على ضوء الأحداث ..! (1)


وفاء سلطان
الحوار المتمدن - العدد: 3368 - 2011 / 5 / 17 - 22:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

‎هناك طرفة طالما رددها السوريون، وهي ذات دلالات سلوكية ونفسية رهيبة، تروي أن
‎شاويا ‫( والشاوي في اللغة المحلية لأهل شرق سوريا تعني البدوي، وجمعها شوايا‫) نزل إلى المدينة فرأى مظاهرة بمناسبة أحد الأعياد الوطنية (وما أكثرها في سوريا، نخرج من عيد لندخل في آخر) تهتف: "فليسقط وعد بلفور….فليسقط ‬وعد بلفور‫".‬
‎كان المسكين أُميا، ولم يسمع في حياته مصطلح ‫"‬وعد بلفور‫"‬، ولكن لدعته حرارة الموقف فهاج وثار معهم، وراح يهتف محاولا أن يستخدم نفس النغمة‫:‬ ‫"‬فليسقط واحد من فوق‫….‬فليسقط واحد من فوق‫".‬
‫…………….‬
‎يُحكى عن العالم الروسي بافلوف المختص في الفيزيولوجيا، أنه كان ينتظر مساعده في المخبر على أحر من الجمر، لأنه تأخر عن موعده بضعة ساعات‫.‬
‎ولما فتح له الباب وسأله عن سر تأخره، رد المساعد‫:‬ كنت منهمكا أهتف مع الثوار ضد القياصرة‫!‬
‎فرد بافلوف بقوله‫:‬ يا بني‫،‬ الحقائق العلمية لا تنتظر الثورة، أرجوك في المرة القادمة أن تنهي عملك قبل أن تلتحق بالثورة‫!‬
‫……………‬
‎في أوائل القرن العشرين، ألف عالم النفس النمساوي فرويد كتابا بعنوان‫:‬
Psychopathology of Everyday Life
‎‫(‬الإمراضية النفسية في الحياة اليومية‫)‬
‎ أشار فيه على أن الإنسان لا يحتاج إلى زيارة مشفى الأمراض النفسية والعقلية لكي يتعرف على الظواهر السلوكية والنفسية المرضية، إذ بامكانه أن يراها وبغزارة من خلال مجريات الحياة اليومية‫.‬
‎كما وشرح بالتفصيل الدوافع الخفية التي تستقر في اللاوعي عند الإنسان محجوبة بجدران سميكة عن حيز وعيه، والتي تمنعه من أن يتخذ الخيارات والقرارات الصائبة التي تساهم في نمو وتطوير شخصيته، وبالتالي تحسين واقعه‫. ‬
‎ليس هذا وحسب، بل تقوده تلك الدوافع الخفية إلى زلات لسان، وتجبره على أن يتناسى وقائعا يتألم عندما يتذكرها، وعلى أن يخفي مشاعره الخطيرة ويتظاهر بامتلاكه لمشاعر أكثر قبولا.
‎وضع فرويد قاموسا جديدا، ساعدنا من خلاله أن نقرأ الواقع سايكولوجيا، أي على ضوء الحقائق العلمية المتعلقة بسلوك ونفسية الناس المحيطين بنا‫.‬
‎ساعدنا على أن ندرك الدوافع الخفية لتلك السلوكيات والمواقف النفسية، وبالتالي على أن نتفاعل معها بطريقة صحيحة وخالية ـ قدر الإمكان ـ من الإنحياز‫.‬
‎يقول عالم النفس الأمريكي جيمس هولليز، في كتابه ‫"‬كيف تستطيع أخيرا وحقيقة أن تنمو‫!" ( بناءا ‬على ضوء ما تركه فرويد‫):‬
‎‫"‬في هذا القرن نحتاج إلى أن نقرأ الواقع سايكولوجيا، لأن المؤسسات الإجتماعية والدينية وحتى العلمية والفنية والتكنولوجية وكل الإنجازات البشرية، فشلت حتى تاريخ تلك اللحظة في وقف عمليات القتل والذبح التي أثارها جنون القرن المنصرم‫"‬
‎عالم النفس السويسري كارل يانغ، والمشهور جدا في التحليل النفسي، طالب هو الآخر بضرورة قراءة الواقع نفسيا، مصرا على أن العلاقة الروحانية العفوية التي ربطت الإنسان البدائي بالطبيعة، كانت قد شوهت لاحقا بالميثولوجيا والإيدلوجيات التي فرضتها قوة القبيلة‫ وطبيعة مصالحها.‬
