دليلك إلى حياة مقدّسة (الفصل السابع)


وفاء سلطان
الحوار المتمدن - العدد: 5447 - 2017 / 3 / 1 - 22:20
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي     

هناك مثل افريقي يقول: لو أن كل الناس مشوا باتجاه واحد سيختل توازن الأرض.
هذه هي الحقيقة المغيّبة عند معظم الناس، والحقيقة التي تجسّدها حديقتي!
تلك الحديقة التي تضم أكثر من مائة نوع من النباتات أزهارا وورودا وصباريّات من كافة الألوان والأشكال.
عندما بدأت بهندستها منذ حوالي ست سنوات، وكانت عندها مجرد جبل صخري، رحت أغوص في أعماق الكتب التي تختص
بعلم الحدائق كي أسرق منها بعض الأفكار.
لم أقتنع بأي منها…
يركّز علم الحدائق على الأرقام والأشكال الهندسية عندما يزرع، والطبيعة لها طريقة أبدع
وأجمل وأكثر عفوية..
كانت الفكرة العامة من تلك العلوم هي أن تبدو الحديقة متناظرة للعين، بمعنى أينما نظرت ترى
تقريبا الأزهار بألوانها وأشكالها تكرر نفسها بطريقة هندسية متواترة..
لم تدخل الفكرة في ذهني، فالتناظر غير موجود في الطبيعة، وكل شيء ينمو تلقائيا وعفويّا.
لذلك، بدأت أزرع وبطريقة عشوائية، كي لا يختل توزان الأرض!!!
اليوم أشعر وكأنني داخل أدغال مفرطة في عفويتها، ليس هذا وحسب، بل مفرطة في تناغمها…
………
لو سألتني: كيف السبيل إلى الحياة؟
لأجبت وبدون محض تفكير: لا تحمل السلّم بالعرض، بمعنى لا تمشِ في الحياة معارضا لدفقها العفوي، كي لا تصطدم بتيار معاكس.
أسمعك تصرخك في وجهي: فلان من الناس شرير وتريدينني أن لا أحمل سلّما في وجهه؟؟؟
ابتسم: الشر هو الدفق المعاكس للحياة، وليس دفقها الطبيعي!
لكن، عندما تجد نفسك بالصدفة المطلقة في المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ، لا تلعن تلك الصدفة، ولا تحمل سلما بالعرض،
هي ليست في الحقيقة صدفة بل دفقا عفويّا للحياة.
قد تحملك الحياة في دفقها إلى مكان لا تشعر فيه بالارتياح، عندها لا تفرد سلمك كي تحمله بالعرض، بل انهمر مع دفقها، وتأكد أن لك في هذا المكان درسا كي تتعلمه، وكذلك للطبيعة غاية كي تنجزها!
……….
فيكتوريا سيدة أفغانية تسحرني ابتسامتها وخضرة عينيها…
كلما سألتها عن سرّ فرحها الطفولي الدائم، تجيب: لأنني انثى!
كم من المرّات غصت عميقا في جوابها، وتعلمت منه أن لا أحكم بالمطلق على من يختلف عني، لأننا لو مشينا جميعا
في اتجاه واحد سيختل توزان الأرض، وسيكون لحديقتي زهر واحد بشكل واحد ولون واحد، وتصميم ممل للغاية يكرر
نفسه في كل زاوية منها…
فيكتوريا لم تولد أنثى، لكنها خضعت لثمانية عشر عملية جراحية حتى تحولت من رجل أفغاني ذي سحنة خشنة جبلية التضاريس اسمه “آشوك” إلى انثى تحمل رقة الفراشة اسمها “فيكتوريا”.
قبل أن تخضع لعملية استئصال “تفاحة آدم” من رقبتها وقّعت على وثيقة أنها توافق على اجراء العملية رغم أن هناك احتمال
أكثر من 80٪--- أنها ستموت.
