بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل الرابع2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5319 - 2016 / 10 / 20 - 17:37
المحور: الادب والفن     



أخيرًا عادت ليا بصحبة موشيه، وهي تواصل بهيئة مغتمة حديثها معه بخصوص مشروعهم "صيادلة بلا حدود".
- موت الولد، في ذلك اليوم، كان فظيعًا، لم تكن غلطتك، موشيه، قالت ليا.
- كان الولد ميتًا، لكني استدعيت طبيبًا، أقسم لك، قال موشيه. لا يوجد طبيب واحد في العالم كان يمكنه إنقاذه، ومع ذلك استدعيت طبيبًا.
- كان الولد ميتًا، كان ميتًا، رددت ليا، ولم تكن غلطتك.
- نوعًا ما، كانت...
- لم تكن غلطتك، أقول لك.
- كانت غلطة من، إذن؟
- شروط حياة هذا الولد، أعتقد. كان في حاجة إلى عمل البالغين هذا، وأنت استغللته، هذا كل ما هنالك.
- أرأيتِ، كانت غلطتي.
- لم تكن غلطتك. وليس هذا سببًا لتكف عن الاهتمام بكل شيء.
- لم أعد أريد أن أبني بلا تبصر، لم أعد أريد أن...
- لم تكن تبني بلا تبصر، كانت لديك رخصة من البلدية، لكن وقتك كان محدودًا، كان عليك أن تنتهي في أسرع وقت، فاستخدمت شبانًا، وشبانًا أقل، أولادًا. حاذقون أم لا، بثمن رخيص أم لا، هذا أمر آخر. إذن لا تترك، وخاصة واصل دعم "صيادلة بلا حدود".
- كل أدوية العالم لم يكن بإمكانها إنقاذه، هذا الولد المسكين.
- ولا الدم.
- الدم نعم. قال الطبيب إن الولد قبل أن يموت، كان نزيف قد حصل له. هذا يعني أنه لم يكن بعد ميتًا في اللحظة التي وقع فيها الحادث، لكنه مات عُقْبَ جِرَاحه. نَقْل دم سريع كان يمكنه أن يسد مسد الدم الضائع، وإنقاذ حياة هذا الولد البائس، فأتتني فكرة بنك دم متنقل ومجاني للجميع، وهذا أكثر قبولاً بكثير للاستمرار كمشروع، أقسم لك، ليا. "دماء بلا حدود" أكثر نفعًا من شغلتك تاع الأدوية ومش عارف إيش. زد على ذلك، "أطباء بلا حدود"، لديهم منها ما يغطي الكرة الأرضية. إن الدم ما ينقصهم.
- وأين ستذهب في طلبه، هذا الدم؟ عندنا، قطرة الدم جد غالية.
- في الأراضي.
- تريد أن تشتري الدم من العرب!
- لن أشتريه. هذا لإنقاذ عرب آخرين جرحى كهذا الصبي الصغير الذي مات للا شيء وكل الجرحى الآخرين في العالم أجمع. إذن سيفهمون، وسيعطون دمهم مجانًا.
- لن يقبلوا.
- إذن قولي لأخيك إن في سجوننا كثيرًا من الدم المراق، وربما ساعدني.
- ربما ساعدك ماذا؟ سألت ليا بعصبية.
- في جمع كل هذا الدم المراق، لأجل غايات إنسانية.
- قذر! صاحت ليا. اخرج من هنا، ولا تُرِني أبدًا وجهك البشع!
- لكن ليا...
- اخرج من هنا حالاً، تاجر الدم!
- إنه مجاني، أقسم لك، ليا.
- اخرج من هنا، مصاص الدماء!
طردته، وهي تصفق الباب من ورائه. خرج جوردان نصف عار، وسأل أخته إذا ما كان كل شيء على ما يرام.
- كان موشيه، لم يعد يريد أن يسمع ب "صيادلة بلا حدود". الآن، يفضل تقديم دم الأسرى العرب للعالم أجمع، أوضحت ليا.
- تقديم؟ تعنين بيع! حبه للنقود ما يجعله مجنونًا إلى هذه الدرجة؟ مستشفى المجانين خير مكان لأناس مثله.
أطلت نورة برأسها من وراء الباب وهي تخفي عريها، ورمت مع بسمة متهكمة:
- لكن في هذا البلد، لم يعد هناك أقل مكان في مستشفى المجانين، يا حبيبي!
- في بيت لحم، في الأراضي...
- ...المحتلة...
- ...هناك أمكنة.
- تعتقد أن مجانيننا سيقبلون بعلاج أمخاخهم في بيت لحم، في "الأراضي المحتلة"؟
- سيضطرون إلى القبول.
- جنب مجانين عرب آخرين؟
- على أي حال، لا يوجد مجانين عرب.
