-الكاوتشوك الفلسطيني- ... وضوح الرؤية وسط الدخان


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5839 - 2018 / 4 / 8 - 11:33
المحور: القضية الفلسطينية     


الأسلاك الشائكة التي تفصل قطاع غزة عن الجيش والقناصة الإسرائيليين تكتب قصة مُدهشة هذه الايام، عنوانها "لم يمتُ الكبار ولم ينسَ الصغار". في غيوم الدخان الكثيف المنبعث من ارتال إطارات "الكاوتشوك" بدا وكأن الحدود التي صنعها المحتل في فلسطين انمحت واختفت. الفتيان الذين كان من المُفترض ان يكونوا قد نسوا، يزحفون على الارض التي احبوها غارسين أكواعهم واقدامهم في التراب المُتحالف معهم. يصلون إلى الاسلاك البشعة، وبأيديهم الصلبة يشدونها لأسفل. وراءهم كان هناك كبار سن، اجداد وجدات، يجرون بعضهم البعض، وكان من المُفترض ان يكون هؤلاء قد ماتوا من زمن طويل بحسب الرزنامة الاسرائيلية. الكبار كانوا يريدون القاء نظرة الحب السرمدية على اراضيهم وقراهم التي تنفسوها صغاراً وطردوا وهجروا منها كبارا، وبقيت هناك على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة. والشبان والشابات الجدد كانت عيونهم تشتاق لإحتضان نفس الارض التي انتقلت إلى وجدانهم مزنرة بقصص وحكايا آبائهم وامهاتهم واجدادهم وجداتهم، وصارت منسوجة في اعماق وعيهم. بعيداً عن الأسلاك وعلى الجانب الآخر كانت اسلحة الجيش المغرور قد اصيبت وشُلت في اعمق نقطة في داخله. ضباطه يراقبون كيف تحولت سواعد الشبان إلى محاريث تنهل الارض وتزيل الأسلاك وتُخرس المدافع.
في قلب جبال ذلك الدخان الأسود الكثيف كان ثمة وضوح ابيض كالثلج. وكان ثمة إعادة لروح الناس الطيبة، يقودهم السخط والثورة إلى إجتراح صور مبدعة في الرفض والمقاومة، وإعادة تسطير القصة. في قلب السواد ذاك كتبت غزة واهلها ومنتفضوها فصلاً مقاومياً مُذهلاً في وجه جبروت الآلة العسكرية لعدو باطش. لو كان ثمة مساحة اضافية لأساطير الفينيق والإغريق والرومان لسُطرت اسطورة جديدة وطازجة تخلد سواعد الغزيين وهي تخلع الأسلاك الشائكة وتطرد دبابات الجيش المغرور كأنها الذباب.
بيد ان المفارقة تكمن في ان جوهر إسطورة الأسلاك والدخان لا جديد فيها! جديدها المُبدع هو قديمها غير الممل، واصرارها الطازج على ان سردية فلسطين لا زالت تُعيد انتاج روحها الرافضة بنفس الحرارة والسخونة التي عاشها الكبار وتلقفها الصغار. قادة اسرائيل سواء الاوائل او الاواخر قالوا وراهنوا على ان الجيل الفلسطيني الذي شهد النكبة وتجرع مراراتها سوف يكبر في المنافي ومخيمات اللاجئين، سوف يظل متأرجحاً بين حدي الأمل المغدور والعجز الفظيع، ثم لا يلبث ان ينتهي ويموت. أما جيل اولادهم فسوف يكبر في دوامة الفقر واللجوء والعوز، ثم تجرفه الحياة بجبروتها واحتياجاتها، وهذه تسلمه بدورها إلى النسيان كي يبلعه ويمضغه ويلفظه كائناً لا طعم ولا ذاكرة له. وما بين موت الكبير ونسيان الصغير تبهت فكرة الصراع مع السارق وتصير عملية السطو التاريخي على ارض شعب وطرده وتشريده تفصيلا من تفاصيل العالم المزدحم بقضايا "اكبر". وهكذا فإن دولاب الحياة الطاحن ومساراتها وضغوطاتها وحسابات الربح والخسارة فيها، كما توق الناس إلى تحقيق احلامهم الصغيرة والكبيرة لن يبقي لهم الكثير من الوقت والاهتمام والصبر لمواصلة "النضال". كان هذا هو التحليل لما ستؤول إليه الأمور على قاعدة ان الوقت هو الحليف الدائم لعملية السطو تلك، تحليل مباشر ومادي يقود إلى تلك النتيجة الواحدة والمأمولة: "يموت الكبار وينسى الصغار". ولا تنسى تلك النتيجة تفصيلا مهماً على الهامش يقول ان مناصريهم، عربا ومسلمين وشرقيين وغربيين، هنا وهناك سوف يقتلهم الضجر من "القضية" وتجرفهم اهتماماتهم الضاغطة وبالتالي يرفعون ايديهم تدريجياً عنها وعن واصحابها.
