بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثاني عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5251 - 2016 / 8 / 11 - 17:17
المحور: الادب والفن     

قام أصدقاء الأبيض بما لا يصدق من أفعال، فجروا مواقع أبي أرز، وهم يجازفون بحياتهم، فأجبروا الكتائب على الانسحاب دون أن يتمكنوا من التقدم شبرًا واحدًا. كانت الغاية الوحيدة التي يرمي إليها أولئك الرفاق الأشرار هي دخول الجنة، وكان الأبيض يحسدهم على ذلك، ويريد حقنة مثلهم أو حشيشة.
- أنَّى يكون لي في آخر حياتي ابن حشاش؟ عنفته أمه.
- إذن لن أقاتل، عَمِلَ الأبيض.
صفعته أمه، واستشهدت بأولئك الثوريين الأدعياء الذين كانوا قد هربوا أمام الهاغاناة في 48. كانوا قد باعوا بنادقهم، وكانت صفورية قد رأتها مضطرة للدفاع عن نفسها بنفسها. صفورية، مرة أخرى. كان عبد السلام يظن أنه يسمع أمه.
- الثوار الذين أعرفهم من طينة ثانية، قال لها رئيسنا.
- هناك ثوار وثوار! بسبب أولئك الثوار نحرونا، واليوم لم يزالوا ينحروننا بسبب الثوار الكريهين أنفسهم.
تناولت رشاشًا، وحاولت قتل ابنها، فجرحته من كتفه. ترنح الأبيض، واتكأ على سلاحه. حدق في عبد السلام، بعين الهول. كان عبد السلام يحب الأبيض، على الرغم من كل شيء. كان على وشك الوقوع، لما تدخل القائد الفلسطيني.
- ماذا، يا أبيض؟ صاح به، ماذا بك، يلعن دين!؟
- لا شيء، همس. لا شيء بي!
- أنت جريح، تَبًا للكون!
سأله أن يتركه يقاتل ليسعد أمه، فجاءت فريدة، خفيفة كفراشة، وأخذت الأبيض بين ذراعيها المعطرتين بالحرب والورد. عند ذاك، قال عبد السلام لنفسه إن فريدة قد عادت تقاتل إلى جانبهم. وكما لو كانت تقرأ أفكاره، أوضحت أن أباها لم يزل غاضبًا من كمال الدرزي، لكن بفضل أمها سمح لها بالمشاركة في القتال. ربطت الكتف الجريحة، وقالت:
- سنرغمهم على التراجع، يا أبيض. سنطردهم بعيدًا، بعيدًا جدًا.
حمل عبد السلام الأبيض بمساعدة فريدة، تحت حمم المرتفعات.
- سنذهب لنرى الطبيب، قال للأبيض.
قَطَّبَ الأبيض:
- لا أدري ما الذي دهاها؟ كان يقصد أمه.
- أنا أدري.
- صارت أمي مجنونة!
- أمك امرأة عظيمة!
- صارت مجنونة!
- ليست مجنونة!
- صارت مجنونة، مجنونة!
- ليست مجنونة إطلاقًا، أقول لك.
- ولماذا أرادت قتلي، في رأيك؟ لأنها صارت مجنونة.
- لأنها تحبك.
- لأنها تحبني! حلوه هادي! لأنها صارت مجنونة.
- لأنها تحبك، لأنها لا تريد أن يكون الابن الذي تحبه جبانًا أو خائنًا. أمك لا شيء لها من مجنونة. تحبك على طريقتها، هذا أكيد، لكنها تحبك.
- ليس أنا.
- أمك تحبك، قال بصوت ساخن، كما لو كانت أمه. أمك تحبك.
- أمي لا تحبني، كانت تريد قتلي، لأنها صارت مجنونة.
- هذا لأنها تحبك، حامى أيضًا. لأنها تحبك، أقول لك، يا ماخور الغرام!
- عندما سينتهي كل هذا، سأعاقبها على حبها لي هكذا.
- أمك تحبك، أمك تحبك، حامى أيضًا وأيضًا. أمك تحبك. ولتبرهن لك على هذا الحب، جَرَحَتك بطلقة في كتفك.
- حب غريب!
- نعم، حب غريب! هذا لأنها تحبك.
- لأنها صارت مجنونة.
- لأنها تحبك، تحبك، تحبك... والآن يجب أن تعالج.
نَعُمَت قسمات وجهه:
- وأي طبيب سنرى، السويدي أم الفرنسي؟
قهقه عبد السلام وفريدة، لأن لم يكن لدينا طبيب فرنسي. كان يُضَمِّن نادين. كان الكل يعلم أنها تحب قائدنا. كلما كانت المعارك تنشب كانت تسأل عنه باستمرار. أبدًا لم تكن تناديه عبد السلام، اسم طويل كهذا! "سلام مش جريح؟" أبدًا لم تكن تسأل إن كان ميتًا. "سلام يقاتل دائمًا؟" ربما لهذا كان اهتمام فريدة بآمرنا، وكان حبها له كذلك. امحت ابتسامتها عن شفتيها، وتكدرت فجأة. كانت مما لا شك فيه تفكر في القذر كمال الدرزي، وبدلاً من أن يسليها عبد السلام، قال للأبيض:
- سآخذك عند نادين، ستعمل على شفائك بسرعة، أنا واثق من ذلك. يومان فقط، وستعود إلينا قويًا كالسبع!
