الحريات العامة و-الحيز العام-، غربيا وعربيا (١ من ٢)


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5541 - 2017 / 6 / 4 - 11:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لألف سبب وسبب ظلت مسألة الحرية متربعة على رأس التطلعات الإنسانية منذ القدم ومشروعاً مفتوحاً على افق اشكال من الوعي المُتجدد. ولألف سبب وسبب آخر ظلت قوى التسلط والإخضاع تنظر للحرية بكونها اهم الأعداء الواجب ترويضهم، لأن ترويض واسكات الحرية معناه انطلاق تلك القوى من دون قيد او رقيب. كلما ابدعت الحرية في معركتها الأزلية ضد قوى التسلط وحررت مساحات جديدة من قبضتها، كلما نجحت هذه القوى في الكر ثانية على مواقع الحرية التي تحررت في محاولة دائمة لمعاودة السيطرة عليها. وكما هي الحريات ليست واحدة في تمثلاتها وتمظهراتها السلوكية الفردية، او الجمعية ذات الإهتمام بالشأن العام، فإن التسلطية ليست واحدة ايضا وتتفرع إلى تسلطيات عدة كل واحدة منها مهجوسة بقمع وإخضاع مجال محدد من الحريات.
الحريات الجمعية ذات الإهتمام بالشأن العام، اي الحريات السياسية وما اقترب منها، كانت على الدوام في مرمى هدف قوى الحكم التسلطية لأن إسكاتها يوفر الديمومة والبقاء للسلطة الحاكمة. ليس في هذا اي اكتشاف جديد بل مجرد توكيد لمسيرة البشر الإستبدادية منذ فجر التاريخ. بنظرة عامة وتاريخية مُجملة يمكن الزعم بأن الشطر الأعرض من التسيس الإنساني في ارجاء الارض جميعا، اتسم بنمط قسري وإكراهي وسم علاقات السلطوية السياسية بالأفراد، وبما لا يدع مجالا للمقارنة مع اي نمط آخر. الإنتعاش النسبي للحريات في حقبة ما بعد التنوير والحداثة السياسية والذي نراه في نموذج الليبرالية الغربية يكاد يكون الإستثناء الأبرز في مسيرة البشرية التسلطية والاستبدادية. حتى في هذا النموذج ثمة توتر لا يهدأ في جانب السلطوية السياسية إزاء كيفية إخضاع وتقليم تمدد الحريات العامة وتقليصها.
وهنا، اي في النموذج الغربي، يمكن رصد جانب من القصة المثيرة في الصراع المتأبد بين الإثنتين: السلطوية والحرية، كما يمكن رصد جوانب اخرى من نفس القصة في النماذج غير الغربية، ومنها الحالة العربية والاسلامية. غربياً، طورت الحداثة السياسية ما صار يُعرف ب "الحيز العام" public sphere وهو المساحات التي تم "تحريرها" من السلطات السياسية، او وطأة الدولة، وفي تلك المساحات إزدهرت الحريات العامة، والنقاش المفتوح، وانتعش الفكر النقدي. في "الحيز العام" تأسست قوى وآليات مدنية يُفترض انها بعيدة عن سيطرة الدولة، على رأسها الاحزاب السياسية المُتنافسة، وكذا ال "منظمات غير حكومية" وكذلك الإعلام غير الخاضع لسلطة الدولة، والجمعيات المهنية والنقابية، وما تبقى من مؤسسات دينية أعيد تشكيلها في ظل التحديث السياسي، واتحادات الطلاب، واشكال لا تُحصى من التعبير الفني والادبي. وبشكل من الأشكال نجحت كثير من المجتمعات الغربية في الحفاظ على هذا الحيز المُحرر نسبيا من سيطرة الدولة، والذي يوفر للأفراد اقدارا مُتسعة من الحرية العامة والحرية الفردية ايضا. وهكذا تطور نموذج جديد للدولة لم يكون موجودا من قبل، نموذج مُنسحب من التأثير والسيطرة المباشرة والفجة والتحكم التسلطي بحياة الافراد، وتحديد انماط حياتهم وتفكيرهم. ونشأت الدولة الليبرالية ذات السمة غير التدخلية وخفيفة التحكم بالمجتمع مقابل الدولة الشمولية التسلطية ذات السمة التدخلية وثقيلة الوطأة على المجتمع والافراد.
