بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السادس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5241 - 2016 / 8 / 1 - 16:08
المحور: الادب والفن     

حرض أبو أرز رب العمل على استدعاء رجال الدرك: "الإضراب دام طويلاً، قال له، نقود أبي الدميم لا تعوض كل ما خسرت، يجب عليك التحرك." في صباح أحد الأيام، عندما نهض المعتصمون من نومهم، كانت الكِبَيَّات الزرق هناك. كانوا محاصرين. هدد "سلطاننا"، وهو يلتحف بكرامة الثوري المعتدى عليه، بالانتقام، وذلك بشن الحرب حالاً. أرد أن يذهب عبد السلام عند رئيس الكتائب ليبلغه تهديداته، فطلبنا منه الاعتدال في مواقفه طالما أن الأسلحة الألمانية لم تصل بعد. "اتصل بالشيطان، أمر عبد السلام، واحصل على أسلحة في الحال."
- أنفقنا كل أموال الحشيش، رد عليه عبد السلام.
- بع مرسيدساتي بانتظار التحويل القادم لشيوخ الخليج.
- اطلب منهم أن يضاعفوا المبلغ. قل لهم تريد أن تدافع عن بيروت كيلا تُمَس الكباريهات التي يترددون عليها.
- وَلِمَ لا يثلثوه، سلام سَلِّم؟ بانتظار ذلك، اتصل بأبي أرز، وأعلمه بما أهدده. سيهدأ قليلاً.
في اجتماع من حول أبي الدميم، كان الحلفاء يناقشون الوضع. لم يكن بطرس الأحمر مسرورًا. بالنسبة له، ارتكب المقاتلون خطأ استراتيجيًا خطيرًا ببيعهم الأسلحة في السوق السوداء.
- الأسلحة، الأسلحة، الأسلحة، نرفز أبو المشارق. ما علينا سوى مهاجمة رجال الدرك الذين يحاصرون معمل البسكوت، ونأخذ أسلحتهم.
قهقه كمال الدرزي.
- هل تسمع ما يقول "الرفيق ماو"؟ قال لتقي الدين. قل له أن يروح يغني، هذا أحسن له.
انقض أبو المشارق على كمال، وأمسكه بخناقه.
- سأغني قريبًا على قبرك، درزي قفاي! صاح.
- وأنا سأشخ على قبر أختك الأَحْبِة! جاوب الرئيس الدرزي.
كانت لغتهم العادية لهؤلاء القياديين غير العاديين. خَمْشات. كانت ردود فعلهم الأكثر بساطة، لهؤلاء الخرَّائين المعقدين. دفع تقي الدين عبد السلام إلى التدخل. وقف مع بطرس الأحمر، وفصلاهما.
- ليست اللحظة للتقاتل، يلعن دين! قال لهما القيادي الفلسطيني، وهو على وشك التفجر.
فتح أبو الدميم قنينة عرق.
- لا وليست اللحظة للشرب، عاد إلى القول. مع ذلك، لنشرب قليلاً كي نهدئ أعصابنا. أنا أفضَل من يفهم أبا المشارق. لنا نفس المزاج، ونتحفز سريعًا للغضب.
- سأصلي لكم جميعًا، سأصلي لكم جميعًا، قال تقي الدين بصوت المتوارع، قبل أن يكرع كأس عرقه.
- نادِ الناس إلى الصلاة بالأحرى، قال أبو الدميم. حضهم على رص الصفوف من حولنا.
- من حولي.
- أنت نحن، ونحن أنت. ادفعهم إلى التيقظ خاصة.
قهقه بطرس الأحمر.
- يذكرني تقي الدين بأبي أرز، ألقى. كلما ساءت الأمور، حث الناس على الذهاب إلى المسجد للصلاة.
نهض الشيعي، وأمسك الأحمر بخناقه. تضاربا، تشاتما. طلب أبو المشارق من عبد السلام أن يفعل شيئًا، فنهض عبد السلام مع الدرزي، وفصلاهما. هدد بطرس بالعمل وحده، فذكَّره القيادي الفلسطيني ببرناديت، تلك التي كانت تقرع أجراس الحقيقة، ليكون الناس على علم بتلاعبات أبي أرز، لنكون متحدين.
