-إستشراق فلسطين-: قناصلة القدس والمسيحية الصهيونية


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5892 - 2018 / 6 / 3 - 03:12
المحور: القضية الفلسطينية     

ما الذي يربط بين تهويمات المسيحية الصهيونية للرئيس الامريكي دونالد ترامب ونائبه مايك فينس وسفيره في اسرائيل ديفيد فريدمان حول القدس، وتهويمات بعض "رواد" ذلك التيار المسيحاني في فلسطين من رحالة وقناصل غربيين؟ إعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الامريكية لها يتبدى وكأنه خلاصة لأزيد من قرنين من الهوس الإنجليكاني المتعصب بفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين تسريعاً في الظهور الثاني للمسيح. تفيض كتابات الرحالة الامريكيين والبريطانيين على وجه التحديد في القرنيين الثامن والتاسع عشر بمثل تلك التهويمات، وهي الكتابات التي شكلت احد اهم الأسس الثقافوية والتخيلية التي بُنيت عليها السياسات الأنجلوامريكية تجاه فلسطين. فما رسمته تلك التصورات حول فلسطين تمحور حول بدائية من فيها بل وخلوها من الناس وضرورة إعادة "إحيائها"، وهو الإحياء الذي يجب ان يتم على يد الشعب الذي اختاره الله لها. في معظم ان لم يكن كل تلك الكتابات كان هناك طمس وإسكات للعرب الفلسطينيين سكان الارض. وفي احسن الاحوال كانوا يوصفون بأنهم مجرد قبائل بدوية غير مستقرة متواصلة الترحال تأتي عبر نهر الاردن او من جنوب النقب، ثم تواصل ترحالها. ليس ثمة حواضر مدينية في تلك الكتابات وحيثما اضطر كاتب ما للتوقف عند مدن وحواضر قائمة وتعج بالحياة مثل يافا وحيفا وعكا ونابلس والقدس والخليل وغزة كان ينصرف للحديث عن الحضور الغربي والسياسة والحكام الاتراك.

وفي سياق فهم تواصل تلك النظرة الدينية المتعصبة والإحتقارية جوهرياً تجاه فلسطين والعرب وثقافتهم عموماً، يبهرنا الباحث والمُترجم والروائي الفلسطيني جمال ابو غيدا بإنجاز كبير يضيفه إلى المكتبة العربية وهو الترجمة الكاملة لكتاب مُوسع من جزئين تركه القنصل البريطاني في القدس جيمس فن، والذي خدم في المدينة بين سنوات 1846 و1863. حديثاً صدر الكتاب بالعربية تحت عنوان "أزمنة مثيرة: وقائع سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853ـ1856" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وقدم له جوني منصور، مُترجما عن الاصل الانجليزي:
Stirring Times: Or Records from Jerusalem Consular Chronicles of James Finn of 1853 to 1856
وما يقدمه الكتاب للقارىء العربي يمثل شهادة تاريخية غنية التفاصيل وفي غاية الأهمية حول مرحلة بالغة الحساسية لعب فيها قناصل الدول الغربية ادواراً هامة في تحديد مصائر الشرق خلال حقبة الغروب والتفكك العثماني. الكتاب الذي بين ايدينا يتجاوز الالف صفحة من القطع الكبير، ابدع ابو غيدا في ترجمته من ناحية الدقة المُتناهية والرصانة والجهد المبذول والتحقق من المعلومات والوقائع ومقارنتها بمصادر اخرى (توراتية، ولاتينية، وايطالية، وسواها)، مُضافا إلى ذلك كله ملحق من أربعين صفحة لفهارس الاعلام والأماكن.

وقائع ومذكرات جيمس فن حافلة، فهو يسجل ادق التفاصيل وبدرجة مدهشة: الحوادث المختلفة صغيرها وكبيرها واسماء المنخرطين فيها، الحياة اليومية له ولمرافقيه وللرحلات التي كان يقوم بها في ارجاء فلسطين، تفاصيل حيوات واهتمامات وصلوات "الجالية الانجليزية" و"يهود القدس المساكين" الذين اتفقت بريطانيا مع السلطة العثمانية بإيوائهم تحت حماية القنصلية البريطانية، القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس وبيت لحم واسماء العائلات واسماء اهم الشخصيات والرموز فيها، رصد حركات الرحالة البريطانيين والامريكيين وكذلك الاوروبيين القادمين الى البلاد المقدسة، وخاصة اولئك المتجهين إلى الاماكن القديمة حول نهر الاردن وجبل مؤاب، العلاقات مع القناصل الاوروبيين الآخرين ومتابعة اخبار حرب القرم ضد روسيا وتطوراتها وتقدم او تأخر الجيش العثماني وانعكاس ذلك على سكان فلسطين وخوف المسيحيين من اي انتصار روسي، هذا إضافة إلى حركة الرسائل الرسمية والدبلوماسية والتجارية القادمة عن طريق البحر، فضلا عن متابعة الوضع الاقتصادي والتجاري خاصة في اوقات المجاعة وندرة القمح وزيادة الإحتكار ورصد الفروقات في الاسعار. ما يورده جيمس فن من تفاصيل خاصة إزاء حوادث وتطورات واماكن لم يتواجد هو شخصيا فيها تدفع للظن بأنه لم يعتمد على مشاهداته فقط، بل مشاهدات اخرين إما كان يستكتبهم او يسمع منهم ويسجل ملاحظاته بناءً على ما يسمع. لكن الاهم من التفاصيل الكثيرة والمثيرة المبثوثة في الكتاب الضخم هو السياقات والخلاصات العامة التي لا يسمح ضيق المساحة هنا إلا بتسجيل بعضها.