‎انطلاقا من تلك الحقيقة، يدعو يانغ إلى الغوص عميقا في أعماق النفس للتعرف من جديد على تلك العلاقة ومحاولة إنعاشها‫.‬
‎في حقيقة الأمر لا يسيطر الوعي إلا على جزء ضئيل، وضئيل جدا من تصرفاتنا، إذ تخضع معظم تلك التصرفات لسيطرة اللاوعي‫!‬
‎وعند أية محاولة لفهم تلك السلوكيات والتصرفات يجب أن نكسر تلك القشرة السميكة التي تغلف الوعي، ونغوص في أعماق اللاوعي‫.‬
‫…………..‬
‎اليوم، ومنذ أن اندلعت أول زوبعة من تلك الزوابع التي تجتاح العالم العربي، وجدت نفسي كالشاوي الذي لم يفهم ما كان يقال، مع فرق واحد هو أنني لم أسمح لحرارة الموقف أن تهيجني وتجبرني على أن أردد مالا أفهم‫.‬
‎آثرت أن أبحث في قاموس فرويد وهولليز وهانغ، لأجد، ليس فقط اللغة المناسبة، وإنما الدوافع النفسية الخفية التي ستساعدني على فهم وشرح تلك الظواهر، ومن ثم التفاعل معها بناء على ذلك الفهم‫.‬
‎الأسئلة التي وجدت نفسي أواجهها ـ وبالتأكيد، أن من بقي محتفظا بعقله من هذه الأ‫مة المنكوبة عقليا ونفسيا، قد واجه أغلبها إن لم يكن كلها ـ هي أسئلة كثيرة وقد لا نستطيع الإجابة عليها. ‬
‎مواجهة تلك الأسئلة يتطلب جهدا وصبرا وصرامة أمام قطيع مغيب الوعي، لا يعرف إلا أن ينطح من يقف في وجهه، وهو في طريقه إلى مذبحه‫!‬
‎منها على سبيل المثال لا الحصر، لماذا اشتعلت اليوم ولم تشتعل من قبل، علما بأن هذا الواقع المآساوي مستمر منذ عقود، وليس هو اليوم اسوأ من البارحة‫؟‬
‎لماذا بدأت في تونس وانتهت بسوريا ولم تمر على السعودية؟ لماذا اُجهضت في بعض الأقطار، ولم تسفر عن وضع أفضل حيث ‫(‬يُفترض أنها‫)‬ نجحت؟
‎هل هناك أصابع أو عوامل أو ظروف خارجية ورائها؟
‎هل تختلف من قطر إلى آخر، أم أن هناك قواسم مشتركة بينها كلها؟ هل تختلف عن الحركات الجماهيرية التي اندلعت في القرن القرن الثامن عشر والعشرين من حيث الأسباب والنتائج؟
‎هذا الهيجان الجماهيري له أسبابه التي يحددها الوعي، وأسبابه التي يفرضها حيز اللاوعي‫.‬
‎رأيت أن أبحث في تلك الأسباب، ليقيني المطلق من أن الحقائق العلمية تأتي أسرع بكثير من نتائج أية حركة جماهيرية، ولخوفي من أن أكون ذلك ‫"‬الشاوي‫"‬ الذي يكرر نغمة الآخرين دون أن يعي ما يقال وما يقول‫!‬
‫………………‬
‎الإعتقاد السائد، أن المشاركين بتلك الحركات هم من طبقة الناس المُحبَطين‫، الذين لم يعد أمامهم أي أمل في وضع أفضل.‬
‎والإحباط إذا أخذناه بمعناه السيكولوجي الحرفي، لا يمكن أن يكون سمة لهؤلاء الثائرين، بل على العكس تماما هم طبقة خرجت حديثا من دائرة إحباطها، واكتسبت قوة جديدة نفخت فيها روح التمرد.
‎الإحباط ـ سيكولوجيا ـ يعني حالة من اليأس تجمد صاحبها وتمنعه من القيام بأي حركة بغية تحسين وضعه.
‎والشخص الذي يعيش تلك الحالة هو شخص ميت حسيا وعقليا وفيزيائيا، ولا يمكن أن يتخذ أي قرار بخصوص وضعه، مالم يخرج من تلك الحالة أولا.
‎لذلك، ومن المفارقات المؤلمة، عندما يتم علاج المصاب بالكآبة (والإحباط أحد وأهم أعراضها) تزداد نسبة الإنتحار في المرحلة الأولى بعد العلاج.
