رحلتي إلى الدانمارك.....(1)


وفاء سلطان
الحوار المتمدن - العدد: 2683 - 2009 / 6 / 20 - 08:56
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي     

لم أجد شيئا معفنا في الدانمراك.....
كل ما في ذلك البلد ساكن ووديع إلى حد الرومانسية. سحرتني البحيرة الممتدة أمام فندقي، رحت أراقب نوافيرها الثلاث وهي ترقص بدلع، مدهوشة بجمالها كطفل سحرته لعبة جديدة.
لقد سرقتني من عالمي الصاخب ورمتني في أحضان الطبيعة حيث يستطيع الإنسان أن يتوحّد في كونه الأكبر ويصبح جزءا لا يتجزأ منه.
هي زيارتي الثانية، لكنها الأكثر غوصا في طبيعة ذلك البلد الهادئ. جئته للمرة الأولى في خضم الزوبعة التي أحدثتها الرسوم الكاريكاتورية، ولم أقم به سوى فترة قصيرة عدت بعدها إلى حضن الوطن الذي أدمنت دفئه.
وصلت كوبنهاكن منهكة بعد رحلة طويلة امتدت من كاليفورنيا، مرورا بنيويورك ولندن واستمرت عدّة أيام.
ساعات قضيتها في المطارات عند نقاط التفتيش، كنت أقف في طوابير المنتظرين دورهم وأنا أراقب أسارير وجوههم المفعمة بالإحباط دون شكوى. أمامي كانت تجلس سيّدة مشلولة على كرسي متحرك، اقتربت منها عاملة التفتيش وراحت تساعدها على خلع معطفها في محاولة لتفتيشها.
تمعنت بمعالم وجهها وأنفها السويدي وتأكدت من أنها، وبلا شك، ليست من تورا بورا ولا تمت بصلة لبدو الجزيرة (أستعير تعبير الأنف السويدي من الدكتور عبد الكريم شحادة مدرس مادة الأمراض الجلدية في جامعة حلب حيث كان يؤكد لنا بأن أصحاب الأنوف السويدية ـ والمقصود الأنف الأوربي الصغير والمرفوع ـ أكثر عرضة للإصابة بسرطان الخلايا الحرشفية Squamous cell Carcinoma))، وربما ـ أقول ـ أقل عرضة للإصابة بسرطان الإرهاب الإسلامي!)
تنهدت بألم ولسان حالي يقول: هذا ما فاض به محمد من حضارته على العالم!
..............................
في المطار اكتشفت بأن حقيبتي لم تأتِ معي فقد أبت أن تغادر مطار نيويورك، يبدو أن للأشياء أوطانها ولها أحاسيسها أيضا!
فقداني لحقيبتي زاد من إحساسي بالإنهاك، وتضاعف ذلك الإحساس عندما تفاجئت بأن جميع المحلات التجارية في الدانمارك تغلق أبوابها يومي السبت والأحد.
إنه عالم مغاير تماما عن عالم أمريكا، حيث تضرب حمى الشراء أطنابها في شرايين الناس يوميّ السبت والأحد، فتراهم يتدافعون إلى المحلات كيوم الحشر، وكأن دافعا خفيّا بأن كل شيء سينفذ في دقائق، يتحكم في دينامكيتهم التي لا تعرف السكون.
محلات السلسلة العملاقة Wal-Mart تفتح على مدار الساعة وشعارها هو:
If you can’t find it you don’t need it
إن لم تجده لدينا تأكد من أنك لست بحاجة إليه!
في العشرينات من القرن المنصرم قال الصحفي الأمريكي الساخر، والمعروف بنقده اللاذع لطبيعة الحياة الأمريكية Henry Louis Menchen:
"إن ما يصرف من أموال في نيويورك وفي اسبوع واحد على قضايا تافهة جدا يكفي لإدارة دولة الدانمارك في عام واحد"
تذكرت ما قاله وأنا أحشر نفسي بين المتسوقين في سوبر ماركت قريبة من فندقي، والتي لا تتجاوز في حجمها حجم ممر واحد في أي متجر لـ Wal- Mart في كاليفورنيا.
أشارت لي سيدة الإستعلامات في الفندق على أنها الماركت الوحيدة التي تفتح أبوابها يوم السبت، وناولتني الخارطة كي أهتدي إليها.
قبل أن أغادر دوّنت على قصاصة ورق صغيرة كل ما أحتاج اليه وكان في حقيبتي المفقودة، ورحت أبحث عنهم بالتسلسل.
يقولون السفر ثقافة، وأقول: كلما ازاد احتكاك بالناس في البلد الذي تسافر إليه تتسع مداركك. لا أعتقد بأن كتاب على سطح الأرض يستطيع أن يطلعني على ما اطلعت عليه في الدانمارك من خلال تجربة الحقيبة المفقودة.