اول هذه السياقات هو ثقل وغلاظة التدخل الاوروبي في شؤون البلاد الخاضعة للحكم العثماني. فهنا نرى القنصل البريطاني وكأنه الحاكم الفعلي للقدس حيث تتجاوز تدخلاته وسياساته مهام حماية الانجليز وجزء من المسحيين لتصل إلى التأثير المباشر على الباشا التركي في امور خاصة حتى بأهل القدس الاصليين (مسلمين ومسيحيين). وهذا التدخل جاء بمسوغ حماية "الجالية الانجليزية في القدس" وهي التي بلغ عدد افرادها البالغون في منتصف القرن التاسع عشر ثلاثين انجليزياً (عدا الاطفال) كما يذكر فن نفسه (صفحة 616)، وبهدف زيادة هذا العدد فإن فن يضيف إليهم "... الذين يحملون الجنسيات الانجليزية والالمانية من السوريين واليهود المتنصرين الذين كانوا يتقنون اللغة الانجليزية"! وهكذا فإن رعاية شؤون هذه "الجالية الانجليزية" كان احد الأهداف الرئيسة التي من الُمفترض ان يتابعها القنصل المُعين. جيمس فن كان القنصل البريطاني الثاني في القدس وقد سبقه في المنصب وليم يونغ الذي عين سنة 1939 لرعاية شؤون جالية بريطانية كانت بالتأكيد اقل عددا. نعرف طبعا ان "الوصف الوظيفي" المُعلن لهؤلاء القناصل كان مجرد غطاء هش لمهام سياسية واستخباراتية واستراتيجية أهم بكثير. فقد كانت الدولة العثمانية في اواسط القرن التاسع عشر قد دخلت طور الأفول التدريجي، وهو الذي استنفر شهيات الدول الكبرى وخاصة بريطانيا وروسيا وفرنسا والمانيا التي تكآلبت لوراثة تركة رجل اوروبا المريض.
ثاني هذه السياقات هو التسويغ الديني الأنجليكاني للإنحياز لليهود ولفكرة عودتهم إلى "ارض الميعاد" ومماهاة هذا التسويغ مع المشروعات الاستعمارية الامبرطورية لبريطانيا. فعلى خلفية الضعف العثماني كان التنافس على المشرق وتحديدا مصر وفلسطين وبلاد الشام وقناة السويس في القلب منه يزداد حدة بين فرنسا وبريطانيا وروسيا والمانيا. وآنذاك رأت بريطانيا بالمرستون أن تعزيز الوجود البريطاني في الشرق، وقلبه فلسطين، يمكن ضمانه عبر توظيف الإدعاء المسيحي الصهيوني وجلب اليهود إلى فلسطين، وإعتبارهم رعايا الامبرطورية وممثليها. وهكذا لن تجد الامبرطورية شريحة اكثر اخلاصاً من اليهود في فلسطين الذين سيكونون بالغي الإخلاص لبريطانيا التي حققت لهم الوعد التوراتي.
السياق الثالث الذي يمكن الإشارة إليه هو إخفاء واهمال التاريخ المحلي وناسه، وإخلاء فلسطين من اي تاريخ او حضور غير يهودي، وهو ما اشير إليه اعلاه. وهنا "يبدع" جيمس فن في تهميش وجود عرب فلسطين إلى درجة مُذهلة، إذ بالكاد يذكرهم، وإن ذكرهم ففي سياق تهكمي واحتقاري حيث يكرر عبارات تشير إلى تعصب "الشرقيين" وتخلفهم، ويختزلهم في حمائل وعشائر متقاتلة ومتحاربة على الدوام ويبالغ في وصف تلك العداوات و"الحروب"، ثم عندما يضطر لذكر "ضحايا" تلك الحروب فبالكاد يكونون عدة افراد. تصوير "تخلف الشرقيين" في فلسطين يخلق مفارقة كبيرة مع "تحضر الاوروبيين" الذين يمثلهم القناصلة، وخاصة البريطاني، الذي لولاه لأكلت الحرب والخلافات الداخلية كل المدن والقرى المحيطة بالقدس، كما يتفاخر في اكثر من موقع في الكتاب. بيد ان هذا التحضر الذي يتفاخر به القنصل البريطاني يبدو استعلائياً وعنصرياً في مواضع كثيرة، إذ فضلا عن العنصرية الواضحة ضد العرب والمسلمين وحتى مسيحيي اهل البلاد "المتعصبيين الرافضين للتبشير المسيحي الاوروبي" (صفحات266 و580)، فإن فن يستخدم تعبيرات عنصرية ضد السود، مثل زنجي، حتى لو كانوا من رعايا الامبرطورية التي لا تغيب عنها الشمس. إضافة إلى ذلك فإن فن لا يستطيع التخلص من رجعية مترسخة إزاء المرأة ودورها، فيحرم النساء "اليهوديات البائسات" من العمل في الحقول التي تشرف قنصليته عليها لأن "عملهن لن يكون نافعاً ولا مرغوباً" (صفحة 588)، هذا في الوقت الذي كان قد اضطر فيه للإشارة إلى الفلاحات الفلسطينيات وعملهن الدؤوب في الحقول إلى جانب الرجال. ما تضمنته الاسطر السابقة هنا لا يمثل عملياً إلا إشارات سريعة لكتاب في غاية الاهمية ولعمل كبير فعلاً يستحق عليه المُترجم ودار النشر كل الإشادة والتقدير.



Email: [email protected]