‎لماذا؟
‎لأن المصاب بالكآبة قد تحررـ نتيجة العلاج ـ من بعض إحباطه واكتسب قوة جسدية وبعض الصفاء الذهني ـ إن صح التعبير ـ الأمر الذي يساعده على أن يتخذ قرار الإنتحار وينفذه‫.‬
‎لذلك يجب مراقبة المريض مراقبة صارمة في المرحلة الأولى من العلاج، وحتى تكتمل خطة العلاج ويسترد المريض عافيته كليا.
‎هؤلاء الثائرون ليسوا مُحبطين في الوقت الحاضر، بل هم خرجوا ـ ولوا جزيئا ـ من حالة الإحباط التي عاشوها لسنين طويلة.
‎أما من بقي منهم محبطا، فليس له دور إطلاقا في تلك الحركات، ولا يمكن أن تجد له أثرا.
‎هل تتوقع أن الطبقة الدنيا من الشعب المصري التي تعيش في المقابر أو ما شابه ذلك قد خرجت في الحركات الجماهيرية التي اجتاحت مصر، أو كان لها أي تواجد في ساحة التحرير؟!!
‎بالطبع لا!
‎لماذا؟
‎لأن هذه الطبقة قد ورثت الإحباط جيلا عن جيل وتمرست فيه، ومع الزمن تكلست، وتشكل جدار وهمي، لكنه قوي وسميك، بينها وبين بقية طبقات المجتمع.
‎ليس هذا وحسب، بل هناك عاملان نفسيان آخران لعبا دورا كبيرا في عزلة تلك الطبقة عن الطبقات الأخرى في كل مرافق الحياة، الأمر الذي رسخ إحباطها وعزز قبولها لهذا الإحباط:
‎العامل الأول: هو حالة المساواة التي تعيشها تلك الطبقة بين أفرادها، فالكل محبط، ولا أحد أفضل من أحد، الأمر الذي يعطيهم إحساسا بالعدل والمساواة ويقلل من إحتمال تمردهم.
‎العامل الثاني: العلاقة الإنسانية الدافئة التي تربط أفراد هذه الطبقة ببعضهم البعض، وهي ردة فعل تفرضها غريزة البقاء، فإحساسهم باحتمال فنائهم يدفعهم إلى أن يساعدوا بعضها البعض ويخففوا من حدة إحباطهم، الأمر الذي يعزز قبولهم لذلك الإحباط، وبالتالي يقلل من إحتمال تمردهم.
‎هنا بودي أن أضرب مثلا للإحباط ، بمفهومه السيكولوجي الدقيق، بغية توضيح الفكرة للقارئ:
‎قام عالم نفس بحبس كلب في غرفة لها باب واحد. عرض الكلب للصدمة الكهربائية، فقفز الكلب من شدة الألم وركض باتجاه الباب فوجده مغلقا.
‎كرر العالم التجربة حتى اُصيب الكلب بحالة من الإحباط يطلق عليها
Hopelessness
‎أي ‫(‬فقدان الأمل‫)‬، توقف عندها عن الركض باتجاه الباب، لأنه تشكلت لديه قناعة من أن الباب مغلق ولا أمل في الهروب.
‎عند تلك النقطة، فتح العالم الباب للكلب وراح يعرضه للصدمة الكهربائية من جديد، دون فائدة، إذ ظل الكلب في مكانه محبطا ومتسمرا دون حراك!
‎الطبقة الإجتماعية المصابة بتلك الحالة، والموجودة في معظم بلداننا العربية، قد فقدت الأمل في الهروب من واقعها المؤلم، ولم تجر أية محاولة من قبل السلطات الحاكمة لتغيير وضعها، فلماذا نتوقع بأنها ساهمت في تلك الحركات الجماهيرية؟!!
‎في اللاوعي عند تلك الطبقة المحبطة ظل الباب موصدا، رغم المؤشرات التي تدل على أنه مفتوحا‫.‬
‎لذلك، ورغم الألم الذي تعانيه من جراء ‫"‬الصدمات الكهربائية‫"‬ التي تتعرض لها في حياتها، فقدت القدرة على أن تهرب من ذلك الواقع‫.‬
‫………..‬
‎إذن يطرح سؤال نفسه: من هم هؤلاء المتمردين؟
‎هم طبقة دخلت حالة من الإحباط حديثة نسبيا، أي أنها لم تتوارثه لعدة أجيال، وظلت مرحلة ما قبل الإحباط ـ والتي عاشتها هي نفسها أو عاشها أباؤوها ـ حية في ذاكرتها وتدغدغ بين الحين والآخر مشاعر الحنين إليها.