قالت للجرّاح: هناك احتمال 20٪--- أن أعيش أنثى ولو ليوم واحد، هذا رائع ويدعو إلى التفائل!
….
عندما التقيتها كانت المرّة الأولى التي ألتقي فيها بمتحول جنسي.
دخلت تفاصيل حياتها كما يدخل جرّاح ماهر بمشرطه الالكتروني تجويف العين.
أذهلتني تلك التفاصيل…
قُتلا والدها معا في تفجير انتحاري في العاصمة كابول في أواسط الثمانينيات.
كانت (أو بالأحرى “كان” باعتبارها كانت ذكرا يومها) في التاسعة من عمرها، وكانت اختها في السادسة.
ساقوهما إلى بيت شيخ القرية المتكفّل بايواء الأيتام الذين لا أحد لهم.
فصله الشيخ عن اخته وضمه إلى معكسر للذكور ليتعلم فنون القتل والجهاد، بعد أن أقنعه بضرورة
أن يضم أخته إلى حريمه كي يحلل ويشرّع وجودها في بيته!
لقد شهد باذنيه صراخ أخته ذات الستة ربيعا، بينما يحاول الشيخ أن “يدخل” بها التزاما بسنة نبيّه!
لم يطل الأمر كثيرا حتى هرب باخته بعد أن أولع النار في بيت الشيخ.
انتهى الأمر بهما في معكسر للأطفال تابع للأمم المتحدة في مكان ما بين جبال افغانستان.
يعود آشوك ـ اسمه يومها ـ بذاكرته إلى الوراء وهو يروي لي تفاصيل قصته.
(كان والديّ يعتنقان الزرداشتية، وقد ورثاها سرّا عن أجداد أجداد أجدادهما، أذكر كيف كانا يُشعلان النار ويمارسان بعض
الطقوس وهما يدوران حولها، ولكنهما كانا في الخارج مسلمين بالمطلق!)
أسأله عن سرّ انوثته، فيردّ: لم أعرف نفسي إلاّ انثى منذ أول يوم وعيت فيه على الحياة، كنت في الرابعة عندما قرر والدي
ختاني التزاما بالتعاليم الاسلامية، أذكر ذلك اليوم ولا يمكن أن أنساه، شعرت بغبطة كبيرة، وسألت والدي مترجيّا: هل لك أن
تقطعه كله؟
يتابع آشوك (فيكتوريا): نظر والدي إلي نظرة غريبة جدا، وقال: ما بالك أن أقطع رأسك معه؟
ثم يعود إلى قصته في المعسكر التابع للأمم المتحدة…
كان هناك زوجان يترددان على المعسكر كمتبرعين للعناية بالأطفال، فاقترحا على آشوك واخته أن يتمّ تهريبهما من افغانستان إلى طاجيكستان، ومن ثم إلى بلد غربي ما!
في طريقهما اقترحت السيدة على آشوك، وكان يومها في الرابعة عشر من عمره، أن يلعب دور المرأة ويلبس برقعا افغانيا خوفا من أن يتم منعه من السفر كذكر يحتاج إليه المجاهدون الأفغان.
يصف آشوك “فيكتوريا” تلك التجربة بطريقة تجعلك تعيش اللحظة بعمقها وبكل جوارحك، يصف كيف لبس البرقع الذي منحه
لأول مرّة إحساسا بهويته الانثوية الحقيقية، وكيف رفض أن يخلعه عندما وصلوا إلى طاجيكستان، وتمسك به كما يتمسك
الغريق بمن يحاول انقاذه.
يرى علامات الدهشة على وجهي، فيتساءل: هل لك كأنثى أن تتخيلي لو استيقظت يوما ما ورأيت نفسك ذكرا، كيف ستشعرين؟؟
فأرد: لا أعتقد أنني سأتمكن من الاستمرار في الحياة!
