بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل الأول2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5315 - 2016 / 10 / 16 - 16:16
المحور: الادب والفن     

القسم الثاني الفصل الثاني2

في المساء، وجد شالوم نفسه يجلس إلى الطعام في البيت إلى جانب جوردان، وإلى جانب أختيه الجميلتين السمراوين بشعرهما الأسود وعينيهما الخضراوين، ليا وساندرا. أكلوا شريحة عجل نورماندي، الطبق المفضل لساندرا، والأختان تنظران إلى شالوم، وتبتسمان، وشالوم ينظر بدوره إليهما، ويبتسم كذلك. كان تدريب شالوم مسليًا، وإن كان متعبًا في مداه، وهو أقرب إلى التمهير كطريقة نفسية تتيح إقامة علائق بين عدد من المنبهات والاستجابات في الكائنات الحية يتأتى عنها اكتسابها مهارات خاصة للتكيف مع بيئتها. لشريحة العجل النورماندي مثلاً، كان من اللازم أن يشرحوا له أن الشريحة شريحة عجل لا ثور، وكان من اللازم أن يقولوا له ما هو الثور، وما هو العجل، وللنعت "نورماندي"، كان من اللازم أن يروه خارطة فرنسا، ثم أن يشيروا إلى منطقة نورمانديا. يا لها من ورشة، إعادة بناء الذاكرة! لكن العائلة الصغيرة "ليفي"، لم تكن تستسلم بسهولة. منذ وصولها إلى إسرائيل، كانت تستبسل رغم كل العقبات لتنجح في كل ما تعمل، وتُبدي أنها قادرة على كل شيء. في الجيش، في الشغل، في الجامعة. كان جوردان لا يتردد عن القيام بأي شيء ليُظهر أنه قوي، أنه لا يقهر. ليا كذلك، لكن على طريقتها. بتحسين الأدوية أو باكتشاف جديدها. ساندرا، دائمًا أحسن فوجها. وبالعكس، جذب شالوم كل ما هو عادي عندهم. وجد في جوردان، بلا لباسه العسكري، شخصًا يُشفق عليه. رأى نفسه عَبْرَه، وحاول أن يتذكر ماضيه. بدت ليا وساندرا له شيئين صغيرين من السهل كسرهما، كالزجاج، وغالبًا ما خاف من خدشهما بنظرته.
كان من اللازم أن يبدأوا بتعليمه من هو، من هم أهله، ما هو دينه. قال جوردان له إنه وحيد أبويه، إن أبويه من أصل مغربي، وإنه يهودي. كان عليه أن يشرح من هو اليهودي، ولماذا في إسرائيل هناك يهود من كل البلدان. قالت ليا موضوعيًا إن العبرانيين، بني إسرائيل الحقيقيين، قد اندثروا في مكان ما من جزيرة العرب، غير أنهم تركوا دينهم من ورائهم –ذاكرتهم، نوعًا ما- فداوم على التعايش مع دين المجتمع الذي يعيش فيه يهود اليوم. من هنا يأتي السلوك المزدوج، سلوكهم. اعترضت ساندرا على تحليل أختها. بالنسبة لها، يهود اليوم هم الخلف المباشر للعبرانيين القدامى. تكلمت عن ازدواج الشخصية، ازدواج سببه القلق مرضًا يدمغ عصرنا، مشئوم للبعض حقًا، لكنه مُوْاتٍ للبعض الآخر. كان على ليا أن تشرح أن إسرائيل تحمل اسم فلسطين، وعلى عكس ما يقال "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، أن الفلسطينيين هنا دائمًا وعلى الدوام، قبل الهجرات التوراتية الأولى، الفلستينبون كانوا هم. دحضت ساندرا كلامها بكلمة واحدة، "غلط"، فألحت ليا على واقع أن العرب هنا منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، قرون وقرون قبل الخروج من مصر. دحضت ساندرا كلامها مرة أخرى بكلمة "غلط"، مضيفة أن اليهود كانوا هنا قبلهم، وأن أرض إسرائيل، لهذا السبب، إرثٌ يأتيهم من السماء. قالت ليا إن هذا لا يبرر آلام شعب بأكمله، قبل أم بعد، ليس مهمًا، ما يهم حل المشاكل الحالية. فلسطينيو اليوم طُردوا إلى بلدان أخرى، مؤرخوهم يعترفون بذلك في الوقت الحاضر، لأن الصهيونية كانت تقضي بألا يوجد غير يهود فيما بينهم في هذا البلد. "مع ذلك الله كبير وفلسطين أكبر، تكفي اتساعًا لإقامة دولتين لشعبين"، علقت ليا، قبل أن تشرح لفاقد الذاكرة، أن الصهيونية تحدد هكذا أصالة شعبهم: أن يكونوا معًا، ألا يعتمدوا على أحد، أن يمكنهم الدفاع عن أنفسهم ضد العالم أجمع، وعدم ترك أنفسهم أبدًا يذبحون كما كان مع الألمان. لم تكن على اتفاق مع ذلك الطرح، كانت ترى أن هذا أشبه بالعبودية الحديثة، جيتو موسع، غير أن ساندرا أخذت تحكي عن تراجيدياهم بكلمات مؤثرة، فأخذ عبد السلام السابق يبكي. أخيرًا قالت إنهم أقوياء اليوم، أقوياء جدًا، وإن لا أحد يجرؤ على لمسهم. بفضل هذه القوة استطاعوا الدخول بسهولة في الحداثة والاستقرار، رغم بيئة معادية ومتخلفة.