‎ليس هذا وحسب، بل واستجدت الآن بعض الظروف التي سمحت لتلك الطبقة من أن تتحرر جزيئا من إحباطها، الأمر الذي ساعدها على أن تستعيد جزءا من عافيتها العقلية، وربما الفيزيائية، ذلك الجزء الذي هيأها بدوره لأن تتمرد!
‎يواجهنا هنا سؤال: ماهو الظرف الذي استجد الآن، وساهم في تحرير تلك الطبقة جزئيا من إحباطها؟
‎إنه بلا شك عصر الإنترنت‫!!‬
‎الطريقة المثلى للتخفيف من حدة الإحباط هو تفريغ الشحن السلبية المحتقنة داخل النفس البشرية.
‎وجدت تلك الطبقة، والتي هي في الأصل طبقة لا بأس بوضعها وحديثة العهد في إحباطها، وجدت في الإنترنت مخرجا لتلك الشحن المحتقنة، الأمر الذي خفف من حدة إحباطها، وحقنها بجرعة أمل هيأتها لأن تتمرد.
‎ليس هذا وحسب، بل أيضا اطلعت على واقع الناس في البلدان التي تحترم إنسانيتهم، الأمر الذي زاد من حنينها إلى ماض قريب عاشته هي، أو عاشه آباؤوها.
‎تلك الحقيقة كانت واضحة وجلية لدى المصريين الذين تجمهروا في ساحة التحرير بالقاهرة، نظرة بسيطة على هؤلاء الشباب، وماذا كانوا يلبسون، وكيف كانوا يتواصلون بتلفوناتهم النقالة ومن خلال الإنترنت، يؤكد على أنهم من طبقة حديثة الإحباط، وتحررت لتوها من جزء من هذا الإحباط.
‎نستطيع أن نضرب مثلا من التاريخ على تلك الظاهرة، الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، إذ كان الفلاحون الفرنسيون أكثر تقبلا واندماجا فيها من الفلاحين في ألمانيا والنمسا، والسبب يعود إلى أنه وعند قيام تلك الثورة، كان الفلاحون الفرنسيون يمتلكون بعض الأراضي ويستمتعون ببعض الحريات‫.‬
‎كذلك، عندما يتعلق الأمر بالثورة الروسية، أو ما يسمى بالبلشفية، فلقد قامت واندمج بها الفلاحون بعد امتلاكهم لبعض الأراضي ولجيل أو جيلين‫.‬

‎الأمر الذي أكده الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ في آخر خطاب له، والذي حاول من خلاله تهدأة الوضع‫، بقوله: لقد منحنا الكثير من الحريات، ومنحنا لها هو الذي شجعهم على التمرد!‬.
‎تلك حقيقة لم يعشها الشعب السوري، فهو لم يلحس بعد طعم الحرية التي سبق ولحسها الشعب المصري، وكان ذلك واضحا في الصحافة المصرية في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، فالشعب السوري مازال يُحكم بقبضة حديدية لا تترك مجالا لأحد أن يتنفس.
‎حاول الأسد الابن في بداياته أن يعطي لحسة حرية للشعب، لكنه حس بخطورتها فعاد وشفطها إلى آخر نقطة!
‎هذا الأمر، قد لا يشجع الأغلبية العظمى من الناس للإنخراط في الحركة الجماهرية التي بدأت في سوريا، وهذه النقطة بالذات ليست لصالح الحركة في سوريا.
‎ولكن بالمقابل هناك ميزة لصالح الحركة في سوريا، ولم تكن يوما لصالح الحركة في مصر ألا وهي غياب الطبقة الإجتماعية الدنيا والمتكلسة داخل إحباطها من المجتمع السوري. فأفقر طبقة فيه كانت عبر التاريخ السوري طبقة الفلاحين، ولم تصل يوما في إحباطها إلى الحد التي وصلت إليه الطبقة الإجتماعية الدنيا في مصر
‫……….‬
‎هنا يطرح سؤال آخر نفسه:
‎لماذا يزداد احتمال اندلاع الحركات الجماهيرية بعد أن تنال الطبقة المحبطة بعض الحريات؟ ألا يُفترض أن تقتنع بتلك الحريات مقارنة بوضعها السابق؟‫!!‬
‎ماهي الدوافع النفسية التي تدفع المحبط للإنضمام إلى الحركة الجماهيرية بعد أن يلحس طعم الحرية؟!!