تنبسط أسرار فيكتوريا، وتتابع: هكذا شعرت منذ أول يوم وعيت فيه على الحياة، فلقد ولدت أنثى في جسد ذكر، ماهو سرّ
الحياة؟
ثم تشرح فيكتوريا العملية الجراحية التي استبدلت عضوها الذكري بمهبل انثوي ـ وبكثير من التفصيل ـ
وكيف استردت روحها ـ على حدّ تعبيرها ـ في ذلك اليوم.
….
مضى على وجود فيكتوريا في حياتي عام ونيّف، وبامكاني أن أقول لم أصادف في حياتي سيدة بهذا الجمال
الآخّاذ قلبا وقالبا.
قصة فيكتوريا علمتني الكثير.
ليس هذا وحسب، بل شكّلت نقطة انعطاف في حياتي.
ساعدتني على أن أتصالح مع أشخاص كنت أظن أن الشياطين لا تقبلهم، ومن حينها وكلما التقيت بـ “شيطان” ـ أو
هكذا يتخيل لي ـ أتساءل: من أنا كي أحكم عليه؟
لا أعيش مشاعره، ولا أعرف مايدور بذهنه، ولا أَلمّ بقصته من ألفها إلى يائها، فكيف لي أن أقيّمه أو أحكم عليه؟؟
….
كنت حتى تاريخ معرفتي بفكتوريا، لو قُدّر لي وصادفت رجلا يتقمص شخصيّة انثى أو العكس لصحت ملىء رئتي “انظروا
إلى هذا المجنون”،
هذا وأنا الطبيبة التي أعرف أن للطبيعة في خلقها شؤون، فما بالك بغيري؟
لكن، ساعدتني فيكتوريا أن أغوص في عمق بعض اللحظات التي عاشتها كأنثى في جسد رجل، فتفهّمت أنه
لا يحقّ لأحد أن يصدر حكما ضد أحد حتى يعيش داخل جلده ويمشي في حذائه.
كيف أستطيع أن أحكم على فيكتوريا بالجنون وهي تشعر منذ أن بدأت تحسّ بوجودها أنها انثى؟؟
كيف أستطيع أن أحكم عليها بالجنون وقد وافقت أن تتعرض لمخاطر 18 عملية جراحية صغيرة وكبيرة، لو تعرض
لها فيل يزن طنا لمات؟؟
هي اليوم تتعاطى الهرمونات الانثوية وتعرف أنها لن تعيش طويلا بسبب مضاعفاتها، لكن لا يهمها طالما تعيش الانثى
وتملك دماغ ومشاعر الانثى.
من أنا كي أنفي حقها في أن تعيش مشاعرها وهويتها الجنسية؟؟
من أنا كي أشكّك في صحة تلك المشاعر؟؟
ومن أنت؟
لا تحمل السلّم بالعرض، وانهمر مع دفق الحياة، وليست فيكتوريا إلا جزءا من هذا الدفق!
…….
تزامنت معرفتي بفيكتوريا مع قراءتي لكتاب بعنوان Other Lives, Other Selves
للمختص في علم النفس، وتحديدا التحليل النفسي، العالم الأمريكي Roger J. Woolger
الكتاب يدور عن تجارب ذلك المعالج النفسي مع بعض مرضاه الذين استطاع أن يعود بهم إلى حيوات (جمع حياة) سابقة عاشوها،
ويشرح بكثير من التفصيل الممتع كيف تراكمت مشاعر تلك الحيوات حتى تجسّدت في شخص المريض في هذه الحياة.
بمعنى آخر، يحاول المعالج أن يشرح أن بعض المشاعر والحالات المرضيّة هي نتيجة حتمية لتجارب عاشها المريض في حياة
سابقة، ولقد استطاع أن يعالج حالات بدت عصيّة على العلاج من خلال العودة بأصحابها إلى حياة سابقة.