- حتى وحدهم في مستشفى مجانين في الأراضي المحتلة، سيرفض مجانيننا، إلا إذا...
- سنضطرهم، قلت لك.
- ...إلا إذا ضممتم بيت لحم.
- هذه فكرة ستعجب الجنرالات، لكن...
- إذن جنون المجانين يا ألف هلا، سيحقق موشيه كالآخرين مشاريعهم الأكثر عتهًا.
- ...اقتراح سَيُستقبل بحماس من طرف الجنرالات، لكن بيت لحم ليست القدس الشرقية، والجنون المركنتيلي لمواطنينا مقابل الجنون الديني لا يبرر ضمها في عيون الرأي العام الدولي.
فتحت ليا غرفة ساندرا، ووقعت عليها عارية في أحضان شالوم عارٍ هو كذلك. ولولت من المفاجأة، وركضت إلى غرفتها، وهي تغلق بابها بالمفتاح، لتذرف دموعها الحرى. جاءت ساندرا في قميص نومها لتتكلم معها من وراء الباب، قالت لها إنه اختيار شالوم، الذي يحبها، هي، وإن عليها أن تعتبر هذا لعبًا شريفًا.
عاد شالوم إلى ارتداء ثيابه، وهو يسمع بأسى أنات حب ليا. وليهرب من آهاتها، غادر البيت وحده، بقلب موجع، رغمًا عن ساندرا التي ترجوه البقاء. ناداه البحر، الأمواج، والقمر الفضي، واستقبله ليل شتاء ليس ككل الليالي. وهذا الأسى الذي يحفر قلبه. لم يختر ساندرا، ساندرا اختارته. في الواقع، ليا من يحب، لكن فات الأوان الآن، بعد أن قام بالحب مع أختها الصغرى. الأخلاق تفرض هذا. وشرف الجندي الشجاع. تذكر جسدها الجميل، أديمها الناعم، صدرها المعطر. تذكر قبلاتها، ضماتها. عليه أن يحبها الآن، هي، وليس ليا. قدمت نفسها له. لم يتابع البحرُ فكرَهُ المضطرب، كان يتموج بهدوء. تذكر عاهرة الملك سليمان، وازداد فكره غليانًا وهيجانًا. من هو؟ وإذا ما كان فدائيًا؟ من العبث أن يكون شيئًا آخر غير ما هو عليه. هل ستبكي ليا لو علمت أنه فلسطيني؟ لكنه ليس فلسطيني، مستحيل، مع كل ما له، كولونيل تساهل. وساندرا؟ يعرف رد فعلها مسبقًا. ستبصقه. ساندرا ستبصقه. لا تحبه إلا لأنه هذا المصاب بالنسيان الجميل، هذا الرتيب العسكري العالي، ولأنه يفعل الحب جيدًا. أخذ سيارة ساندرا، وذهب يبحث عن شذى. في الليل، كانت شوارع يافا الأجمل في العالم. لم يعرف غير هذه الشوارع الساحرة، إلا أنه في رأسه، قارنها مع كل الشوارع التي افترض أنها موجودة. شوارع يافا الأجمل. على مقاعد شارع شني نوفمبر، كان العشاق يقبلون بعضهم، وكانت الأشجار تقف هادئة، ولم تكن أضواء المصابيح لتجرؤ على اختراق أشجار النخيل التي تلقي بظلالها في كل مكان. وهذه الموسيقى المفاجئة التي تأتي من بعيد، "الرقصة الألمانية" لموزارت، وهذه القهقهة، وهذا الصياح في الليل، وكل شيء بدا ملقى في هامش الكون.
لم تكن شذى في موقعها على رصيف الملك سليمان، باقي العاهرات كن هناك، إلى جانب بائعي المخدرات والقراء الملتهبين للتوراة. هي مع زبون، قال شالوم لنفسه. حلق بنظره فوق طاولات الرصيف، فوقعت عيناه على صديقة ليا، زان، وهي تقبل رجلاً عجوزًا أنيقًا، وتضحك كالمخدرة.
- كوكو، شالوم، هنا، قالت ما أن رأته.
- مساء الخير، زان، قال شالوم مشغول البال.
- إن كنت تبحث عن ليا، ذهبت ترى موشيه، قالت. هل تعرف أن موشيه، مستر عمارة، بعد حادث ال... (امحت ابتسامتها) الولد العربي، لم يعد يريد السماع ب... (عادت ابتسامتها تنير)، أنت تعلم، "صيادلة بلا حدود". هذا أفضل، لأن في رأيي، هناك ما هو مريب وراء كل هذا.
- لا، ليست ليا التي أبحث عنها.