‎الجواب ‫(‬ بناءا على ما يخفيه اللاوعي‫)‬: كي يتحرر من حريته‫!!‬
‎الحرية حتى في أبسط أشكالها تواجه المُحبط بمسؤوليات جديدة لم يعتد على تحملها.
‎بقدر ما يسبب القمع إحباطا، تسبب الحرية ـ وخصوصا في بداياتها ـ إحباطا!
‎كما تزيد الحرية من فرص النجاح، كذلك تزيد من فرص الفشل.
‎الحرية تضع الشخص أمام خيارات جديدة، خيارات ليس معتادا على مواجهتها، الأمر الذي يشعره بمسؤوليته الشخصية حيال وضعه، بعد أن كان يحمل السلطات القائمة مسؤولية هذا الوضع!
‎مالم يملك الإنسان المواهب والإمكانيات التي تساعده على أن يخلق من نفسه الشخص الذي يريد أن يكون تصبح الحرية وبالا عليه، لأنها تعطيه نفس الفرصة التي تعطيها لغيره، وماذا يفعل بهذه الفرصة مالم يملك المواهب التي تساعده على الإستفادة منها؟ أي أن الحرية في تلك الحالة تعمق الفرق في الإنجازات بينه وبين غيره الأمر الذي يزيد من ضغوطه ويعمق إحساسه بفشله وبعجزه‫.‬
‎لا أعتقد بأن مستوى الحرية التي أعطاها النظام المصري لمواطنيه في السنوات القليلة الأخيرة قد وصل ذلك الحد الذي يمكن أن نشاهد عنده هذا التأثير، لكن من يدري؟
‎ربما، قد شعرت الأغلبية من الشباب العاطل عن العمل بفشلهم أمام بعض الإعلامين المصريين الذي طفوا على الساحة، وراحوا يحققون نجاها باهرا في تواجدهم الإعلامي وقدرتهم على التعبير بحرية ـ إلى حد ماـ‫!‬
‎وربما إحساسهم بذلك الفشل أمام الحرية المتاحة لهم ـ حتى في أبسط أشكالها ـ قد لعب دورا خفيا في تمردهم‫!‬
‎الأمر الذي يرجح هذا الإحتمال أو بعضا منه، هو أن ماضيهم القريب يشبه كثيرا حاضرهم ولم يستجد الكثير، فلماذا ثاروا اليوم ولم يثوروا منذ عشر سنوات على سبيل المثال؟‫!!‬
‎عندما ينخرط الشخص في الحركة الجماهيرية يخسر فرديته ويذوب في الحشد، الأمر الذي يحرره إلى حد ما من حريته الشخصية، و بالتالي من مسؤولياته الشخصية، ويخفف من حدة إحساسه بالذنب حيال وضعه الذي لم يكتمل بعد.
‎هناك قول مشهور لأحد رجال هتلر ، جاء فيه‫:‬ لقد التحقنا بالنازية لكي نتحرر من حريتنا‫!‬
‎ولذلك امتنع معظم الضباط في جيش هتلر عن الإعتراف بجرائهم، بحجة أنهم كانوا يتلقون أوامرا من القيادة وينفذونها، ألم يحررهم انخراطهم في الحركة النازية من مسؤولياتهم الشخصية؟‫!!!‬
‎لم يكونوا أحرارا، بل كانوا عبيدا لقادتهم، وطاعتهم العمياء لتلك القادة حررتهم إلى حد ما من مسؤوليتهم تجاه الوضع الإقتصادي والمعيشي التي كانت تعاني منه ألمانيا في ذلك الوقت‫.‬
‫…………………‬
‎طبعا، المراقب العادي لمجريات الأحداث يظن أن هذا الهيجان الجماهيري ماهو إلا تعبير عن رفض تلك الجماهير للقمع الممارس عليها والذي طال أمده، ومطالبة بالحريات المستحقة منذ أمد طويل‫.‬
‎قد يكون في الأ‫مر بعض الصحة، لكنني لا أستطيع هنا أن أميز بين شكل وآخر من أشكال الحرية، فالحرية ـ مهما تعددت أشكالهاـ تبقى واحدة ولا يمكن الفصل بين أشكالها.‬
‎كيف تطالب تلك الحركات بالحريات السياسية، ولا تطالب في الوقت نفسه بحرية الإعتقاد وحرية التعبير؟!!