يؤكد الدكتور وولجر، في أكثر من مكان في الكتاب، أنه لا يحاول أن يقنعك بأن تؤمن بالتقمّص، فالأمر أقل ما يعينه، ولكن
يحاول أن يشرح تجاربه وما يؤمن هو به.
ويصرّ على أن مخزون اللاوعي عند الإنسان، أي انسان، لا يمكن أن يكون قد تشكل في حياته الحالية، فهو أكبر حجما بكثير
من تجارب الشخص التي عاشها في تلك الحياة حتى الآن.
ويطرح ثلاثة تفاسير لتلك الظاهرة:
التفسير الأول: إن المخزون قد تراكم ليس فقط من التجارب، وإنما من القصص التي سمعها الشخص وقرأها خلال حياته،
وقصصا أخرى لفقتها الذاكرة المعطوبة، والتي لا تستطيع أن تسجّل دقائق الأمور. وهنا يطرح مثالا: لو كنت تروي فيلما
لشخص آخر، هل سترويه بحذافيره تماما، أم سترويه وفقا لما تبقى في ذاكرتك منه، ووفقا لما لفّقت تلك الذاكرة من تفاصيل؟
التفسير الثاني: الكون يملك ذاكرة أو حيز لـ “اللاوعي” أيضا ويطلق عليه Universal Subcouncious، وحيّز اللاوعي
عند كل انسان موصول بشكل أو بآخر بهذا الحيّز، ومنه يستمد الكثير.
التفسير الثالث: وهو أن الروح لا تموت بل تنتقل من جسد إلى آخر، وفي كل حياة تدفع ضريبة الأفعال التي قامت بها في الحياة السابقة.
يتأرجح العالم وولجر بين التفسيرين الثالث والثاني، ولكنني أجده أكثر تمسكا بالتفسير الثالث!
طبعا، لا أستطيع أن أختصر الكتاب في صفحة واحدة، فهو كتاب صعب جدا وتفصيلي جدا، ولا يستطيع
أن يستوعبه إلا على الأغلب شخص من خلفية علمية تتعلق بالموضوع.
لست هنا لاروّج لما جاء في الكتاب، فالأمر أقل ما يعنيني ولكن تعلمت منه شيئا واحدا، ألا وهو أن الإنسان أعقد مافي الكون،
ومن المستحيل أن نصل إلى يوم نستطيع أن نفهم فيه كل ما يخصّ تكوينه وطريقة تفكيره وسلوكياته.
لذلك، وباختصار شديدا جدا، ليس من حقنا أن نقيّم أي انسان، ناهيك على أن نتعامل معه بناءا على تقييمنا له.
هذه القناعة التي خرجت بها ساعدتني جدا على استيعاب قصة “آشوك” وساعدتني على أن أرى فيه فيكتوريا،
وأتعامل معها كانثى كما تريدني أن أتعامل معها.
هذا الكتاب ساعدني على أن أرى في الحياة أطيافا اخرى بين الأبيض والأسود. إذ لا يوجد شخص شرير بالمطلق
ولا آخر خيّر بالمطلق!
وساعدني على أن أجد تبريرا لكل تصرف سيء يصدر بحقي من شخص آخر، بدلا من أحاول رد الصاع صاعين!
أهمس لنفسي: من يدري قد يكون هذا الشخص مستاءا مني في حياة سابقة، ولم يستطع في هذه الحياة
أن يتجاوز اساءتي!
لا اؤمن بالتقمص كما اؤمن بجدول الضرب، فأنا أرفض أن أجدول الحياة وأن أعطيها صيغة ثابتة كما فعلت كل الأديان.
لكنني اؤمن به كاحتمال وارد، وكل ماهو وارد يجب أن نتعامل معه على هذا الأساس!
….
الحياة معقدة إلى حد تجعل امتلاك الحقيقة أمرا مستحيلا.
نملك حقائق (Facts) لكن لا أحد فينا يملك الحقيقة الكليّة والمطلقة (The Truth)
2+2=4 تلك حقيقة، ولكنها ليست الحقيقة المطلقة!