لكن المثير في قصة النموذج الليبرالي للحريات هو ان الحيز العام الذي تم تحريره من قبضة وسيطرة الدولة بشكل مباشر، وقع فريسة التنافس بين سلطويات اخرى، إما ان تكون مُعبرة عن قوى الدولة نفسها لكن بشكل غير مباشر، او ان تكون قد تطورت بحكم واقع النموذج الليبرالي نفسه، وتحديداً بسبب جوهره الرأسمالي. وهذا الاخير، اي رأس المال انتج قواه الخاصة به والتي انفلتت في كل اتجاه في "الحيز العام" تستثمر الوجود المُخفف للدولة، وتنتهك حريات "الإختيار" عبر جبروت قوتها المالية، ولتعيد تنميط المجتمع او شرائح منه والسيطرة عليها بشكل غير مباشر. مثلاً، مثل الإعلام الحر من ناحية نظرية احد اهم قوى "الحيز العام" لأنه احد اهم قوى الردع ضد تسلطية الدولة وسيطرتها وربما فسادها. وصار الإعلام "السلطة الرابعة" مُضيفا نفسه إلى التقسيم والفصل الثلاثي للسلطات الدولتية الاخرى، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. بيد ان هذا الإعلام الحر المُخول بمهة شبه مُقدسة وهي مراقبة تلك السلطات الثلاث وكشف إختلالاتها وإعتوارها للرأي العام، وقع جزء كبير منه ضحية لتغول رأس المال. ففي قلب الإعلام الحديث اختلطت رغبتان ومنذ لحظة التأسيس: رغبة اخبار واعلام المجتمع والرأي العام بما يحدث، ورغبة تعظيم الربح. والإشكالية المركبة لحظة الولادة فرضت هذا الزواج القسري بين الرغبتين ذلك انه للحفاظ على حرية الاعلام وعدم سقوطه فريسة في يد الدولة والسلطة السياسية، فإن عليه ان يتحرر مالياً وان يجد مصادر تمويله بعيداً عن اي مصدر له علاقة بالسلطة نفسها. لكن الهروب من سلطة الدولة بإتجاه رأس المال لم يكون حلاً مثالياً بطبيعة الحال، وإن وفر مساحات حرية لم تكون مسبوقة. وقع الإعلام في قبضة رأس المال، ومع الزمن وخاصة في القرن الماضي تطورت استثمارات اعلامية عملاقة تحولت إلى امبرطوريات تتمتع بقوى وسلطوية تفوق سلطة كثير من الدول. وفي هذه الامبرطوريات الاعلامية المخيفة استثمرت قوى مالية قريبة من السلطة في هذا البلد او ذاك، او قريبة من حزب سياسي او توجه ايديولوجي معين، بحيث عادت بقوة إلى الحيز العام الذي من المفترض انه قد تحرر من سلطة الدولة والسلطات الايديولوجية الرسمية او القريبة منها. وبسبب السيطرة شبه المطبقة لهذه الامبرطوريات الاعلامية على الحيز العام، كما هو الوضع مثلا في الولايات المُتحدة حيث تسيطر اربع او خمس شركات إعلامية عملاقة على السوق الامريكي كله، فإن صناعة الرأي العام وتشكيل المزاج السياسي والتأثير في الانتخابات والعملية الديموقراطية يصبح احد الميادين الاساسية لهذا الإعلام غير المحايد. وتمثل حالة انتخاب دونالد ترامب والتوظيف الهائل للآلة الإعلامية المحافظة المؤيدة له ولأفكاره نموذجا مثيرا للدراسة والتمحيص.
قاد تغول رأس المال في قلب "الحيز العام" وخاصة في المساحة الإعلامية إلى عودة اشكال مخيفة من السلطوية والاستبدادية والإحادية القسرية في تكوين الرأي. والخطر المُتأصل في الاعلام الجماهيري اياً كان شكل الوسيلة الاعلامية يتأتى من سهولة توظيفه عاطفيا وغرائزياً خاصة في ازمنة الازمات والتوترات والعنصريات. ولأن كل ما هو مُستفز وغرائزي ومشاعري ويختزل المُعقد من المسائل في ثنائيات اسود وابيض، معنا وضدنا، فإن "إعلام التابلويد" الرخيص والإستثماري في البلدان الغربية صار احد اهم آليات تشكيل الرأي العام، وهو ما نشهد له تأثيرا كبيراً في الديموقراطيات الغربية الراسخة. يحدث هذا برغم ان هذه الديموقراطيات كانت قد انتبهت منذ وقت مبكر إلى مآلات سقوط الإعلام في شرك رأس المال وتغوله في الحيز العام وبالتالي تآكل مهمة "الإخبار والإعلام" تحت وطأة إغراء وطمع الربح وتعظيمه. ما حدث ويحدث في الحالات العربية والغربية إزاء هذه القضايا اخذ مسارات مختلفة، لكنها لا تقل إثارة، وهي ما ستتأمل فيه المقاربة القادمة.
email: [email protected]