‎هل يعقل بأن ذلك الشاب الذي خرج لتوه من صلاة الجمعة وراح يهتف "الله أكبر" هو في حقيقة الأمر يطالب بالحرية كحق شخصي، وبغض النظر عن شكل تلك الحرية؟!!!
‎إن كان الأمر كذلك، لماذا لم نر عبر التاريخ الإسلامي حركات تطالب بإنصاف الأقليات كبشر لهم نفس الحقوق، أو بانصاف النساء كبشر لهن نفس الحقوق.
‎تقارير الأمم المتحدة تكشف أن مئات، إن لم يكن آلاف، من النساء المسلمات يقتلن كل عام
‎"دفاعا" عن الشرف، فأين هي الحركات التي ثارت ضد هذا الظلم الذي لا يمكن أن يقابله ظلم آخر!
‎كتب أحد الجهلة تعليقا على مقالة كنت قد نشرتها مؤخرا، يتهمني فيها بمواقف "مشبوهة" حيال ما أسماه "النساء السوريات الثائرات"، وسؤالي هنا‫:‬
‎لقد بدأت ثورتي على الظلم المبرر إسلاميا والممارس ضد هؤلاء النساء منذ أكثر من عقدين، وعرضت حياتي للخطر ودفعت الثمن من أمني وصحتي، فأين هي مواقفهن من ثورتي هذه، ولماذا لم أسمع منهن الكثير؟!!
‎لماذا تريدونني أن أهتف قياسا لنغماتهن ـ على حد تصرف صاحبنا الشاوي ـ وأنا أعرف في غلالة نفسي الدوافع الكامنة لذلك الهيجان المسمى "ثورات"!
‎نعم، الحرية مبدأ لا يتجزأ، وكما نطالب بتحررنا من قبضة الديكتاتور، كذلك يجب أن نطالب أولا بتحررنا من ثقافة كرست وجود ذلك الديكتاتور، وكرست كره الإنسان لأخيه الإنسان في الوطن الواحد؟‫!!‬
‎أصلا، لا شيء يبرهن على نضوج الإنسان في فهمه للحرية، إلا إيمانه بحق غيره في أن يمارس تلك الحرية.
‎عندما يطالب الإنسان بحريته، هذا لا يكفي وحده ليبرهن على إيمانه بحرية غيره، ولكن عندما يبدأ كل منا بالمطالبة بحق الآخر في الحرية، تصبح حرية الجميع تحصيل حاصل!
‎هل تريدونني أن أصدق أن ذلك "الثائر" الخارج لتوه من خطبة الجمعة وهو يهتف "الله أكبر" يؤمن بحق الإنسان الذي لا يشاطره قناعاته الدينية في أن يستمتع بحرياته؟!!
‎هل تريدونني أن أصدق بأن هؤلاء النسوة اللاتي يطالبن بحقن في ممارسة الحرية السياسية، لا يمانعن من أن تمارس وفاء سلطان حقها في حرية التعبير؟!!
‎لم أسمعهن يوما يحتجين على ضرب المرأة في الإسلام، على اعتبار المرأة ناقصة عقل، على الإنتقاص من حقها في الشهادة والميراث، فما الذي يقنعني بأن استيعابهن لمفهوم الحرية‫ (‬ كمفهوم شامل ومقدس‫)‬ هو استيعاب ناضح وحقيقي‫؟!!‬
‎طبعا، لا حريات شخصية في الإسلام إلا وفقا لمفهوم الإسلام لتلك الحريات، والديكتاتور
‎ناتج حتمي للثقافة الإسلامية!
‎إذا كانت الثورات ضد الطغاة مشروعة، بل وواجب مقدس للإطاحة بهؤلاء الطغاة، الأهم أن نثور على ثقافة ساهمت ـ ومازالت تساهم ـ في خلق هؤلاء الطغاة‫، وإلا سنستبدل واحدا بآخر قد يكون أسوأ منه.‬
‎لكن خوفنا من أن يكون أسوأ منه، لا يبرر لي ولا لغيري أن أقف ضد تلك الحركات، فأنا مع التغيير حتى ولو كان نحو الأسوأ، طالما هناك احتمال ـ مهما كان ضيئلا ـ أن يكون ذلك "الأسوأ" مجرد مرحلة انتقالية لتغيير مستقبلي أفضل، على حد قول المثل الشعبي "إذا ماكبرت ما بتصغر"!