وطالما كانت الحقيقة المطلقة عصيّة على الفهم والامتلاك يصبح كل حكم تصدره بحق الآخر مجرد رأي شخصي لا يلم
بالقصة من كل جوانبها.
طالما استطعت أن أتجاوز برمجتي الفكريّة وأقبل فيكتوريا في حياتي كبنت من بناتي لاشك
أنني استطيع أن أتجاوز شيطنة ابليس وأجد له مبررا، كي أقبله هو الآخر جزءا من الحياة،
وهكذا يجب أن تكون أنت!
……
تستطيع أن تسبر كل شيء، أي شيء، مستخدما مجهرك ومساطرك وخرائطك ومشرطك وعمليات الحساب وجدول اللوغاريتم
وكسور الجبر وقوانين الفضاء والفيزياء والكيمياء والفيزيولوجيا.
تستطيع أن تفعل ذلك وتصل إلى قناعة مبرهنة ومجدولة!
إلاّ أغوار النفس البشرية….
إلاّ أغوار النفس البشرية…
فهي عصيّة على المجهر الالكتروني وكل قوانين الأرض…
إذ كلما قادتك علومك لتضيء دهليزا من دهاليزها يقودك الباب الخلفي لذلك الدهليز إلى دهليز آخر أشد غموضا وعتمة.
تكتشف عندها أنك أكثر جهلا بها وأشد حيرة أمام تعقيدها.
وأمام جهلك وحيرتك لا تملك الحق أن تصدر حكما!
………
يجرفني الدفق العفوي لعبارتي السابقة (لا تملك الحق أن تصدر حكما)، يجرفني أكثر من ثلاثين عاما إلى الوراء.
كانت عيادتي تطل على ساحة الشيخ ضاهر وسط مدينة اللاذقية، تلك الساحة التي تعج بالناس، يأتون إليها كل صباح
من كل فج بعيد وقريب.
ذات صباح رحت أراقب من نافذة مكتبي مشنقة نُصبت في وسطها، وعُلق عليها مجرم قطع يدي امرأة وسرق أساورها
الذهبية.
على الفور كتبت على قصاصة ورقية مرميًّة على طاولة مكتبي عبارة، مازالت محفورة في تلافيف دماغي مع لون حبرها
وشكل القصاصة:
(هذاالمجرم المعلق على حبل المشنقة هل يداه أوسخ من ذاك الذي يرفع الآذان من على منبر الجامع المقابل للساحة (جامع العجّان)؟؟
من يدري؟
القاضي الذي أصدر الحكم قرأ السطور، لأنه لا يجيد قراءة مابينها، ولو أجاد هذا الفن لربما كانت المشانق أكثر من عواميد
الكهرباء)
كنت يومها غضّة وأقل علما وتجربة، ولا أدري من كتب تلك العبارة حينها..
ربما هوسي بسبر أغوار النفس متأصل في اللاوعي التراكمي عندي، من يدري؟
هذه العبارة التي كتبتها قبل ثلاثين عاما تجسّد القناعة التي توصلت إليها من خلال قراءتي لكتاب العالم والمعالج
النفسي الدكتور روجر وولجير.
لم أكن أقصد من تعبيري “مابين السطور” إلا اللاوعي التراكمي عند كل منا.
فنحن على ما يبدو لسنا ثمار تجاربنا في تلك الحياة القصيرة جدا، ولكننا ثمار تجارب ضاربة في عمق التاريخ.
فسواء كنت في عشرينياتك أو في آواخر تسعينياتك ليس كلا العمرين كافيا لأن يترك تلك البصمات المحفورة
بعمق على جدارن وعيك وشخصتك!
ناهيك عن الكثير من التقارير الموثقة لأطفال ولدوا يتقنون مواهب ابداعية للغاية، ولبعضهم الآخر الذي ولد يتقن لغات لم يسمعها
من قبل.
