جدل الاستشراق بين إدوارد سعيد وصادق جلال العظم


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5500 - 2017 / 4 / 23 - 07:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



رأيت من المناسب التمهيد لهذه المداخلة بملاحظتين عابرتين ذوات دلالة وظيفية ونقدية للنقاش الذي اطرحه. الاولى شخصية وتعود إلى منتصف تسعينات القرن الماضي عندما قرأت كتابي "الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية" لإدواد سعيد لأول مرة، اثناء دراستي ماجستير نظريات وابستمولوجيا العلاقات الدولية في لندن. أخترت مع المشرف كتابة بحث عن الكتابين مدفوعاً بالإعجاب المُسبق بسعيد وإندراجاً في ركب التأييد لما توصل إليه وما كنت قد قرأته في الصحف والترجمات العربية المتناثرة لمقولات الاستشراق. بعد قراءة الكتابين اصابتني حيرة شديدة إزاء بعض افكار سعيد، من دون التقليل بطبيعة الحال من حجم الإضافة الاكاديمية والمعرفية التي قدمها. وفي سياق كتابة البحث اطلعت على ما كتبه صادق جلال العظم من نقد في كتيبه "الاستشراق والاستشراق المعكوس". منحني الكتيب الثقة الكافية لأتحرر من هيبة ووطأة سعيد وافكاره واقاربها بموضوعية نقدية من دون الإنبهار الكلي. كما منحني نقد العظم القدرة على التصالح الداخلي والتموضع المُنصف، كفلسطيني هنا، جراء نقد سعيد المناضل الفلسطيني ذي المواقف الصلبة في مواجهة الدعاية الصهيونية وفي قلب "الامبريالية" ذاتها.
الملاحظة التمهيدية الثانية لها علاقة بدرس تعلمته من إدوارد سعيد نفسه ومرتبطة عضويا بالملاحظة السابق، ويقوم على مقولة عميقة له في كتابه "الثقافة والإمبريالية" وشدد عليها في كتاب "تمثلات المثقف" تقول: "لا تضامن من دون نقد". ترفض هذه المقولة اي تضامن اعمى مع مجتمعاتنا، ثقافتنا، وحتى مع المظلومين، وتشدد على مركزية النقد وضرورة مرافقته لأي تضامن. وجوب التضامن مع الطرف المظلوم لا يعني حظر نقده. بذلك، شجعني سعيد على نقده، بكون هذا النقد لا ينفي التضامن مع سعيد موقفيا ونضالياً، وبحيث يتوضح التفريق بين سعيد الاكاديمي الباحث، وسعيد المناضل الناشط سياسيا.
انتقل بعد ذلك إلى بعض جوانب السجال الذي اطلقه العظم حول الإسشراق بدءاً بالنص الشهير الذي نُشر في مجلة "الحياة الجديدة"، في بيروت عام 1981، ونُشر بالإنجليزية في اكثر من مكان. ثم اعاد نشره في كتابه "ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الادب". ثم انتهي ببعض الخلاصات والمقاربات التي تبقي على الملف مفتوحاً وثرياً للنقاش والإضافة.
انتقد العظم اولياً ومبدئياً تصور وتصوير سعيد للإستشراق بكونه المؤسسة الكلانية الثقافوية الغربية التي أنتجت في نهاية المطاف الإستعمار. سعيد، الناقد الادبي والذي اعتمد في "الاستشراق" على تفكيك نصوص غربية ادبية، قدم وعياً عميقا للتصورات الغربية الادبية، لكن هذا الوعي كان وظل وعيا "نصوصيا" (textual)، اي أسه وجوهره قائم على ما كتبه روائيون ومسرحيون وشعراء. والمشكلة ليست هنا بل في رؤية سعيد بأن هذا الوعي النصوصي الغربي اصبح ثقافة شاملة ومؤسسة فاعلة قادت وأدت إلى حركة الاستعمار. على الضد من هذا الوعي النصوصي قدم العظم وعيا سياقياً للغرب (contextual)، جادل من خلاله بان الإستعمار مشروع توسع تاريخي حفزته قوى ودوافع سياسية واقتصادية وهيمنية اهم بما لا يقارن من اي تأثيرات ل "نصوص وكتابات الاستشراق"، وابعد بكثير من نسبة انطلاق هذا الاستعمار نتيجة تأثيرات ذهنية غربية عن الشرق.