‫…………………..‬
‎لم يحدث أن تغير مجتمع بشري تغييرا جذريا من خلال ثورة، ودون أن يسبق تلك الثورة تطور ثقافي تدريجي أهل الناس في ذلك المجتمع للتغيير الذي أحدثته تلك الثورة، وفي الحالات التي لم يسبقها ذلك التطور انقلبت الثورة وبالا على أهلها، ولنا من الأمثلة ما يصعب علينا أن نحصيه‫!‬
‎في الحقيقة الثورة تشتعل لتقطف ثمرة النضج الثقافي الذي وصل إليه الشعب عبر مراحل‫، لا كي تبدأ بتغيير التركيبة الثقافية لشعب!‬
‎أن تنتقل بمجتمع مازالت تحكمه عقلية القرن السابع الميلادي بقبضة من حديد، أن تنتقل بذلك المجتمع إلى مجتمع القرن الواحد والعشرين ، بين ليلة وضحاها ومن خلال كمشة
‎من المكبرين والخارجين لتوهم من سماع خطبة الجمعة لضرب من المحال‫.‬
‎لا نتحدث هنا عن إسقاط الديكتاتور، فأكبر ديكتاتور في العالم الإسلامي يسقط لو خرج إلى الشارع 10٪ من نسبة الشعب، ناهيك عن أغلبيته‫!‬
‎لكننا نتحدث عن الآمال التي تتبجح بها تلك الحركات، بينما يخفي القائمون عليها أجندتهم السياسية التي لا تبشر بمستقبل أفضل من الحاضر، إن لم يكن أسوأ‫!‬
‎أثناء خطاب بشار الأسد في قاعة البرلمان السوري، هبت امرأة محجبة ـ يبدو أنها عضوة في مجلس الشعب ‫ـ وراحت تكبر باسم الرئيس.‬
‎راقبت حركاتها بتمعن، وتساءلت في سري: هل تتمتع تلك المرأة بحرياتها، الأمر الذي يدفعها لأن تمجد رئيسها؟!!
‎طبعا لا!
‎عندما نقيس وضعها ووضع ذلك الشاب الثائر الذي يهتف مكبرا باسم الله (بدلا من الرئيس)، عندما نقيس وضع الإثنين حسب مفهوم الحرية الحقيقي، لا أجد أيا منهما حرا!
‎هي عبدة لتعاليمها التي تحط من شأنها، هي عبدة داخل بيتها، وفي الشارع وأثناء العمل، وهو كذلك.
‎الفرق بينهما، هو محروم وجائع، وهي متخومة حتى حد الإنفجار!
‎هو‫:‬ سلبوه رغيف خبزه، وهي‫:‬ أدخلوا يدهم في فمها حتى البلعوم‫!‬
‎تقول التقارير أن دخل رامي مخلوف اليومي ‫(‬أحد إفرازات السلطة وابن خال بشار الأسد‫)‬ يعادل دخل سبعمائة ألف مواطن سوري‫!‬
‎لا يحتاجون أن يدفعوا لتلك السيدة سوى النذر اليسير مما يشفط رامي، كي تهلل وتكبر باسم الأسد‫.‬
‎إنها ـ حكما ـ ثورة الجياع والمحرومين وليست ثورة الأحرار، الأمر الذي في رأي يكسبها أهمية إنسانية أكثر، ولا يقلل أبدا من أهميتها‫.‬
‎الجوع والحرمان أشد إيلاما للروح البشرية من القمع‫، إنها غريزة البقاء التي هي أقوى الغرائز وأقدسها.‬
‎قد يُقمع الإنسان ويظل حرا داخل عقله ومحتفظا بمعنوياته، أما أن يجوع أو يجوع أطفاله أمامه، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، وخصوصا عندما يجد نفسه بمحاطا بغيلان تأكل
‎الدجاجة ومصعتها والبيضة وقشرتها، فالقهر عندها يسحق نفسه وروحه معا‫.‬
Francis wright
‎كاتبة أمريكية‫، ‬كانت ناشطة معروفة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة في بداية القرن التاسع عشر، قالت يوما‫:‬
Who speaks of liberty while the human mind is in chains؟ 
‎‫(‬من ذاك الذي يطالب بالحرية، بينما العقل البشري مكبل بالأغلال؟‫!!)‬
‎هذه المرأة التي تبرقع نفسها من قمة رأسها حتى أخمص قدمها وتتوسط تلك الحركات التي تجتاح العالم العربي اليوم، وهي تحمل القرآن بيدها وتصيح منددة بالديكتاتور، هذه المرأة لا تطالب بتحرير عقلها، وإنما تطالب بتحرير لقمتها من براثن الغليان، وهذا أبسط حق من حقوقها‫!‬
‎لا أريد أن يُفهم من كلامي، أنك ولكي تكون حرا يجب أن تتحرر من دينك، بل ما أقصده أن تتحرر من الخوف الذي يقف حائلا بينك وبين تعاليم كبلت عقلك وسلبتك إنسانيتك‫!‬
‎هل يعقل أن ترفع امرأة كتابا يأمر بضربها، بغض النظر عن أسباب ذلك الضرب، وتدعي في الوقت نفسها بأنها تنشد حريتها؟‫!‬
‎لو كان الأمر غير ذلك، لما رأينا تلك المرأة المحجبة وهي تهتف في البرلمان السوري بحياة الأسد‫!‬
فتخمتها، وليست حريتها تلك التي تمنعها من أن تكون جزءا من تلك الحركة الجماهيرية!