كما هو الدكتور وولجير، لست هنا لأقنع قارئي بعقيدة التقمص، فالأمر لا يعنيني، ولكنني أحاول أن أبلور قناعة وهي أنه ليس
من السهل أن تستوعب سلوكيات البشر، وطالما لا تستوعبها لا يحق لك أن تصدر حكما عليها!

لم يكن سهلا على الإنسان أن يسبر أغوار الكون وأسراره، ويصل إلى
قناعات ومعادلات ونظريات ساهمت لاحقا في تحسين حياته.
لكن لم يكن الطريق إلى حقل من حقول العلم أصعب مما كان الطريق إلى مكامن النفس البشرية
وسبر أغوارها وأسرارها!
هو لا شك الأصعب لأن النفس البشرية عصيّة على الفهم المطلق!
لقد استطاع الإنسان أن يرصد أبعد الكواكب والنجوم ويعدّها، لكنه لم يزل قاصرا على أن يرصد
عمق أعماقه ويتعرف على مكنوناته!
هذا القصور يتجلى في عجزنا عن فهمنا ـ وبالتالي رفضنا ـ لبعضنا البعض، مع العلم هو وحده ما يجب أن يوحدنا!
فطالما لانستطيع أن نفهم سلوك الآخر ولا نستطيع أن نسبر أغواره، لماذا نحكم عليه؟ ولماذا نأخذ موقفا منه؟
لا يتعارض هذا القول مع حق الإنسان في أن يحارب الشر،
ولكن في سياق حربه تلك يجب أن يقتنع بأنه لا يوجد شرير، بل يوجد انسان اُصيب بالشر،
ومهمة تلك الحرب يجب أن تكون تحرير هذا الإنسان من براثن شره!
……..
الحياة معقدة جدا ووجودك فيها أكثرها تعقيدا....
لكي تعيشها، أو بالأحرى لكي تحياها، يجب أولا أن تقبل طبيعتها المعقدة،
هذا القبول هو بحدّ ذاته الشكل المبسط لها..
عليك أن تسترخي وسط صخبها، وتهدأ داخل هديرها، وتعيش اللحظة بعمقها حتى وأن تمرّ من فوهة بركانها…
قبل أن أصل إلى قناعتي تلك بعقود قرأت عبارة للفرزدق يعبّر من خلالها عن اعجابه ببيت من الشعر
لمنافسه جرير. تقول العبارة: (لو سمعت هذا البيت من الشعر وأنا أقع في بئر لحفظته!)
سحرتني يومها، واليوم أستطيع أن أستشف منها فلسفة كونية جميلة للغاية..
ليست الحياة في معظم لحظاتها إلا وتشعر عندها أنك تقع في بئر، ولكي تحياها عليك أن تكون
يقظا وفطنا لتستمتع ببيت من الشعر، حتى لو كان قائله خصمك!
ليس سهلا أن تستمع بابداع خصمك، ناهيك أن تستمع به وأنت تقع من فوهة البئر وقبل أن ترتطم
بقاعه!
تلك هي الحياة وفلسفتها تقتضي أن تعيشها يقظا وقادرا على أن تتجاوز آلامها إلى كلّ ماهو جميل فيها!
………
الشاعر البريطاني الرومانسي John Ceats، يقول:
The life of man, if properly understood, is a continual allegory
(حياة الإنسان، هذا إذا فُهمت بطريقة صحيحة، ليست إلا لغزا روحانيا مستمرا)
ورغم آلاف النظريات والدراسات والاحتمالات التي طُرحت لشرح تلك الحياة،
مازالت لغزا روحانيا مستمرا، وستبقى!
*******************************
للموضوع صلة!
أعزائي القراء: ستتحول قصة فيكتوريا قريبا جدا إلى كتاب وفيلم هولييودي وفيلم وثائقي!