لا استسلام لليأس، والشمس سوف تأتي رغم المؤبدات ... وقد جاءت.
في السجن تبوح الرفيقات لبعضهن البعض بقصص الحب. يتركن للخيال ان ينداح لأيام ماضية، لأسماء دخلت القلوب الرهيفة، ولصور تتراقص في المخيلات مع اغاني الغرام لعبد الحليم وعبد الوهاب. لعائشة قصة عشقها ايضا. تتذكر وجهه بكل وضوح، واول مرة رأته فيها صديقا لأخيها يجلس إلى جانبه ... "كانت الومضة كافية لتحويلي إلى كائن من اثير، وليهتف قلبي "إنه هو بالذات". قلب عائشة الأثيري ما كان له ان يتوه بالعشق كثيرا. حبيبها "فدائي"، ولكم يسحرها هذا الوصف، وعنده مهمات، غادر يوما وعاد شهيدا. بكاه القلب حرارة مخلوعة من قلب الشمس. عائشة واصلت المسير.