بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السادس عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5255 - 2016 / 8 / 15 - 14:19
المحور: الادب والفن     

حكى عبد السلام لنادين، وهو يأخذ قنينة ويسكي بيده، نادين التي نامت كل النهار، وكانت لم تزل تنام عند هبوط الظلام، حكى لها ما وقع في ذلك المساء. كانت طريقته في التحدث مع نفسه، في التحدث عما كان يرغب في محوه من ذاكرته، دون أن يصل إلى ذلك:
- سمعنا طلقات نار في المخيم، فسارعتُ إلى الخُم، حيث أخذت الدجاجات ترفرف في كل اتجاه مقوقئة. كنت مَرْتَعًا لجنون شخص يعلم بكونه مطاردًا، ويتهجس بوقوعه في فخ. نبشتُ القش بسُعر، وأنا أنثره بيدي اليمنى ويدي اليسرى. عندما قمتُ، رأى الكل، تحت ضوء القمر، البندقية الجديدة. انطلقتُ في أزقة المخيم التي لم يكن يُخفى شيء فيها لأختفي عن الأنظار، فجاء جنود الاحتلال عَقُبَ رحيلي، حطموا بابنا، وأوقفوا الجميع. كتب لي أخي عزت عن هول تلك الليلة. يا لهول تلك الليلة! كان الجنود الإسرائيليون قد حطموا أبواب مخيمنا البائسة، ودفعوا الناس، عرايا أو شبه عرايا، إلى مكانٍ خالٍ.
"عقدوا أيديهم خلف ظهورهم بحبال سميكة شدوها حول أعناقهم، فاضطرهم ذلك لثني رؤوسهم إلى الوراء. لم يكن بإمكانهم أن يُنزلوا أذرعهم إلى حيث تكون هناك "راحتهم"، لأن ذلك كان يعني أن يحكموا على أنفسهم بالاختناق، فرفعوا وجوههم نحو السماء. كانت الحبال تحك أعناقهم، وتخنقهم، ما أن تَهِنَ أذرعهم."
"أوقف الجنود الإسرائيليون النساء والأطفال في ناحية، والرجال في ناحية، وراحوا في ذهاب وإياب حولهم، بخطواتهم الميكانيكية، محولين عين بيت الماء إلى معسكر اعتقال، وياسمين الموت إلى احتفال."
"عندما جمعوا سكان المخيم كلهم، اختاروا بشكل تعسفي مجموعة من الرجال لست أدري كم، من بينهم خالي. إرهابيون، إرهابيون، كانوا يصيحون بصوت هستيري. صفوهم، وأعدموهم."
"تعالت صرخات النساء، وهز عويلهن الجبال. كانت أمي تحدق بخبل في الدم المتفجر... كانت تنظر إلى المخيم المذبوح، وتراه يختلج، مثل كلبنا في ذلك اليوم."
"في اليوم التالي، جاءت الجرافات، وهدمت بيوتنا البائسة. ثم... بعثرونا في الحقول، كالبهائم."
"في عمان، حملتُ السلاح إلى جانب زوج خالتي بدرية والأستاذ جودت. كنا نقضي معظم وقتنا في مخيم الوحدات. كنا نركض طوال النهار، كنا نركض طوال الليل، كنا نركض طوال الوقت. هناك، تعرفت على أبي الدميم، يوم كان وطنيًا مخلصًا، أو، إذا شئتِ، عندما كنت أظنه وطنيًا مخلصًا. كان يبتسم للناس، ويصيح معهم، ويطلب من النساء أن يزغردن كلما مر بهن فدائي. كان يقول لي بصوته المبحوح: انظر إلى أطفالنا! لم يعودوا يركنون إلى الزوايا ما أن يروا بندقية على كتف أو بدلة كاكية!"
"كان الأطفال يُعَبِّرون عن فرحهم، كأمهاتنا، للتحرير، لليوم الجديد، وكنا نسمع الأناشيد الثورية من كل مكان، من الخِصاص، ومدن التنك."
"اتسعت حلقة الأستاذ جودت، وتزايد العمل النظري. عَلَّمَنا الأستاذ اللامع حتى الإنجليزية والفرنسية والعبرية. بالنسبة له، لتهزم عدوك عليك أن تتعلم لغته! لكن، كان ينقصنا الوقت للتطبيق، ففتحنا أعيننا ذات يوم على أصوات القنابل، القنابل الأردنية، هذه المرة، الأثداء الملكية. اشتعل ليل عمان كما يشتعل اليوم ليل بيروت."
"هل تعرفين؟ للرصاص أثر الرذاذ على الشتائل لما يصمد المقاتل."
"عندما التفتُّ إلى الأستاذ جودت، رأيته ينكسر على نفسه في عمق الخندق، ممزق الجسد. رفعته بين ذراعيّ، فسألني أن أتركه ساكنًا. أَمَرَّ أصابعي على جروحه، ولفظ هذه الكلمات الأخيرة: "التحرير الحقيقي، أن نعرف ما الثورة، أن يعي الجميع ما هي." وسقط صريعًا. لم يكن يعلم أن عمان لم تكن سوى محطة في خطة عملوا على إعدادها منذ زمن بعيد للاستيلاء على بيروت. لم يكن يعلم أن بيروت ستكون المحطة القادمة للاستيلاء على مدينة أخرى. لكل محطة هدف مروع يختفي وراءها، قطف من الموز، مكيدة حتى الثوري الأكثر بصيرة يجهلها."
