دليلك إلى حياة مقدسة! (الفصل الثاني)


وفاء سلطان
الحوار المتمدن - العدد: 5113 - 2016 / 3 / 25 - 17:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الناس نوعان لا ثالث لهما، أموات وأبطال، مالم تكن بطلا فأنت في حكم الأموات!
البطولة ـ باختصار ـ هي أن تخترق المألوف وتسمو فوق المعتاد!
لا تسجن نفسك داخل عقيدة كانت من نتاج فكر الآخرين، أيا كانت طبيعة ذلك الفكر!
البطولة أن تحلّق في رحاب فكر جديد، فكر كونته لنفسك وخرجت به من عمق تجاربك!
البطولة أن تصنع لنفسك طريقا لم يمش عليه أحد من قبل، وأن تترك آثار أقدامك دليلا دامغا على أنك كنت مميزا وكنت انسانا فوق العادة!
لا يستطيع الطفل أن يتعلم المشي مالم يملك الشجاعة لمغادرة حضن أمه، ولا تستطيع الأم أن تدفش ابنها خارج حضنها مالم تمتلك الشجاعة لفعل ذلك.
هذه الحقيقة تؤكد أننا لا نستطيع أن نمو ونتطور مالم نملك الشجاعة لاكتشاف عوالم أخرى خارج المكان الذي ألفناه ونشعر فيه بالأمان!
هناك مثل أمريكي يقول: الجيد يمنعك أحيانا من أن تبحث عن الأفضل!
فعلا، لكي تنال الأفضل يجب أن تمتلك الشجاعة كي تتجاوز حدود الجيد!
هل هناك جيد أكثر مما يحس الطفل في حضن أمه، لكن الطبيعة زودته بالشجاعة اللازمة لمغادرة هذا الحضن، وهل هناك أقسى من أن تدفش الأم طفلها خارج حضنها، لكنها وطالما تحلم له بالأفضل، لا بد أن تمتلك الشجاعة لفعل ذلك!
الشجاعة لا تتوقف على قوة عضلاتك، بل على حجم عزيمتك..
غاندي كان يزن أقل من أربعين كيلو غرام، لكن شدة عزيمته، أركعت أعتى امبراطورية في زمنه، بريطانيا التي كانت تحكم ثلثي العالم آنذاك!
يستمد الإنسان شجاعته من ثقته بنفسه وإيمانه بذاته…
الشجاعة تحلّق بالإنسان العادي إلى مستوى البطولة!
لكي تكون شجاعا لا تحتاج إلى عضلات، بل إلى حس مرهف يساعدك على إدراك ما هو واجب، ويدفعك للقيام بذلك الواجب!
……
لا أستطيع أن أشرح هذا الحس المرهف وتلك القدرة على شحذ الهمّة، إلا من خلال قصة تكاد تكون خياليّة لو لم تكن موثقة بالمكان والزمان!
Wesley Autrey
رجل أمريكي أسود، عامل بناء وفي الخمسين من عمره...
في أحد الأيام عام 2007، وفي مدينة نيويورك كان ينتظر القطار مع طفلتيه البالغتين من العمر أربع وست سنوات، عندما وقع شاب أبيض في العشرين من عمره على الأرض بجانبه وراح يتخبط بجسده، على أثر نوبة صرع.
ركض باتجاه محاولا أن يساعده بما يستطيع، فتمكن الشاب من أن يستعيد بعضا من عافيته ووقف منتصبا!
لكن ماهي إلا ثوان لاحقة، وتعرض لنوبة أخرى أوقعته من على ناصية الانتظار لمنتصف المسافة الفاصلة بين سكتي القطار، ليس هذا وحسب، فلم يكد يلامس أرض السكة إلا وأومضت مصابيح القطار القادم بسرعة البرق ليقف في المحطة.
لم يعد هناك سوى ثوان، ثوان خالها الرجل الأسود دهرا، لكنه وبدون أدنى تفكير قفز إلى السكة وألقى بجسده فوق جسد الشاب الذي كان يرتجف تحت تأثير نوبة الصرع، وكبسه بصلابة على الأرض.
مرّ القطار فوق الجسدين اللذين حولتها قدرة ذلك البطل إلى جسد واحد، جسد ملتصق بالأرض بطريقة سمحت للقطار أن يمرّ فوقهما بدون أن يسبب لأي منهما أذية!
الأذية الوحيدة كانت لقبعة السيد ويسلي، فلقد اتسخت من شحم القطار، بعد أن مرت فوقها خمس عربات، قبل أن يتمكن القطار من أن يقف!
لم يتطلب الأمر سوى ثوان، ثوان، كي يقوده حسه المرهف ليتخذ قرارا، قرارا كاد يودي بحياته، لكنه أنقذ حياة.
تصور نفسك في هذا الموقف، ومعك طفلتان، وعليك أن تتركهما لجنون اللحظة وتحت رحمة الغرباء، في سبيل إنقاذ حياة أخرى!
لم يفكر في تلك اللحظة بأنه أسود وبأن الضحية أبيض….