‎مانراه ليست ثورة ضد القمع، إنه باختصار ثورة ضد الجوع‫!‬
‎إذا كانت تلك الحركات الجماهيرية تهدف إلى نيل الحريات، لاشتعل أولها ـ بلا شك ـ في المملكة السعودية، ولكن مهما بلغ حد الفقر في بعض أنحاء السعودية لم يصل الأمر بعد إلى مستوى ما وصل إليه في البلدان التي ثارت، وعلى رأسها سوريا‫.‬
‎ما أردت أن أقوله هنا، هو أننا ـ في البلدان الإسلامية ـ لم نذق يوما طعم الحرية كي ندافع عنها، الكل يتطلع إلى لقمة خبز، البعض يريدها نظيفة والبعض لا يهمه ذلك الأمر‫!‬
‎هؤلاء الثوار لم يثوروا عشقا للحرية، ومن وحي فهمهم الكامل لها، ولكنها غريزة البقاء التي دفعتهم لأن يثوروا ضد مصاصي الدماء، وهو سبب إنساني يكفي لأن يقف كل صاحب ضمير معهم‫!‬
‫………………‬
‎لقد أشرت في بداية مقالتي تلك على أن عصر الإنترنت قد أطلعهم على كيف يعيش الإنسان في البلدان التي تحترم حرياته، ولكن لم يتبلور لديهم بعد مفهوم الحرية بشكله الكامل، كي نقول أن عشقهم للحرية ـ ولا سبب غيره ـ قد دفعهم لأن يثوروا‫.‬
‎سيأخذ الأ‫مر عدة أجيال كي يتبلور ذلك المفهوم بشكله النهائي، وعندما يتبلور سيثور الإنسان في بلادنا لأتفه سبب ينتقص من تلك الحرية، كما هو الحال في البلدان الغربية اليوم.‬
‎العقيدة التي تطالب أتباعها بالولاء الأعمى، وتحرم السؤال خوفا من أن يُبدي مالا يُحمد، هي عقيدة لا تشمل في مضمونها مفهوما للحرية‫!‬
‎لا تتوقع من شعب أن يقدس الحرية كقيمة مالم ينطوي عليها جهازه العقائدي، ولو كان الأ‫مر كذلك مع الإسلام لإستحال ‬وجود هذا الكم الهائل والنوعي من الطغاة في التاريخ الإسلامي، ولنجى على الأقل بلد إسلامي واحد منهم‫!‬
‎لكنهم في طريقهم لأن يعوا تلك القيمة، الحاضر يبرهن على ذلك والمستقبل سيبرهن أكثر، والشكر كل الشكر لعصر الإنترنت الذي كسر كل الحواجز بين المسلم والعالم‫!‬
‎لقد أزال عصر الإنترنت كل تلك الحواجز من على أرض الواقع، لكن حاجز الخوف مازال ماثلا في ذهن المسلم، ولن يطول الزمن كي يتخلص منه‫.‬
………
‎إذن، القهر المتراكم عبر عقود من الحرمان والجوع والظلم قد أ‫ينع وحان الوقت لأن ينفجر.‬
‎ ويبقى السؤال‫:‬ من استطاع أن يقنع تلك الجماهير، التي هي في الأصل خاملة وغير مبالية، بضرورة أن تثور، علما بأنك من الصعب أن تجد فيها شخصين متفقين على قناعة واحدة؟‫!!!‬
‎الجواب في الحلقة القادمة‫!
 ‬