لا يخلو هذا التحليل من منطق، ورفضه كله دفعة واحدة يخرج المرء من مسار التفكير العقلاني. لكن في ذات الوقت تظل مفردات التحليل التنبؤي والاستشرافي في السياسة وأمزجة الشعوب تحديداً مكشوفة لتلقي صدمات وصفعات. تأتي المفاجآت من وقوع ما لم يُتوقع، وعدم وقوع ما تُوقع. فلسطينيا، بدا وكأن الكبار لا يموتون فيما تأكد ان الصغار لا ينسون. من يوم النكبة بل وحتى ما قبلها امتنع الآباء عن الموت والصغار عن النسيان. تتالت مراحل الرفض ولم تتوقف بسبب فداحة اختلال ميزان القوى ومناصرة القوى الغربية لإسرائيل، وتتالت معها حقب العناد التي لم قوضت معادلة الرياضيات الإسرائيلية تلك. في فترات خادعة بدت تلك المعادلة وكأنها التقطت انفاساً وصارت تشتغل، وما ان عادت تطل برأسها حتى جاءت الانتفاضة الاولى في اواخر عام 1987 . تهشمت المعادلة تلك وتنبؤها بأن الفلسطينين حُشروا في زوايا مطاردة رغيف الخبر واولويات الحياة في مخيمات اللجوء والبؤس التي أُلقوا فيها، وان كبارهم يموتون وصغارهم ينسون. جاءت الصفعة من المكان الأكثر تعرضاً للبؤس والفقر، وايضاً للإختراق الاسرائيلي ونشر العملاء: غزة. ومن هناك انتشرت الإنتفاضة الشعبية وتجسدت وتمثلت الإسم الذي اطلق عليها "إنتفاضة" حيث انتفض الشعب ونزل إلى مواجهة المحتل المدجج بالسلاح. كانت ولا زالت عدالة القضية وفداحة الظلم الطويل هي وقود المُنتفضين، كما هو تاريخ البشر الذين يؤمنون بالكرامة والثورة على الظلم. تمددت الإنتفاضة إلى الضفة الغربية وانتقل جزء من روحها حتى إلى فلسطين الداخل وقلبت حسابات إسرائيل وأعادت وضع فلسطين على اجندة العالم.
كلما حاولت تلك المعادلة ان تُعيد انتاج ذاتها وتأمل ان جيلاً انقضى واجيالاً جديدة نشأت وكلاهما أُنهك إما بالموت او النسيان، تأتي صفعة جديدة لهذه المعادلة. وهذه الاسابيع، اسابيع "مسيرة العودة" الستة التي تعلنها مخيمات ومدن وناس قطاع غزة حتى منتصف الشهر القادم حيث ذكرى "النكبة"، تكتب تفاصيل الصفعة على امتداد كيلومترات الاسلاك الشائكة، او "السلك" كما يصفه الغزيون. خجل "السلك" يوم الجمعة الماضي من بشاعته، من رؤوسه المدببة وهي تنغرس في ايدي وسواعد الشبان الغاضبين، تمنى لو تحول إلى اغصان زيتون أليفة تحضن فلاحيين يشذبونها بالحب واغاني الميجنا. اما في السماء، فقد كان الدخان الاسود الكثيف قد تحول إلى غيوم بيضاء ينعكس عليها ضوء الشمس فتصير الامور اكثر وضوحاً. أما الذين يتحسرون على الفلسطينين ويريدون لهم ان يستسلموا لقدر الهزيمة حتى لا يموتوا، او ان يقبلوا ب "أي شيء" لان العالم كله غير مُنشغل بهم، او لأن "أمنا امريكا" منحازة تماماً لإسرائيل، او يتصايحون اليوم عبر الهواتف والاجتماعات والنداءات بهدف "إستعادة الهدوء" فإنهم لا يفهمون سوى معادلات الرياضيات المُضللة التي لا تنطبق على أمزجة الشعوب وروحها وانتفاضاتها. هؤلاء لا يرون في الدخان الاسود سوى سواده، صعب عليهم إدراك ما هو مُركب في الشعوب، ويألفون إلى ما هو يقوله القوي والسيد ويتمتعون بالرضوخ له. كيف لهؤلاء ان يفهموا ان جبال الدخان الاسود المتصاعدة في قلب السماء وفوق خط الاسلاك الشائكة في قطاع غزة تجعل الرؤية اكثر وضوحاً؟ سؤال البداية هو سؤال النهاية لفظاً لكن فيه الجواب معنى ومضموناً.