لم يفكر في تلك اللحظة بتاريخ السود في أمريكا، ولا بالاضطهاد الذي عانوه على يد البيض، لأن البطولة تتطلب قرارا لا يسمح أن تفكّر بالانتقام!
لم يفكر في تلك اللحظة بأنه قد يخسر حياته….
لم يفكر بطفلتيه اللتين تركهما بين غرباء شهدوا على بطولته الخارقة في ذلك اليوم…
لم يفكّر إلاّ بقيمة الحياة وبواجبه تجاه حماية تلك القيمة!
معروف طبيّا أنه أثناء النوبة الصرعية، يجب أن تربط المريض بقوة إلى طاولة الفحص وأن تحقنه بجرعة عالية من مضادات الاختلاج، لأن قوة الاختلاجات كفيلة باحداث رضوض وكسور خطيرة!
لم يفكر السيد ويسلي بقوة عضلاته، ولم يتساءل إن كانت تلك القوة كفيلة بالسيطرة على الاختلاجات الصرعية عند ذاك الشاب، بل قام بما أملاه عليه حسه المرهف في تلك الثوان، تلك الثوان القصيرة جدا، لكنها طويلة كفاية لتتخذ قرارا بحماية حياة!
صاح من تحت القطار: نحن بخير، أخبروا ابنتيّ أنني سأعود إليهما في دقائق!
وعندما سأله الصحفيون عن سرّ تصرفه الخاطف، رد: لا تجعلوا من ذلك التصرف قضية كبيرة، فكل ماهناك أنني تصرفت بما أملته عليّ مشاعري في تلك اللحظة!
في معظم الحالات، البطولة ليست قرارا تتخذه بعد دراسة وتمحيص، بل خطوة خاطفة يفرضها عليك حسك المرهف ولا تحتاج إلى الكثير من التفكير، فالحس المرهف لا يخطئ!
ليس هناك حسابات يجب أن تأخذها بعين الاعتبار عندما يتطلب الأمر منك أن تكون بطلا…
في اللحظة التي تتهدد فيها الحياة لا يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار من كان من الشبيحة….من الذبيحة… من السنة النواصب….من الشيعة الروافض….من النصيرية الكفار….من اليهود المغضوب عليهم….من النصارى الضالين….
الأمر الوحيد الذي يجب أن تأخذه بعين الاعتبار هو أن حياة ما قد تهددت بالفناء، والغاية من وجودك حماية الحياة!
…..
نعم، كنت ولم أزل وسأظل مؤمنة بأن الغاية من وجودنا ـ بشكل أو بآخر ـ هي حماية الحياة…
ليس فقط حمايتها، وإنما العمل على تحسين نوعيتها…
لذلك، قررت غير عابئة بالمخاطر التي تحف طريقي أن أنهض إلى مستوى تلك الغاية أملا في أن أنشل الإنسان في وطني من مستنقع عاش فيه على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن…
غرق فيه خلال تلك الحقبة الطويلة من الزمن لسبب واحد لا ثان له، وهو افتقاره إلى الشجاعة التي تمكنه من أن يواجه الحقيقة المرّة المتعلقة بدينه وثقافته!
.......
أن تقول الحقيقة أمر يرهقك ككاتب ويُضجرك كقارئ!
نحن نعيش اليوم في زمن، أفضّلُ أن أُسميه “زمن التكة”…
نعم التكة!
كلمة اقتسبها من صوت الساعة المعلقة على جدار مكتبي والذي يصدر كل ثانية تك….تك…تك…..
الجملة التي تنشرها ويستغرق استياعبها أكثر من تكة تفقد قيمتها…
لذلك، كان لا بد من حيلة استدرج بها قارئي، فلا يشعر بتكات ساعته، ويظل شغوفا بالقراءة حتى آخر حرف!
كان لا بد أن أكون شهرزاد في وجه قارئ لا يقلّ نزقا وجبروتا عن شهريار…
ولكي لا يحكم علي بالموت منذ السطر الأول قررت أن أجعل من القصة القصيرة والمثيرة والعميقة في مغزاها طريقي إلى قلبه وعقله…
نعم، أولا إلى قلبه، فأقصر الطرق إلى العقل ذاك الذي يمرّ من القلب!
المتعة في القصة التي تعيشها ليست بحجم المتعة في القصة عندما ترويها….
أنت تعيشها باللاوعي ولذلك قد تفوتك متعتها، لكنك لا تستطيع أن ترويها مالم ترتقي بوعيك إلا مستوى إدراك حكمتها….
وكل شيء يكتسب حكمة يصبح أكثر عمقا ومتعة!
لذلك أعيش حياتي مرتين مرة على أرض الواقع ومرة على صفحاتي…
فتتضاعف متعتي عندما أعيشها ثانية…
أنقى الحكم وأكثرها تناقلا وثباتا عبر التاريخ تلك التي تولد في رحم قصة….
الحكمة ـ بحد ذاتها ـ كجدول الضرب تحمل الحقيقة لكنها صعبة الحفظ!
