بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5257 - 2016 / 8 / 17 - 14:16
المحور: الادب والفن     

كانت شهور طويلة قد مضت منذ مقتل أبي ثائر، فصول، الشتاء والربيع والصيف، ولم تكن الحرب تعرف الفصول، لم تكن الفصول تعرف الرجال في الحرب، وكان عبد السلام في حرب دون أن يكون. كان يختبئ في مركز قيادته، وكان يخفي وجهه خلف نظارة. لم يعد يريد أن نراه. غدا وجهه دميمًا، وأخذ يكرهه. أسوأ من ذلك، أخذ يكره نفسه. كل الكره. ومرة واحدة. انقض كرهه عليه فجأة، كالموت عند فوهة الدوشكا، كالبرق عند فوهة البازوكا.
تذكر برناديت التي كانت تحبه، دون أن تعرفه. هو، كان يعرفها، دون أن يحبها. لم يكن يكرهها، لم يكن يستطيع أن يحبها، كل ما في الأمر. كان يحب الذين يكرهونه، فكيف يقيم علاقات طيبة بالذين كانوا يكرهونه؟ بحب كرههم. كان الكره الذي يعتمل في صدورهم وحده ما يسمح بالتقارب معهم. لهذا كانت علاقاته ببرناديت محكومًا عليها بالفشل، وكذلك بفريدة ونادين. لأنهن كن يحببنه، وبسبب ذلك، لم يكن يحظين باهتمامه. مع الذين كانوا يمقتونه، كان يمكنه على الأقل أن يعمل على استغلالهم أقصى ما يقدر عليه بكل حرية، بكافة الطرق، لغرض لا يعرفه أحد غيره.
في البداية، عندما كانت مراميه "بسيطة"، "وطنية"، "أصيلة"، قليلاً ما كان الناس يكرهونه. ثم، وقع في ورطة مقتهم الشديد. عند ذاك، ارتكب ما لم يرتكب من أفعال أفظعها تدمير بيروت. ماذا كانت برناديت ستقول لو عرفته على حقيقته؟ ماذا سيكون موقفها منه؟ موقف يختلف عن موقف العمة مريم؟ أي جرس من أجراس الحقيقة ستقرع؟ لم يكن أحدًا آخر غير دجال. لهذا السبب لم يكن يستطيع رؤية وجهه، لهذا السبب كان يكره نفسه.
شرب كأسه جرعة واحدة و، ذهب مرتعدًا، ليرى نفسه في المرآة. رأى وجهه، ثم بصق عليه، فجأر نهر دم الشهداء، ولم يعد يقدر على غسل البصاق عن وجهه. ظهر وجه أمه، وابتسم له بمحبة. كان وجهه مغطى بالبصاق، وكانت أمه لا تكف عن الابتسام له. أخذت العِمارات في رأسه تنهار واحدة بعد أخرى تحت نيران مدافع رجاله، نحن الفدائيون، المقاتلون من كل المِلل. بينما كان أبو أرز يكدس أكياس الدولارات على بابه، دولارات لن تلبث أن تحترق. مسح البصاق عن وجهه، وذرف الدموع بغزارة، كامرأة منكل بها. دخل أحد الفدائيين، وفاجأه برؤيته، وهو يبكي. لم يطرده، لم يخجل منه.
- قائدك يبكي، قال له ضاحكًا.
دمدم رفيقنا شيئًا غير مفهوم قبل أن يغادر، ولم يلح. لمس عبد السلام وجه أمه في المرآة، فتحول وجهها إلى آخر من الذهب الخالص. تمارت أشعة شمس بيروت على شفتيها، فقال لها: "لأجلك، سأجعل من مخيم عين بيت الماء وأهله مدينة وتماثيل ذهبية." بعد مدة قصيرة، أغاظته أمه، وهي تُرَفِّلُ إزارها الذهبيّ، فحطم المرآة، وتحطم، وهو يجرع من جديد كؤوس الهوان. "آه! يا أًحْبِة."