الجانب الثاني من السجال مرتبط بإستنتاج سعيد لجوهر النظرة الإستشراقية الغربية التي ترى الشرق معطى ثابتا ذا طبيعة لا تتغير، وهذه الطبيعة جوهرانية بالتعريف مُختزلة ومُتخلفة وعصية على التأثر بالسياقات التاريخية المختلفة. ومن منظور إنسانوي اراد سعيد نقض هذه المقولة الجوهرانية ونفيها عن الشرق بل ونفي كل جوهرانية او طبائع كلانية ثابتة وجامدة توصف بها الجماعات والثقافات بتعسف. وهنا بالضبط يتدخل العظم وينتقد سعيد بكونه اضفى طبيعة جوهرانية على الغرب إزاء نظرته المتأبدة للشرق عبر القرون الطويلة. هذه النظرة الغربية للشرق تبدو في "استشراق" سعيد معطى ثابتاً لا يتغير مع السياقات وهي نتيجة تعميمية تقفل باب التأثر والتغيير التاريخي.
وربطاً بما يسبق ينتقد العظم اطروحة سعيد القائلة بأن جذر الإستشراق الغربي المُستعلي على الشرق يعود إلى الماضي الإغريقي الذي أسس لهذا الإستعلاء وللإزدراء المستديم، والذي تواصل حتى اللحظة الراهنة. في المقابل يحصر العظم الاستشراق في حدود تاريخية ويراه ظاهرة حديثة مرافقة لبروز اوروبا البرجوازية وحركة الإستعمار، ولا يراه رؤية ازلية غربية ثابتة. كما ينتقد إقحام مقولات بعض مفكري وفلاسفة الإغريق ضد الشرق في جدل الإستشراق بكون تلك المقولات لا تشكل نظرية شاملة، بل هي انتقائية وغير موضوعية.
النتيجة المعرفية التي يخلص إليها سعيد من كل ما سبق في واحدة من اهم اطروحات الاستشراق وجود "اطار ابستمولوجي خاص" انتجه الاستشراق خلال قرون طويلة، وهو إطار تشويهي وإختزالي واستعلائي على الشرق. هذا الإطار التشويهي هو الذي انتج السياسة الاستعمارية التي عرفها العالم في القرنين الاخيرين. وهنا يتساءل العظم: هل لو كان هذا الإطار الإبستمولوجي الخاص حول الشرق اكثر دقة وموضوعية تجاه الشرق لانتفى وجود استعمار في الاصل؟ او لكانت السياسة الغربية اخذت منحى آخر؟ يرفض العظم هذه النتيجة ويرى السياسة الاستعمارية مرتبطة بمحركات اقتصادية وسياسية ونفوذية اكثر وطأة وتأثيرا من اي اطر معرفية.
الجانب الاخر الذي ينتقده العظم في مقاربة سعيد متعلق بمقولة الاخير إزاء عدم إمكانية فهم اية ثقافة، او فهم الآخر، من دون الإستعانة بما هو سائد في ثقافة "الأنا" من ادوات تحليل وافهام شائعة وتصورات وإدراكات. فهذه الأدوات هي التي تعمل على تفكيك وتحليل وإعادة ترتيب مكونات ثقافة الآخر إدراكياً ومفهومياً. وهنا يعترض العظم ويرى في ذلك نسبوية علموية مرفوضة، ويجادل بحقيقة وجود معرفة أنسانوية عامة يمكن من خلالها ان نفهم "الاخر" من دون إحالته للذات. النسبوية الثقافوية التي يراها العظم في مقولة سعيد هنا تؤدي إلى نتيجة بدهية وحتمية ولا فكاك منها وهي ان كل ثقافة تشوه اي ثقافة اخرى تريد ان تتعقلها وتفهمها، وبالتالي فإن الاستشراق المشوه للشرق هو شيء طبيعي ومتوقع.