- حقيقة برناديت دفنت في نفس الوقت معها، رد بطرس الأحمر بتحفظ.
حقًا كان بطرس الأحمر "أحمر"، لكنه كان قبل كل شيء مسيحيًا وابن عم برناديت، فبرعمت الفكرة التالية في نفس عبد السلام: من اللازم أن يكون هو، بطرس الأحمر، من يذهب ليرى أبا أرز، ومن يخبره بنوايا أبي الدميم العدوانية. سيكونون مسيحيين فيما بينهم، وسيحتفظ بوضع الشخصية "المحايدة"، مما سيسمح له فيما بعد بالحصول على دور أكثر حسمًا بين كل مُرَكِّبات هذا السيرك اللبناني. بعون العمة مريم طبعًا. غير أن العمة مريم لم تظهر. ربما كانت مريضة، أو ربما كانت مسافرة. كنا في حاجة إليها. كان عبد السلام يعرف أن أبا أرز لن يبالي بتهديدات كهذه، وكان يعرف كذلك أنه سيستغل الحجة ليبدأ الحرب. ولا ننس أن القائد الفلسطيني قد تفاهم معه على تدمير بيروت، واقتسام أرباح الحرب لا خسائرها: إعادة بناء المدينة بعد تدميرها تدميرًا كاملاً، عمارات على مدى البصر، مع نوافذ، كثير من النوافذ, وعمارات أيضًا، وعمارات أيضًا وأيضًا. سيكون سوق الإسمنت بقيمة الذهب.
سكرنا طوال الليل، ثم نمنا بين أذرع عاهرات أبي الدميم حتى الساعة الواحدة بعد الظهر. صحونا على السماء، وهي تبرق وترعد، فظننا أن الحرب اندلعت. تناولنا أسلحتنا الملقاة هنا وهناك، ونحن مذعورون. أطلقنا من بلكون أبي الدميم، وصرخات الجيران تغطي على طلقاتنا. رددنا مطلقين الرصاص في كل الاتجاهات، دون أن نعرف لماذا. راح المطر يتساقط بغزارة، ولا يفضي إلى غسل دم الأبرياء.
- اصعد لترى أبا أرز حالاً، قال عبد السلام لبطرس الأحمر، وأبلغه تهديدات رئيسي. قل له على رجال الدرك أن يرفعوا الحصار عن معمل البسكوت، وعلى رب العمل أن يقنع بتعويض أبي الدميم، وإلا قضينا عليهم كما فعلنا منذ قليل مع كلاب هذا الحي الأكثر ثراء في بيروت الغربية.
- هؤلاء الكلاب لم يكونوا كلابًا، حتى وإن جاؤوا من أثرى حي. وأنا، الشيوعي، من يقول هذا لك.
- قل له فقط إننا لن نتردد، حتى مع المسلمين، يلعن دين!
- لست موافقًا، لكني سأقول له.
- يجب أن يشخ في لباسه.
- لن يقلق أبدًا.
- يجب أن يخاف بانتظار...
- ...أن نستلم الأسلحة، قال الأحمر مقلدًا نبرته. الأسلحة الألمانية، أليس كذلك؟ هذا، أعرفه، وأبو أرز كذلك.
- هذا لأن العمة مريم قالت له. لكن ليس الأمر خطيرًا، حسنًا فعلت. يجب أن يخاف! هدده بخطف ابنته.
- لا بنات لديه.
- هدده بخطف امرأته، خراء!
هذا التهديد الأخير جعل أبا المشارق يقفز من الفرح.
- سأغني لكم أغنية بمناسبة خطف زوجة أبي أرز، قال لنا.
- لكننا لم نخطفها بعد.
- كما لو، يا أَحْبِة! ألا تثقون بأنفسكم؟
صحنا:
- ليس الوقت للغناء!
- أغنية واحدة.
- لا.
- كما تريدون. على أي حال، ليس معي جيتاري.
ذهب تقي الدين لينادي الناس إلى الصلاة، واصطحب كمال الدرزي عاهرات أبي الدميم. كان يريد إمتاع رجاله.
- بما أننا وحدنا الآن، قال عبد السلام لأبي الدميم، عليك أن تحول إلى حسابي السويسري نصف مليون دولار، وإن لم تفعل، قلت إنك أنت من قتل برناديت.