- إذن أنا؟
جهرت بضحكة مستفزة، فنظر الزبائن إليها متبسمين: منها؟ منه؟ خجل شالوم خجلاً شديدًا. اعتذر، ودخل القاعة. لم تكن شذى هناك. إذن هي مع زبون على التأكيد، عاد شالوم يقول لنفسه، وهو يغادر المقهى. بعد لحظة من التردد، بعد أن فحص حواليه، ناداه صوت نسائي. كانت شذى. أحاط بها سيمون، صديق ساندرا، وثلاثة طلاب آخرين. أبهجتهم القبل، من خدها، من ثغرها، واللمسات، من فخذها، من كفلها. كانوا يضحكون فيما بينهم، دون حقد ولا تنافس. طلبها ملتحون شبان، أرادوا مضاجعتها. وليعتصموا بالصبر، راحوا يتلون الآيات.
اقترب سيمون من شالوم.
- ساندرا خطيبتك، آه والا لأ؟ سأله.
لم يعد يبدو أي أثر لخجله المعتاد.
- ساندرا خطيبتي، أجاب شالوم بجفاف. هل أنت سعيد لسماعه؟
- إذن هي خطيبتك! كيف فعلت؟ ما هي وصفتك؟
- فقدت الذاكرة.
- فقدت ماذا؟ تعجب سيمون. قلت إنك فقدت الذاكرة؟
- أحمق من مولدك! تدخل أسمر شكله تونسي. هذا مجاز. الحب ما يجعلنا نفقد الذاكرة، الحب الكبير.
- هل هذا صحيح؟ سأل أبيض بياض البيلوروسي. أنتما تتحابان بجنون؟ كلنا، بالقدر الذي نحن عليه، حاولنا كل شيء معها، حتى أننا تقاتلنا من أجلها، ولم ننجح. آه! سيمون، قل له.
- صحيح ما يقول، بروليتاري مَنْسْك.
- لست بروليتاري من مَنْسْك! زعق الآخر، ساخطًا.
- بروليتاري قفا ساندرا إذن، ألقى سيمون، مستفزًا.
- هيه، هيه، تدخلت شذى، تنسون أنني لم أزل هنا. اهدأوا!
- نعم، همهم البيلوروسي، فلنهدأ، فلنهدأ.
- تعالوا، فلنترك شذى تعمل، ألقى أحمر أمريكي شكله أيرلندي، وهو يرمق شالوم. هناك زبون ينتظرها.
- لا تقل لي إنَّ...، تلعثم سيمون وهو يشير إلى شالوم بسبابته وإلى شذى بإبهامه.
- بلى، أكد الأحمر.
- هل ترون ما أرى، يا أصحاب؟ تلعثم سيمون من جديد.
لكن الأصحاب جذبوه من ذراعه بينما هو يصيح في ظهر شالوم:
- والحب الكبير؟
اقتربت شذى من شالوم دون أن تبالي بتوسلات الشبان الملتحين، مشيا جنبًا إلى جنب، واخترقا شارع الأشلة، نحو الميناء، في حي شبوغ، ثم ذهبا إلى مقعد تحت شجرة نخيل.
- يعرفون من أنا، قالت شذى، لهذا يأتون للنوم معي كلما ساءت العلاقات فيما بينهم. يأتون ليطلقوا مكبوتاتهم، كما يقولون، وليشعروا بكونهم قريبين من بعضهم البعض ومتحدين. عندما يكونون فيّ، يصرخون، يولولون، يلقون بالشتائم "أنيك فلسطين وكل بناتها، أنيك كل الفدائيين، أنيك، أنيك، أنيك". ثم ينفجرون ضاحكين، ويتكلمون فيما بينهم عن المتعة التي يمدهم إياها جسدي. كل العاهرات الأخريات غيورات مني لأن لي وحدي نصف الزبائن. شكوا أمرهم إلى الجيش، إلى الشرطة، رغم ذلك، الألبسة العسكرية الكاكي منها والزرقاء أحسن زبائني. يوجعون أنفسهم كثيرًا، المساكين، بمواجهة أهلنا هناك.
- لست منكم، صدقيني، همهم شالوم.
- ولماذا أتيت لرؤيتي؟
- لأن قلبي موجع وأريد التحدث قليلاً.
- أنت كالآخرين، تريد أن تطلق مكبوتاتك عليّ، وجعك، خوفك، أو ربما حزنك.
- لا، أقسم لك لا. أردت فقط...
- لا تكن خجولاً، ألقت شذى وهي تضمه بين ذراعيها. المكان لا أحد فيه، يمكننا أن نفعله هنا، لو شئت. أفتح بين فخذيّ، وتبصق عذابك فيّ. لا تقلق من أجلي، أنا معتادة، أعمله من أجلكم منذ أكثر من أربعة آلاف عام.