اعتماداً على جوانب السجال المُشار إليها هنا يمكن ان نرى بوضوح نزعة الانسنة عند العظم والانفكاك من ثنائيات غرب شرق. منظور العظم يؤنسن حركة الحياة والتاريخ البشري وفق حركة عريضة مشتركة تتجاوز التخندق المتأبد بين الثقافات والحضارات. ولا يعني هذا اي مهادنة او تساهل من قبل العظم إزاء الاستعمار او الهيمنة الغربية، فموقفه الصارم معروف هنا. لكنه مؤمن بالحركة والتغيير لا بالسكون وتأبد المعطيات.
إضافة إلى ذلك، طرح العظم في معرض نقده لسعيد مفهومين: الاول "ميتافيزيقيا الاستشراق"، والثاني "ابستمولوجيا الاستشراق". ميتافيزيقيا الاستشراق تعني تحويل واقعة تاريخية متحولة إلى حقيقة انطولوجية ثابتة لا تتغير. "ابستمولوجيا الاستشراق" تقول انه بسبب الطبيعة الثابتة والجامدة للشعوب والمجتمعات العربية والاسلامية فإن المناهج العلمية والبحثية التي انتجها الغرب لا تنطبق عليها، ولا يمكن تحليل مشكلات وظواهر هذه المجتمعات تبعاً للمناهج العلمية والتصورات السوسيولوجية القائمة. وكلاهما يختصان بفعل واشتغال الاستشراق في الذهنية والتصور الغربي. ما يمكن ان نضيفه هنا هو مفهوم آخر يختص بفعل واشتغال اطروحة الإستشراق السعيدية في الشرق ذاته وتحديداً في الفضاء العربي والاسلامي، وهو "ايديولوجيا الاستشراق"، واقصد بها: تحول "الاستشراق" إلى ايديولوجيا ناظمة للنظرة إلى الغرب وتعامله مع العرب والمسلمين: كل سياسة، ممارسة، تعامل، إحتكاك، تبادل معرفي او غير معرفي، يوصم بأنه ممارسة استشراقية، وبالتالي يتم إغلاق منافذ الإستفادة من الغرب والإنفتاح عليه، وتأبيد علاقة العداء معه.
وقد تطورت "ايديولوجيا الاستشراق" هذه وتفاقمت، وقادت، عربيا واسلامياً على الاقل، إلى كسل وتسطيح ذهني مذهل، حال دون تقدم التفكير النقدي التفصيلي إزاء العلاقة مع الغرب وتعقيدها وتركيبها. وتناغمت هذه الايديولوجيا مع نظرات سائدة وتعميمية عن الغرب، اسلاموية، وقوموية، وماركسوية، ومنحتها قالباً اكاديمياً جذاباً. وشواهد الكسل والتسطيح الفكري والذهني في اوساط كثير من الباحثين الجدد، سواء إسلامويين ام قومويين او ماركسويين، كثيرة جداً. والخلاصة هنا ان "ايديولوجيا الاستشراق" نصبت سداً منيعاً يرفض استقبال اي نقد للمجتمعات او الدين او المكونات التقليدية بزعم الدفاع عن الاصالة والذات والهوية. وشكل ذلك انقلاباً معرفيا شاملا على فكر عصر النهضة ممثلا بالافغاني وعبده والكواكبي، وتناغم مع سيطرة القطبية الاسلاموية والعداء المؤدلج للغرب بدعاوى اكتمال "نموذج الذات" واكتفاءه بتاريخه وثقافته وعلومه.
قدمت ايديولوجيا الاستشراق ايضا حزمة غنية من المسوغات والادوات للإستبداد العربي بأنواعه، السلطوي والديني، وبزعم دعاوى الخصوصية الثقافية، ليرفض من خلالها اي نقد يوجه له بإعتباره استشراقي او غربي او متغربن. واستخدمت ايديولوجيا الاستشراق اداة تخوين وتكفير للفكر الناقد، او على اقل تقدير اداة تحقير واسترذال لما هو خارج عن الفكر القطيعي.
[email protected]
مداخلة في مناسبة مؤتمر "تكريم صادق جلال العظم: إرثه وافكاره"، الجامعة الامريكية ـ بيروت، ٢١ ابريل ٢٠١٧