أعلمه رئيسه أن ما سمعه عبري بالنسبة له، سبه، وأقسم على أن يقتله يومًا.
- إذا قتلتني، أجاب عبد السلام، ميم وميم سيعرفان الحقيقة، وهما سيقتلانك.
هَدَأَ وَقَبِلَ.
- انتظر حتى أضاعف ثلاثة أضعاف أموال النفط، وسيكون لك نصف مليونك، سلام... سَلِّم، عمل بنبرة مُهَدِّئة.
- احمد الله أن سرك لا يعرفه أحد غيري، وإلا لإرضاء الشيطان، أجبروك على بيع الثورة وثيابك معها.
عندما عاد بطرس الأحمر من عند أبي أرز، كان وجهه متشنجًا. استخف أبو أرز بتهديدات أبي الدميم، وكما يبدو كان هناك شيء آخر يقلقه.
- عرض أبو أرز عليّ أن أعمل جاسوسًا له، أفلتَ بعد بعض التردد.
قهقه عبد السلام:
- لهذا تبدو كمن طرقه أحدهم على سحنته بعصا!؟
نبر:
- هل تدرك لأية درجة يحتقرني ليعرض عليّ مثل هذا العرض؟
- أدرك، طبعًا...
ووضع ذراعه على كتفي الأحمر.
- ...أدرك. ستعمل الجاسوس له، وستتجسس عليه لي، قال القيادي الفلسطيني، وهو يحكم ضغط كتفيه بذراعه.
تخلص بطرس الأحمر منه، واحتج:
- عميل مزدوج! عميل مزدوج! تريد أن تعمل مني عميلاً مزدوجًا!
- خذ هذا كمهمة وطنية للثورة، للحرية، لبرناديت، وللبنان الذي نحبه كلنا.
اختلجت عينا بطرس الأحمر عدة مرات. كان على وشك البكاء.
- دعني أفكر في كل هذا، طلب بصوت يسمع بالكاد.
- لن تفكر طويلاً، الحرب على وشك الاندلاع، وأنا أحتاج إلى الكثير، الكثير من المعلومات.
- اطلب من قفاي المعلومات التي تحتاج إليها!
- لو كنت أريد أخذ قفاك، قال عبد السلام باسمًا، لأخذته شئت أم لم تشأ، لكني لا أحب الأولاد.
كان بطرس الأحمر على وشك الانهيار:
- صحيح ما تطلبه مني؟
اتسعت بسمة الآخر:
- تظن أنني أمزح؟ عمل بلهجة صفيقة بفظاعة. أنا لا أمزح لما تكون الأمور خطيرة. الأمور خطيرة، هل تفهم؟ خطيرة جدًا! خطيرة جدًا جدًا! خطيرة جدًا جدًا جدًا! تابع دَعِبًا أكثر فأكثر. أعطني كلمتك حالاً.
مسح بطرس الأحمر عينيه بقوة:
- على الحزب ألا يعلم.
- إطلاقًا.
- ولا أحد.
- ولا أحد.
- سيبقى هذا بين وبينك.
- إطلاقًا.
- احلف.
- أحلف، أحلف.
- برأس أمك؟
- برأس أمي.
- قل: "أحلف برأس أمي."
- أحلف برأس أمي.
تردد قليلاً.
- سمعتني أحلف برأس أمي.
- سمعتك تحلف برأس أمك.
- إنها كالقرآن، أمي.
- أنا، أنا مسيحي.
- إنها كالإنجيل.
- أنت، أنت لست مسيحيًا.
- أنت شيوعي، لا؟
- نعم، أنا شيوعي.
- يمكن الشيوعي أن يكون الاثنين، مسلمًا ومسيحيًا.
- هذا أكيد.
- إنها كرأس المال، أمي.
تردد قليلاً أقل.
- أقول لك إن أمي مقدسة عندي بقدر رأسمالك المفلس، يلعن دين!
نظر إلى عبد السلام في عينيه خلال لحظة، ثم: "خذ أول معلومة، همهم. التقيت ببعض الإسرائيليين عند أبي أرز. كانوا يدخلون في الوقت الذي كنت فيه أخرج. كانوا بصحبة العمة مريم."

يتبع الفصل السابع...