انضم ضوء الليل إلى رفاقنا الثلاثة، وحمل الأبيض مع عبد السلام. تحاشوا الذهاب مباشرة إلى المستشفى، مع أنه كان على بعد خطوتين من هناك. التفوا حول الأنقاض، وهم يحاذرون السقوط في الحفر، واضطروا إلى الاحتماء مرتين، لِطَوَفان القنابل. كان اللهب يتصاعد باصقًا الدخان الكثيف كبركان، وكانت سماء بيروت تغدو سوداء.
عندما وصلوا على مقربة من المستشفى، قال الأبيض:
- قبل، لم يكن هناك مستشفى، لم يكن هناك سوى مسجد من الطين وأعواد القصب، هدمناه، وفي مكانه بنينا مسجدًا ومستشفى من الحجر.
أول ما رأت نادين عبد السلام، ابتسمت له، قبلته من وجنتيه، ولم تهتم إلا به.
- انظري، قال لها مشيرًا إلى جرح الأبيض، عليه أن يعود إلى القتال خلال يومين.
فحصت الجرح، وطمأنته:
- ليس خطيرًا إلى هذه الدرجة.
- حقًا ما تقولين؟
- سيتعافى خلال يومين أو ثلاثة.
- إنه صاحبي، قال رئيسنا. عالجيه جيدًا.
- يلزمه حَزَّة صغيرة لاستئصال الرصاصة.
تدخلت فريدة:
- الطبيب، ليس هنا؟
- ثقي بنادين، فريدة، خاطب عبد السلام سمراء الجنوب.
- فريدة عندها حق، قالت نادين، على الطبيب أن يقرر. سأناديه حالاً.
نظرت إلى قائدنا، وهي تتأمل به الجريح لتعالجه.
- كيف الحال، هناك، على الخط الفاصل؟ سَأَلَت.
- أجبرناهم على الانسحاب، أجاب عبد السلام.
- تاني!!!
- وتاني، أدبناهم جيدًا!
ذهبت فريدة لتجلس على انفراد. لاحظ عبد السلام حزنها المفاجئ. نظر إلى شفتيها المغريتين، ثم إلى شفتي نادين، كحبتي توت من البلد، واشتهى عض كلتيهما. لم يكن يمكنه الاختيار. لاحظ ضوء الليل حيرته.
- ضاجع الاثنتين، همس في أذنه.
- شكرًا للنصيحة، زعيم البراز!
- إذا كنت هكذا تتعامل مع قصص قفاك، فلنعد إلى خنادقنا حالاً. على الأقل، هناك، نحن نتعامل مع خُصى الكتائب بشكل عاجل!
- كنت أظنك عاقلاً أكثر من أبي المشارق، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته!
- هذا يتوقف... لكن مع قصص قفاك...
- لا تقل لي أبدًا "قصص قفاك"، وإلا...
- وإلا ماذا؟
- فرقعت لك قفاك، يا ابن الأَحْبِة!
- طيب، فهمت، فهمت، فلنَقْنَع بالعودة إلى الخنادق.
لم يكن عبد السلام يريد العودة إلى الخنادق في الحال، كان يتمنى أن يشد فريدة على صدره، ويعض التوت من ثغرها الشهي، وكذلك من ثغر نادين.
نادت أغنيتا، زوجة الطبيب السويدي، نادين. استعدت للذهاب، لكن آمرنا أمسكها من ذراعها، وأحسها ترتجف كالعصفور بين أصابعه.
- يلزمني الذهاب، رجته.
- احتفظي بالرصاصة لك، فَوَّض الأمر إليها.
ابتسمت للأبيض، وهي تهز رأسها، ثم أخذته معها لمعالجته.
التفت عبد السلام، لم تكن فريدة هناك. افترض ضوء الليل أنها كانت تنتظر حتمًا في الخارج، فلم تكن في الخارج.
وهو يعود إلى مركز القيادة، وقع على العمة مريم التي كانت تنتظره. أخبرته برغبة كمال الدرزي في رؤيته. كان يريد التفاوض معه شخصيًا في أمر الأسلحة الألمانية، فكاد عبد السلام يجن. ما الرابط بين العمة مريم – مبعوثة الزعيم الكتائبي- والزعيم الدرزي؟ ما العلاقة بين كمال وأبي أرز؟ رسمت المبعوثة الغامضة ابتسامة:
- أبو أرز موافق على أن يأخذ على عاتقه حماية كمال الدرزي، أوضحت العمة مريم، خاصة عند المرور بنقاط تفتيشنا. سيكون اللقاء في الشارع الشهير شارع الحمرا، وعلى التحديد في مقهى الهورس شو. يريد كمال الدرزي مكانًا يكون أمنه فيه مضمونًا على أكمل وجه.
- وأمني، هل فكر فيه؟
- هذا أيضًا نحن من علينا ضمانه.
فجأة، خفضت العمة مريم صوتها:
- اتصلت برجال الأعمال الإسرائيليين فيما يخص إعادة بناء صفورية، إلا أنهم اقترحوا إعادة بناء غزة.
- إعادة بناء غزة!؟
- اليوم، غزة مزبلة كبيرة، لكن كأول مدينة ساحلية فلسطينية، مستقبلها كبير جدًا، ورجال أعمال نجمة داوود عازمون فيها على بناء أكبر مجموعة سياحية في الشرق الأوسط.

يتبع الفصل الثالث عشر