- آه! يا أَحْبِة، عاد يصرخ.
لم نكن قادرين على جمع الأشلاء والأمعاء، داخل أكبر الملاجئ، هناك حيث سقطت إحدى القذائف الثقيلة. كان اللحم يذوب، كان يمتزج بالدم، وكانت الأعضاء تنط على الأرض، كانت تلعبط بين الأيدي التي تحملها. في ذلك المزيج المعقد، لم نكن نسمع سوى صرخات الباقين على قيد الحياة. انهارت أم فريد:
- قتلوا لي فريد، ولولت.
ضمتها فريده بين ذراعيها، وولولت بدورها:
- لم يقتلوا فريد، يا أمي! فريد في الجنوب. لكنهم قتلوا محمد، وفصلوا رأس أم سعيد!
وناحت كلتاهما كبنتين صغيرتين.
نهض أحد الشيوخ متوكئًا على عصا، أراد أن يجمع بعض الأعضاء المدماة. أخفى ضوء عينيه، ونظر إليه من بين أصابعه، وهو يرتعد. أخذ الشيخ يقطف بأصابعه الأعضاء الملوثة بالدم، وكأنه يقطف التفاح، وضوء يتابعه بعينيه. تخيله شابًا، والدم يسيل من أصابعه الرقيقة. كان الدم يدمغ حياته. دم، يا ماخور الخراء! دم بارد، بلا حرارة! دم، وموت، وألف ماخور خراء! كانت الحياة نهر الدم الذي يجأر من المهد إلى اللحد!
ومع ذلك، أعادت حركة الشيخ الحياة إلى أرواحنا المرتعبة، فتوقنا عن الصراخ. حدقنا في الأصابع الشيخة، وهي تنغمس في المائع الأحمر، وتنبثق، ثم ترتفع بخفة. لم نكن نظنه قادرًا على فعل ما يفعل، فنظر الشيخ إلى القابعين في الزوايا:
- تعالوا، قال لهم، واجمعوا أشلاء الشهداء!
قاموا في الحال، حتى ضوء الليل قام. مددوا الأشلاء في الحفرة التي أحدثها الانفجار، وطمروها بعد ذلك بالتراب. ثم من جديد، راحوا يقبعون في الزوايا. بقي ضوء إلى جانب الرجل العجوز، والقذائف تصب في الخارج كالمطر الغامر.
- قنبلة عمياء! قال الشيخ لضوء. حتى الشياطين لا يستطيعون أن يخترقوا ملجأنا.
- حتى الشياطين؟ تلعثم ضوء.
- حتى الشياطين، أكد الشيخ.
- حتى... حتى الشياطين؟ تلعثم ضوء مرة ثانية.
- حتى الشياطين، أكد الشيخ مرة ثانية.
وسكت.
انفجرت إحدى النساء نائحة، وسكنت بسرعة على نظرات بعض الصغار، وهم يسبرون ضمير العالم مرتعبين، بينما ينام بعضهم الآخر متحجرًا.
- حتى الشياطين، عاد الشيخ إلى القول.
- نعم، حتى الشياطين، أعاد ضوء الليل لنفسه.
- أهم شيء أنهم لم يضعوا يدهم على معمل البسكوت.
- نعم، نعم... تلعثم ضوء.
- إذن، حتى الشياطين لن يقدروا على اختراق ملجأنا.
- حتى الشياطين؟
- حتى الشياطين.
- نعم، حتى الشياطين. لكن...
- ...
- حتى متى؟
- قليلاً.
- قليلاً: حتى متى؟
- قليلاً. لم نصمد سوى تسعة أشهر.
مد يده إلى سلاح ضوء، وداعبه كما يداعب رأس طفل.
- لم نصمد سوى تسعة أشهر، أعاد. تسعة أشهر فقط.
ابتسمَ، جمعَ من حوله قنبازه، أغمضَ عينيه، وبدا عليه أنه ينام.
بعد قليل، أخذت فريدة بالغناء، وهي تهدهد أمها بين ذراعيها:

أمانة يا غزالة الوفا
تجري في الخلا
أمانة

توصلي فرس الوفا
وتجيبي لي
أمانة

تأوهت، وقالت:
- الغزالة وصلت الفرس، لكن في طريق الرجوع، تصدوا لها، وأخذوا منها الأمانة.
عندما رأت أم فريد نفسها، وابنتها تهدهدها بين ذراعيها، احتدت، ودفعت فريدة.
- هل جُننتِ في عقلك؟ صاحت بجنون. من تحسبينني؟ بنتًا صغيرة!
قامت، وواصلت سبها، وسب كل الموجودين، وأخذت تشد شعرها، تنادي فاتنة، وتدعو لها بولادة عادية.
- كل هذا بسببكم، قالت لنا. سيكون نِفاس ابنتي صعبًا بسببكم، أيتها الرؤوس العفنة، يا قتلة، يا جبناء!
وغادرت الملجأ.
جاءت مباشرة ترى عبد السلام.
- القتلة! قالت له. يريدون أن تموت ابنتي فاتنة عند وضعها، كي لا أرى حفيدي!
توسلت قائدنا أن يسمح لها بالذهاب لعونها. "توقف القصف"، أضافت، بينما الكتائب يرجموننا براجماتهم الأكثر عنفًا. بدا عليها أنها ترى سُكْر عبد السلام لأول مرة. كان يشبه الجهيض. أخذته بين ذراعيها قائلة إنها وجدت حفيدها، وأطلقت الزغاريد. سارعنا إلى الدخول في غرفة العمليات، فقالت لنا إن ابنتها الثانية قد وَلَدَت، وإن القائد ابنها.
- انظروا ما أجمله! عَمِلَت في منتهى السعادة.
سحبناها إلى الخارج، وهي تسبنا، تسب عبد السلام، وتسب الكل. تناول عبد السلام قطعة مرآة محطمة، ونظر إلى وجهه. كم كان دميمًا! لم يكن يكره نفسه لأنه كان دميمًا، فهو سيكره نفسه على أي حال، حتى ولو كان أجمل الرجال. في كل مرة كان يسمعنا نطلق رصاصة، كان يكره نفسه أكثر، وفي كل مرة كنا نعزم على الصمود أكثر. كنا قد عقدنا العزم على الصمود حتى الموت. كنا مجانين! كان معظمنا لا يحب الموت، لكننا كنا قد عقدنا العزم حتى الفناء. كنا سنموت في آخر المطاف كما يموت كل إنسان، كما يموت كل خنزير أو حصان، فلماذا لا نموت في الحال؟ كان عبد السلام يرغب في الموت حالاً وبسرعة. كان يريد العدو على فرس الموت باتجاه مواقع العدو، والفرس تصهل، ويسقط في منتصف الطريق. لم يعد يحب الحياة. اكتشف أنه لم يكن يحبها أبدًا. لم يكن يحب أحدًا أبدًا. حتى أمه، لم يكن يحبها أبدًا. لم يكن يحب خاله. لم يكن يحب كلبهم. اكتشف أنه كان يحب أمه فقط لأنها كانت قد علمته أن يحبها. كانت على خطأ، كخاله، وكلبهم الذي ضحى بنفسه من أجله. كانوا كلهم على خطأ، لأن الحب لا يُعَلَّم. يولد الحب مع الحياة، وهو، حياته لم تكن حياة. كانت حياته شيئًا آخر غير الحياة، وإلا ما كانت رغبته في موت بيروت. بيروت التي كان موتها رغبته الأخيرة، قبل أن تأخذ نفس بيروت هذه بالصمود، لتمنع موتها.

يتبع الفصل التاسع عشر...