ثم جاء وقت الحديث عن مهنة شالوم. قال جوردان إنه كولونيل في الجيش مكلف بالقناصل العسكريين في كل البلدان، وإنه ليس متزوجًا. شرحت ليا ما الرجل المتزوج قائلة "وفي الفراش..." قبل أن تقهقه. ضحك شالوم، وهو يتأمل المخلوقتين الجميلتين. علقت ساندرا أن لا حق له في الزواج بأكثر من امرأة، وخاصة ألا يأخذ الأختين في نفس السرير. وراحت تقهقه.
- أنتما الاثنتان، أحبكما، يا ابنتي عمي! قال شالوم كطفل كبير.
ضحكت ابنتا العم بأعلى صوتهما، وهما تريان نفسيهما معًا في فراش العرس.
- انتبه! حذر جوردان فاقد الذاكرة، مثلما قالت ساندرا لا حق لك في الزواج إلا من ابنة عم واحدة.
- أحب ساندرا، أحب ليا، أحب كلتيهما، أعاد شالوم ببراءة.
- اتركهما يحبانك، هما، عاد جوردان إلى القول، والأولى التي تقع في غرامك، تزوج بها.
تخيلت ليا وساندرا نفسيهما من جديد معًا في سرير شالوم، وواصلتا الضحك.
- ماذا تقلن، يا بنات، إنه ولد جميل، شالوم، أليس كذلك؟ عمل جوردان.
- نعم، لكنه فاقد الذاكرة، ألقت ليا.
- أنا، أفضله بلا ذاكرة، رمت ساندرا. سأكون ذاكرته الوحيدة.
- أنا، بذاكرة. سأكون جزءًا لا يتجزأ من هذه الذاكرة.
- انتظرن الآن قليلاً، تدخل جوردان، وقررن فيما بعد.
- إذا استعاد الذاكرة، فلن يلائم هذا سوى ليا، قالت ساندرا.
- بانتظار ذلك، اجتاحي قلبه، يا ساندراي الصغيرة، كله لك.
- سيكون الوقت متأخرًا جدًا لي، قالت ليا.
- على أي حال، فاقد ذاكرة أم لا، سيختار شالوم المرأة التي سيتزوج منها.
وافقت ليا على ما قاله أخوها بهزة من رأسها، وقررت غزو قلب الكولونيل الضائع قبل أختها الصغرى. ستعينه على استعادة ذاكرته، وشالوم يكتفي بالابتسام بسذاجة. كان يشبه أحد التماثيل الصغيرة الموضوعة هناك، تماثيل حيوانات لن يشك أحد في خواصها الغيبية. طبطب جوردان على كتفه، ودعاه إلى أخذ التحلية أمام التلفزيون، بالنظر إلى الأخبار. بدأ المذيع بأحداث لبنان، وجوردان يراقب ردود فعل شالوم. لم يبد أقل رد فعل. أحضر جوردان خريطة المنطقة، ووضع إصبعه فوق البحر، إسرائيل، لبنان في شمال إسرائيل، وباتجاه التلفزيون، أشار بإصبعه إلى أحياء بيروت المدمرة تمامًا، وقال هذا ما يريد الفلسطينيون فعله في إسرائيل.
- ولتحاشي كارثة كهذه، واصل جوردان، نحن نساعد المارونيين ليدافعوا عن أنفسهم، ليطردوا الفلسطينيين، وليقيموا دولة مسيحية في لبنان.