- أعتذر لأني أسأت إليك، شذى، همهم شالوم وهو يشعر بالعار ينتشر في كل كيانه.
- ولكن تعال، تعال انزرع بين فخذيّ، هل نسيتني بسرعة، وأنا، منذ أكثر من أربعة آلاف عام، أخلصكم من خوفكم، من تمزقكم، وأمدكم بالمتعة والمجد. أنا كل ذاكرتكم.
تخلص شالوم منها بكل هدوء، ونظر إليها، وهي تبكي.
- أنا شخص بدون ذاكرة، قال لها وهو يمسح دموعها بأطراف أصابعه. الحقيقة، فقدت ذاكرتي.
- ولماذا لا تبدو على وجهك السعادة؟
- لأنني منذ أن بدأت أخزن في رأسي قليل الأحداث التي وقعت مؤخرًا في حياتي، أنا أتعس الناس.
- تحيا منذ قليل وأنت أتعس الرجال!
- إنه قدر كل واحد يعيش في هذا البلد، على ما يبدو، وعلى التحديد أكثر، كل مهاجر إلى إسرائيل.
- لكنك لست "يهودي"! صاحت شذى قبل أن تخفض صوتها ناظرة بخوف حولها. أنت لست يهودي! بدأت أنزعج في قفاي من عنادك وغبائك.
- لستُ يهودي تحت معنى أن كل واحد منا ليس بالضرورة عبراني، رد شالوم. صحيح فقدت الذاكرة لكن ليس الرأس، فلا أتوقف عن التفكير في حالي، في النظر حولي، في مساءلة كل هذه الوجوه المختلفة التي يجمعها الدين كجامع واحد مشترك. اليهود الأصليون، العبرانيون، اليهود الأنقياء، اندثروا منذ أكثر من أربعة آلاف عام، كما تقولين، ربما أقل أو أكثر، هم على أي حال لم يعودوا موجودين، ككل شعوب العهود القديمة، لكن الشريعة الموسوية انتشرت بين الشعوب. لهذا تقول لك وجوهنا إننا أولاً مغاربة، أو فرنسيون، أو روس، أو أفريقيون، أو بولونيون، أو عراقيون، أو فلسطينيون. نعم، هناك فلسطينيون بيننا، فلسطينيون يهود يأتون ليطلقوا مكبوتاتهم بين فخذيك، كما تقولين، شذى، ولديهم انطباع أنهم يضاجعون فلسطين، ومع ذلك هم ف-ل-س-ط-ي-ن-ي-و-ن مثلك دون أن يعرفوا أو دون أن يريدوا أن يعرفوا.
- دون أن يستطيعوا أن يعرفوا. هل تعرف لماذا؟ لأنهم كلهم متلاعب بهم من طرف الذين يملكون، أصحاب الامتيازات الحقيقيون. إنه قدر سكان هذا البلد الذين لا يريدون فقدان الذاكرة، أو الذين يتظاهرون بفقدانها ليعيشوا بهدوء، رغم أوجاعهم، ويأتون بحثًا عن قحبة في ساعة متأخرة من الليل، فقط للدردشة.
- أقسم لك أني لا أتظاهر، فقدتها حقًا، هذه الذاكرة اللعينة، وإلى الأبد كما يبدو، لأني لا أصل إلى وضع نفسي في الماضي. يقولون لي إنني كولونيل في الجيش، وإنني من أصل مغربي، وفقط. صدقيني أو اذهبي إلى الشيطان، يا قحبة الخراء!
نهض ليذهب عندما أمسكته شذى من يده.
- أذكر، منذ زمن بعيد، في مخيم عين بيت الماء، الليلة التي ذبحوا فيها كلبكم. كان عمري أحد عشر عامًا أو اثنا عشر، وكنت قد بكيت بقدر ما بكيتم كلكم. كنتَ تحب كثيرًا ذلك الكلب، وأنا كنتُ أحبك. كنتَ حبي الأول. لم تكن تعرف، لكن أختك، ياسمين، كانت تعرف. كانت أصغر مني كثيرًا، وكانت تفهم كل شيء. كنا قد قررنا، أنا وهي، أن نُبقي على كل شيء سرًا حتى أُصبح امرأة وأتزوج بك. كنا بريئتين وغبيتين في الوقت نفسه، بنتين لا تفهمان من الحب شيئًا. حرب الأيام الستة، ثم الاحتلال، كانا قد أنهيا ذلك الحب الأحمق، فخسرتُ حبي لك، وبالمقابل فزتُ بحب شعب بأكمله!
وانفجرت نائحة.
- لا، شذى، أنت غلطانة، لستُ الرجل الذي تعتقدينه، قال شالوم وهو يضمها بحنان بين ذراعيه، لستُ من أحببتِه.

يتبع القسم الثاني الفصل الخامس