ومهمة الكاتب المبدع أن يضعها فوق جناحي قصة كي تدخل القلب بسلاسة وبلا رسوم جمركية، ولكي تحلق بالعقل عاليا في رحاب الفكر!
أية فكرة هي سهلة الهضم عندما تلتصق بقصة!
قرأت مرة بضعة أبيات لشاعر أمريكي، لم أعد أذكر اسمه ولا الأبيات، لكنها تحمل هذا المعنى:
قصصي من وحي الخيال…
لكنها تخبركَ بالحقيقة المعاشة!
لم يكن سهلا أن أحيك قصصي باسلوب سلس وباختصار، فلكل قصة تفاصيل دقيقة ومملة…
لكنني بذلت كل جهدي واستخرجت عصارة نفسي في محاولة صادقة لأصل إلى عموم الناس في أرض يسعدني أن تكون
خصبة ومعطاءة!
……..
يقول شكسبير على لسان أحد أبطاله في مسرحيته :The Tempest
“Your tale, sir, would cure deafness”
(حكايتك، يا سيد، ستشفي كلّ أطرش)…..
نعم، كل حكاية صادقة ونابعة من أعماق القلب تحمل حكمة، وحكمتها كفيلة بأن تخترق الجدار المضاد للرصاص الذي يسدّ أحيانا منافذ الدخول إلى بعض العقول…
طبعا، لم يقصد شكسبير الأطرش حسب مفهومنا لكلمة أطرش، وهي عدم القدرة على السمع…
بل قصد الرجل الاسمنتي العقل….
هناك فرق بين السمع والإصغاء…
إن كنت قادرا على السمع، ليس شرطا أن تكون قادرا على الإصغاء…
ليس هذا وحسب، لكنَّ الحكمة من العبارة التي وردت على لسان أحد أبطال شكسبير هي أن القصة التي تحمل في طياتها بعض الحكمة ستكون كفيلة بأن تخترق العقول الاسمنتية!
لذلك، أصرّ، رغم أنني أعرف مدى عداء بعض العقول الاسمنتية لما أكتب، أصرّ على أن الحكمة التي تنطوي عليها قصص هذا الكتاب ستخترق بلا شك الجدار الاسمنتي لتلك العقول، اعترف اصحابها بالحقيقة أم لم يعترفوا!
........
دخل رجل ألماني إلى معبد في مرحلة البناء، فرأى نحاتا يصنع تمثالا لله…
لاحظ أن هناك تمثالا آخر ملقا على الأرض بجانبه..
سأله مدهوشا: هل ستصنع تمثالين متماثلين لله؟
رد النحات بدون أن يرفع نظره عن عمله: لا، ارتكبت خللا في التمثال الأول بعد أن أوشكت على الإنتهاء منه، فقررت أن أنحت واحدا آخر!
تفحص الرجل التمثال الملقى ولم يرَ فيه أي خلل، فتابع يقول: أين الخلل؟
رد النحات: هناك خدش صغير على أرنبة انفه!
سأل الرجل: أين ستضع التمثال؟
قال النحات: على قائمة علوها عشرون قدما!
هنا ظهرت علامات الدهشة على الرجل، فراح يسأل: طالما ستضعه على علو عشرين قدما، هل تعتقد بأن أحدا يستطيع أن يرى الخدش على أربنة انف ذلك التمثال الملقى على الأرض؟؟
فرد النحات: أنا من يستطيع أن يراه!
….
أنت تبدع لا لتنال رضى الآخرين بل لتعكس جمال روحك..
يجب أن تكون راضيا عن عملك، بغض النظر عن رضى الآخرين…
لا شك أن الغاية من كتابي هذا كانت تنويرية، لكنك لا تستطيع أن تنير أحدا إلا بالمصباح المضاء داخلك…
ورغم أنني أعتز بكل قارئ، لا تهمني ردود الأفعال السلبيّة، بقدر ماتهمني نقاوة الضوء الذي يشعّ من داخلي…
فبعض العقول قد أظلمت إلى حد لا يستطيع حتى ضوء الشمس أن ينيرها!
تلك العقول ـ وعلى حد قول علي بن أبي طالب ـ لو أسقيناها العسل المصفّى ستزداد بغضا لنا!
….
من أروع ما قرأت بخصوص هؤلاء الذي تطوف قلوبهم بغضا، ما قاله أحد المفكرين الأمريكان:
Someone who hates you normally hates you for one of three reasons. They either see you as a threat. They hate themselves.´-or-they want to be you
عندما يبغضك شخص ما، هو يبغضك لأحد ثلاثة أسباب:
ـ لأنه يشعر بأنك تهدد وجوده..
ـ أو لأنه يبغض نفسه…
ـ وإما لأنه يرغب في أعماقه أن يكون أنت….
وأنا أقول “هم يكرهونني للأسباب الثلاثة مجتمعة”!
لا علاج للبغض، ولن أضيّع لحظة في محاولة لعلاجهم لسببين لا ثالث لهما:
البغض يقتل صاحبه!
والإرتقاء فوق المبغضين يسمو بك فوق المعتاد ويرفعك إلى مستوى البطولة!