عندما استيقظ عبد السلام في الغد، وجد فريدة في فراشه. كانت عارية، وكان القصف يغتصب كل شيء، كالعادة. لم يكن يتوقف في النهار، ولم يكن يتوقف في الليل. لم تعد عند عبد السلام حرارة، ولم تعد عنده قشعريرة. وعلى العكس، كانت الحرارة ترتفع مع ارتفاع الشمس، وتجتاح جسد بيروت.
أيقظ فريدة، فلم تشأ الذهاب. تعلقت بعنقه، وقالت إنها تحبه، إنها تعبده، وإنه رجلها وربها! أجبرها على ارتداء ثيابها، وطردها. فتح قنينة ويسكي، وشرب كأسًا، ثم أخرى، وهو يغلق عينيه. عندما فتحهما، كانت أم الأبيض واقفة أمامه، بقامتها الفارعة، ورائحة إسمنت تتصاعد من بدنها، فترك نفسه من المفاجأة يسقط على مقعد.
- قم وقاتل! حضته. مواقعنا على وشك الانهيار، وأنت، الشيء الوحيد الذي تجد فعله أن تسكر كالحيتان!
هددته بسلاحه:
- لم تعد هناك طلقات في سلاحي، عَمِلَ. مفرغٌ هو.
أشار إلى الرصاصات الملقاة على الأرض كحبات البلح، فدفعت السلاح بين ذراعيه، وأمرت:
- عبئه!
عبأه.
- إلى القتال!
تردد.
- إلى القتال، أيها الجبان! إلى القتال، أيها الجبان! صاحت بصوت عنيف، مُتهمة، ومُهينة.
أخذ عبد السلام جرعة ويسكي كبيرة، وبقي في مكانه ينظر إليها.
خلصتْه عندئذ سلاحه، وراحت تطلق عليه، دون أن تصيبه رغم ذلك. جئنا نجري، وخلصناها السلاح بصعوبة.
- يا رب! يا رب الرب! يا رب رب الرب! عَمِلْنَا، مذعورين. كادت تقتلك!
سألْنا ماذا علينا أن نفعل بها.
- دعوها تذهب، قال لنا آمرنا.
رأيناها تسير بقدم ثابتة باتجاه مواقع العدو، وهي تشق في النار خطًا، واختفت فجأة، كأنها السراب.
جاء ضوء الليل ليقول لعبد السلام إن أبا أرز يوجب إطلاق سراح العمة مريم مقابل إيقاف القصف.
- أطلق سراحها، صاح. ماذا تنتظر؟
- ومن يضمن لنا صِدق هذا الخراء؟ دعني أفاوض في رأس العمة مريم، هذه الخراءة الثانية.
- حاولتَ التفاوص في رأسها ولم يمش الأمر.
- دعني أفاوض أيضًا، لدينا ما يكفي من الذخائر للصمود.
- لا ولا ولا!
- ماذا يعني ذلك؟
- أطلق سراحها حالاً، يلعن دين!
- هكذا! دون أن نفرض شروطنا؟
- نحن تَعِبْنا، ضَعُفْنا، قَنِطْنا، خراء! سَنُقْتَل كلنا! اسمع ما أقوله لك!
قذف ضوء الليل وهو على عتبة الباب:
- لو كنت مكانك لفضلت أن يقتلني أبو أرز على أن يقتلني الكحول!
طرده عبد السلام بحركة مرهقة.
ثم، كان دور أم فريد. لعنت ابنتها فاتنة، الحبلى من الكافر، لكنها مهما يكن تبقى ابنتها. رجت عبد السلام أن يسمح لها بالذهاب لتراها، لتكون قربها، لتعينها، لتنصحها. ضغطت يده على نهدها المترهل، خلال مرور الصواريخ من فوق رؤوسنا.
- ستذهبين عندما يتوقف القصف، قال لها.
- لن يتوقف القصف، استشاطت، وابنتي على وشك المخاض.
سمع عبد السلام نداءاتنا التي في الخارج، ولم يسمع نداءات أم فريد التي في الداخل، كنا في رأسه، كانت الحرب في رأسه، وكانت الأفاعي في رأسه. كنا نشجع أنفسنا على أكل التفاح، على الاستمرار في الإطلاق، على ألا نتوقف:
- أطلق الدوشكا، يا أبا نضال!
- أطلق البي سفن، يا أبا ثائر!
- أطلق هاونك الستين، يا أبا فداء!
كانت أم فريد تضحك بصخب ضحك القروش، ففكر عبد السلام أن المرأة قد غدت مجنونة، وما لبث أن سمعها تقول:
- حسنًا فعلت بإغلاق الباب عليك بعيدًا عن كل هذا، الحرب كالسيرك، تدفع إلى الضحك.
وأخذت تضحك مقلدة الأصوات الذكورية: "أطلق الدوشكا، ها، ها، ها..." "أطلق البي سفن، ها، ها، ها..." "أطلق هاونك الستين، ها، ها، ها... ها، ها، ها، ها، ها..." كانت لم تزل تضحك عندما تركته.
أخبر أحد الفدائيين قائدنا أن العمة مريم قد أُطلق سراحها، ومع ذلك، لم تتوقف جهنم. كانت أنهار النار تصب علينا من المنصورية، ومن الحازمية، ومن الفناء، من الأشرفية، من المدينة الصناعية، من فرن الشباك، وَوَصَلنا من الملاجئ هذا الصراخ:
- لعن الله أباك!
كان الناس يلعنون رئيس الميليشيا الأكثر بربرية في العالم:
- لعن الله أباك وجدك وجد جدك! ملعون أنت مذ جئت إلى الوجود، أنت وكل نسلك معك، مدى الحياة! والزعتر باق!

يتبع الفصل السابع عشر...