- ليطردوا الفلسطينيين؟ تاني! لاحظ شالوم.
- نعم، تاني.
- يوجد حتمًا مكان فارغ من السكان يمكنه أن يستقبلهم.
- لا يوجد أي مكان.
بسط شالوم الخريطة جيدًا قبل أن يقول:
- جزيرة في البحر، ربما.
- لا توجد أية جزيرة.
- فليصبحوا يهودًا، ونحل المشكلة.
- لا يمكنهم ذلك.
- لماذا؟
- لأنهم عرب.
- عرب يهود، ألا يوجد؟
- لا. بلى. بل لا. هناك يهود عرب كأبويك المغربيين، لكن ليس هناك عرب يهود.
- ما الفرق؟
- هنا يكمن كل تاريخ تاريخنا!
أحضرت ليا وساندرا صحنًا كبيرًا من فُرْنية بالعسل.
- اسأل ساندرا وليا وكل نساء هذا البلد يقلن لك حتى لبن وعسل هذه الأرض هما يهوديان أولاً.
- عم تتكلمان؟ سألت ليا.
- يريد شالوم حل خلافنا مع الفلسطينيين بالعمل منهم يهودًا مثلنا.
- أنا متفقة معه، قالت بلا تردد.
- ليس أنا، قالت ساندرا. رغم واقع أننا أبناء عم منذ بدء الخليقة، هم هم، ونحن نحن، وَحَسَنٌ هكذا.
- إذن لن تتوقف الحرب أبدًا، عادت ليا إلى القول.
- هذا أفضل! نحن أقوياء ولن نخضع، قالت ساندرا.
عرض التلفزيون صورًا مروعة: المقاتلون مقطعون إربًا، الأطفال منكل بهم، النساء يصرخن من الرعب.
- هذا ما تريدينه لنا؟
- بالطبع لا. نحن أقوياء، قلت لك، ولن يحصل لنا شيء من هذا. أبدًا.
- لا أريد أن يحصل شيء من هذا لأي كائن كان، لا لنا، ولا لهم.
- أنا متفق مع ليا، قال شالوم.
- أنا متفق مع ساندرا، قال جوردان.
- أقول لك، نحن أقوياء لأن العرب ضعفاء، مُفَرَّقون، يحنون هاماتهم على فروجهم، احتدت ليا. وهم...
- سيبقون على ما هم عليه، قاطعها أخوها.
- لكن في يوم قادم، سيكونون أقوياء مثلنا، و...
- لن يكونوا أقوياء مثلنا أبدًا. نحن نعمل كل شيء ليبقوا ضعفاء كما كانوا دائمًا، اليوم عسكريًا، وغدًا اقتصاديًا. سينتهي بالدول العربية الأمر إلى الاعتراف بوجودنا واحدة واحدة، كالكلاب، دون أن يُحل المشكل الفلسطيني أبدًا. وعندما نجد أنفسنا في مأزق، سنلعب لعبة "الديمقراطية"، يعني سننظم مهزلة اسمها الانتخابات لتشكيل حكومة جديدة، تأخذ على عاتقها الحل السلمي من الصفر، وهكذا إلى ما لا نهاية. الحق يقال، نحن العسكريين، رغم كل القوة التي لنا، نحن خائفون من السلام مع الفلسطينيين. ما نفع هذا إذا ما اعترف العرب بنا...
- هذا مستحيل.
- ...وسهرنا على أن يبقوا ضعفاء، ممزقين، متخلفين، معقدين جنسيًا، مخضعين اقتصاديًا، مسحوقين في وجودهم نفسه. لا، يا أختي الكبرى المعبودة، لن يصبح العرب أبدًا أقوياء بالقدر الذي نحن عليه.
- تخيل قليلاً أنهم أصبح...
- أنا لا أتخيل، لا حق لي في ذلك. هم ضعفاء، وسيبقون ضعفاء.
- في رأيي، أنت مخطئ، جوردان، أنتم مخطئون، أنتم الآخرون، أن تفكروا هكذا في الجيش. هناك وسائل أخرى غير القوة للتفاهم مع جيراننا. مثلاً...
- لا، لا، لا، لا، لا، لا، ولا، التحلية أولاً، وَبَدَّل القناة.
وضعت الأختان الفُرْنية في أطباق مذهبة، واصطدمتا، وهما تقدمان معًا التحلية لشالوم، فانطلقتا ضاحكتين.

يتبع القسم الثاني الفصل الثاني