بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5250 - 2016 / 8 / 10 - 16:30
المحور: الادب والفن     

راح عبد السلام يركض على صراخ أم فريد، وكذلك كانت فريدة تصرخ وتبكي بين ذراعي أمها. أشار أبوها إلى ضربات مخلب على وجهها، وزأر: "إنها أظافر كمال الدرزي!" أخبرتنا فريدة أن القيادي الدرزي قد اغتصبها، وأنه قد عزم على عدم تسليمنا الأسلحة الألمانية.
- سأقتله، صاح أبو فريد. سأثأر لشرفي!
- إذا هذا جوابه، قال عبد السلام، فسيرى!
ذهب ضوء الليل لينذر المغتصب بتسليمنا شحنة الأسلحة الألمانية مقابل الحيلولة دون انتقام أبي فريد منه.
أوضحت فريدة لنا أن كمال عندما رآها تدخل في سراياه، ظنها فاتنة. دخن حشيشته المعتادة قبل أن ينام، وحاول أن يخطف قبلة منها، فصفعته، وهددته. عند ذلك، أمر الزعيم الدرزي رجاله بتشليحها من ثيابها، ثم، ضَرَبها بمسدسه على رأسها، ففقدت الوعي.
- فاتنة، آه! يا فاتنة، رددت أم فريد باكية.
- فاطمة، صحح أبو فريد.
والأخرى تواصل:
- فاتنة، آه! يا فاتنة.
- فاطمة، فاطمة!
- تعالي لتري ماذا فعلوا في أختك، فاتنة، آه! يا فاتنة...
عند تلك اللحظة، ظهرت عمتنا مريم... أخيرًا.
قالت عن نفسها، ونحن نبدي استغرابنا، إنها قادمة من طرف أبي أرز، حتى أنها لم تتفضل بالسلام على أم الأبيض. كانت تعمل على أن نرى صليبها، فقط صليبها، فآية الكرسي لم تكن حول عنقها. خلعتها هذه المرة، ولم تخفها. نعم، عملتها فينا، العمة مريم، عملتها فينا. تبدلت العمة مريم، ونحن عندما فكرنا في وقت مضى أنها كانت رهينة أبي أرز، كنا على طول الخط مخطئين. كانت شريكته، وها هي تعتبر نفسها من الآن فصاعدًا كجزء من معسكره. أخبرتنا أن أبا أرز قد أوقف بطرس الأحمر، "جاسوسك"، كان يطيب لها أن تقول لعبد السلام، وهي تتلمظ بشراهة. نصحتنا بالاستسلام وإلا مات. كان رئيسنا أكثرنا استغرابًا. "وداعًا صفورية، وداعًا حاضرتي الخالدة!" همهم. أوجبت العمة مريم على عبد السلام الجواب.
- اقتلوه، قال لها، قبل أن يأمر باعتقال العمة مريم.
كانت الأسلحة تواصل صمتها، فخرج المختبئون في الملاجئ لينتشروا تحت سماء مرصعة بالنجوم. تعاونوا بعد ذلك كلهم على إطفاء النار ودفن القتلى ونقل الجرحى. عندما التمسوا مساعدة الأبيض رفض.
- سأحرر مدمني خرائك شرط أن تكسب هذه الحرب، قال عبد السلام.
فصاح عند ذلك من الحماس:
- سندمر مواقع أبي أرز واحدًا واحدًا، وسنرغمه على الاستسلام، كن مطمئنًا.
ذهبت بعض النساء وبعض الأطفال إلى البئر، مصدر الماء الوحيد في المخيم، فعادت الجبال تتحرك، وراحت القذائف تتساقط على مطاردي الماء.
ظهر أبو الدميم في قلب المخيم فجأة كالعمة مريم، كان برفقته كاتب معروف اسمه ابن الجليل. شرح عبد السلام سوء وضعنا، فتجاهل قائد القادة كلامه. قال إن بإمكاننا أن نلقنهم درسًا لن ينسوه، منايك الكتائب هؤلاء!
- يجب علينا أن نجد حلاً لإيقاف القتال نهائيًا، أجاب عبد السلام بغضب.
وافقه ابن الجليل، لكن أبا الدميم أخذ يتكلم عن سيارته المرسيدس المصفحة التي نشلها أبو مزة منه، على مرأى ومسمع الجميع، والتي يريد استعادتها بأي ثمن. وسلام سًلِّم هذا، وسلام سَلِّم ذاك. كان يماطل.
- إذا استطعنا رد أبي أرز حتى الآن، عَمِلَ قائدنا، فهذا لا يعني أننا نستطيع التغلب عليه، خاصة أن فاتنة الشيطان تدعمه، هو، وليس نحن. وبدلاً من أن تضغط عليه، تناوشنا، نحن، وليس هذا فقط، بل وتحاول بث الشقاق بيننا.
استدعى محاولات إغرائها معه، مع كمال الدرزي، ومع آخرين غير كمال الدرزي، كمال الدرزي الذي يحرمنا من الأسلحة الألمانية، فكيف الصمود أكثر؟
لم يغير أبو الدميم رأيه، كان مع هجوم "نهائي وحالي" لتصفية أبي أرز في لحظة. اقترح ابن الجليل أن يقوم بدور الوسيط، فغادر أبو الدميم، وهو يرغي ويزبد ضد هذه الثورة الأَحْبِة، وهؤلاء الثوار الأحبات، الأجبن! واختفى فجأة كما ظهر فجأة، دون أن يترك لنا أقل فرصة مؤاتية للتناقش معه.
حرر عبد السلام العمة مريم لترافق ابن الجليل في مهمة التوسط لدى القيادي الكتائبي. حَمَّلهما رسالة يعبر فيها عن رغبته الصادقة في الوصول إلى حل يرضي الطرفين. "لن نسمح لنا بالاستسلام، لن نسمح له بالمهانة، ترتيب الأمور بالتي هي أحسن. إن عاند، قاتلنا حتى الموت. إن وافق، كنا لا غالب ولا مغلوب."
- ومصير بطرس، سألت العمة مريم متهكمة.
- افعلوا فيه ما تريدون، أجاب عبد السلام. المهم أن نتفاهم.
- لإنعاش ذاكرتك، بطرس شيوعي لا يهودي، قذفت العمة مريم. أعرفه أفضل من أي كائن كان، هذا الأحمر، ربيته بنفسي، لبناني على قدر حاله. غير يهودي، أعيد، غير عدو إذا أردت أن تعرف. كل اليهود أعداؤك، أليس كذلك، يا سيد محرر تل أبيب؟
أمسك عبد السلام عن صفعها، فأطلقت العمة مريم قهقهاتها.
عَبَّر ابن الجليل عن قلقه على القيادي الشيوعي، وأعلن أنه سيعمل كل ما في وسعه لتحرير بطرس ووقف القتال. غير أننا عرفنا من الراديو أن الكرنتينا قد سقطت، وأن تقي الدين قد رفع الراية البيضاء. سلم أبو أرز ابن الجليل إلى أبي الدميم، ليموت الكاتب المعروف في سيارة مفخخة، بينما قائد القادة يزور "إخواننا الخليجيين".
تناول عبد السلام قنينة ويسكي من الصندوق الذي صادره أبو المشارق قبل إعدامه، وصب لنفسه كأسًا شربها جرعة واحدة. كان الأبيض يريد أن يراه، لكنه رفض أن يستقبله. كانت التعليمات أن نمنع كل من يرغب في رؤيته من وضع القدم في مركز القيادة، أو غرفة العمليات، كما كنا نقول. قضى طوال الليل مع قنينته، وهو يريق الويسكي إكرامًا لآلهة الوثنية. حطم كل الأثاث الموجود في أَحْبِة غرفة العمليات تلك، فحاولنا أن نرى ما يجري، لكنه طردنا. عاد ضوء الليل عابسًا، ونقل إلى قائدنا أن كمال الدرزي قد رفض رفضًا قاطعًا تسليمنا شحنة الأسلحة الألمانية. لن تغادر "كانتونته"، أضاف، وليثأر أبو فريد لكس ابنته، إن استطاع!
في الصباح الباكر، قام عبد السلام برأس مثقل كصخرة، عندما عاد القصف، قصف شديد يأتي من حرش ثابت وفرن الشباك وسن الفيل، مما يثبت أن تقي الدين قد سلم نفسه، وأن كمال الدرزي قد حطنا على إيره. كان جواب أبي أرز على رسالته، وكل هذا كان منطقيًا بعد أن مال ميزان القوى إلى صالحه.
حضرت العمة مريم مرة ثانية، كانت رسالته واضحة: "كل شيء أو لا شيء! تل الزعتر أرض لبنانية، وعليكم تركها!" أخبرَت عبد السلام بالقِصاص الذي كان ينتظر بطرس: تسليمه إلى الجيش الإسرائيلي.
- مقابل شحنة هامة من الأسلحة، قال عبد السلام متهكمًا.
- هذا لا يعنيك، عَمِلَت العمة مريم منفوخة أكثر من أي وقت آخر.
استشاط رئيسنا، فجعلته يخرس عندما أعلمته بوقاحة أن فاتنة حبلى من أبي مزة.
- أبو مزة! صاح مذهولاً.
- وماذا لديه أقل مما لدى باقي الرجال، أبو مزة؟ سألت العمة مريم مدافعة عمن كان خصمها. أليسه كبش فداء كسائر الأكباش؟
بدا لعبد السلام أن المعلومة كانت ثمينة، وأن العمة مريم لم تكشف له عنها مجانًا. وماذا لو طلب منها أن تعمل له، أن تصبح عميلة مزدوجة كالأحمر؟ تردد. كانت العمة مريم واثقة جدًا من نفسها. ودون أن يتوقع ذلك، سمعها تقترح:
وماذا لو تفاهمنا سويًا نحن الاثنان؟

يتبع الفصل الثاني عشر...