في أمريكا عندما تذهب للتسويق، تحتاج إلى نصف ساعة على الأقل كي تختار معجون الأسنان في ممر يحوي مئات الأنواع، وإن كنت على عجل لا تملك إلاّ أن تلتقط أول ما تقع يدك عليه غير عابئ بطعمه أو لونه أو شكله أو سعره.
قادتني زبونة تقف بجواري بعد أن سألتها: "أين أستطيع أن أجد معجون الأسنان"، قادتني إلى الرف المخصص فوجدت نوعا واحدا يتيما، ولم أجد الخيطان التي تساعد على التنظيف!
ناولتني عوضا عنها علبة للعيدان الخشبية وقالت: هذا ما لدينا!
شكرتها وتركت العلبة ورائي فأنا لا أجيد استخدام العيدان بمهارة.
قرأت مرّة تعريفا "للروحانية" حسب التعاليم البوذية، وجاء في التعريف: "هي أن تغوص في أعماق اللحظة التي تعيشها"!
عندما تصل إلى عمق اللحظة التي تعيشها تتوصل إلى معان دفينة، معان لست قادرا أن تتوصل إليها لو عبرت زمنك بعفوية وبلا وعي!
لم أترك تلك اللحظة وأنا أقف أمام الرف الذي احتوى "يتيما كنت أبحث عن عشيرته الأمريكية"، لم أتركها تمرّ بعفوية. غصت في أعماقها وخرجت بقناعة "أن كثرة الخيارات ترهق، والحياة أجمل وأسهل عندما نعيشها ببساطة".
وتساءلت: أليس هناك فرق بين أن تلتقط معجونا للأسنان بلا تكلف وبلا عناء وبين أن تصرف نصف ساعة من وقتك الثمين محتارا أي نوع تختار؟!
فكّرت في الأمر قليلا، ثم عدت إلى علبة العيدان الخشبية وصوتي الداخلي يقول: جئت لأستمتع بكل شيء في الدانمارك كما هو، لا كما أتوقعه أن يكون!
في طريقي إلى الفندق شكرت بوذا بامتنان، فتعاليمه السمحة ساعدتي على أن أعيش لحظتي بعمقها وأحلق كي أتوحد في نرفانيتها! ( النيرفانا تعريفا: هي اللحظة التي يتحرر فيها المتعبد البوذي أو الهندوسي من كل ما يقيد روحه، ويحلق بتلك الروح ليصل مرحلة الإستنارة).
وهي بالنسبة لي، من خلال تجربة اليتيم الذي قابلته على أحد الرفوف في متجر دانماركي، هي اللحظة التي أستطيع أن أتحرر فيها من عشيرة المعاجين الأمريكيّة وأحلق مستمتعة بيتيمي الدانماركي على علاته!
وصلت الفندق وتوجهت إلى غرفتي، كنت أصفى روحيا ولكنني مرهقة جسديا إلى حدّ الإعياء.
كانت الساعة حسب تقديري السابعة مساء، ألقيت بحمولتي على أرض الغرفة وأنطرحت فوق السرير.
مضى وقت لا أعرف مداه، استيقظت بعده مذعورة لأرى الشمس تضيء قبّة السماء، نظرت إلى ساعتي فوجدتها مازالت حسب توقيت نيويورك.
بحثت في الغرفة عن ساعة فلم أجد، توترت أعصابي فهي المرة الأولى التي لا أجد ساعة في غرفة فندق، لكنني تذكرت بوذا وقلت: لأعش اللحظة بعمقها وببساطتها كما هي، لا كما أتوقعها أن تكون.
اتصلت بالإستعلامات: ما الساعة الآن؟!
وجائني صوت موظف الإستعلامات: إنها العاشرة!
- العاشرة صباحا؟!
وردّ بتعجب: بل مساء يا سيدتي!
مساءً؟!! هل أنا في مشفى للمجانين؟! الساعة العاشرة مساء والشمس مازالت تضيء السماء؟!!
وزارني بوذا مرّة أخرى، ليقودني إلى عمق اللحظة التي أعيشها متساءلة: مهلا....أنا في إحدى الدول الإسكندنافية، وللشمس عندهم طقوس تختلف عن طقوس الشمس حيث أعيش!
ثم أكتشفت بأنها في الدانمارك وفي حزيران تغيب في الحادية عشر ليلا وتشرق قرابة الثالثة والنصف صباحا.
وتذكرت أيضا أنه في السويد، وعلى بعد ضربة حجر إلى الشمال من الدانمارك، الظاهرة التي يطلقون عليها Midnight Sun أي الشمس التي تظهر في منتصف الليل، ولا تغيب على مدار اليوم لعدة أسابيع؟!!
يقول الفيلسوف Bertnard Russell:
الإنسان يولد جاهلا وليس غبيّا، ولكن تعليمه يجعل منه غبيّا!
لم نولد أغبياء، ولكن التعاليم الإسلامية التي برمجتنا حولتنا إلى هياكل في منتهى الغباء.
من يفقد القدرة على أن يتساءل ويبحث عن جواب لأسئلته يخسر عقله!
لقد أقنعونا بأن الإسلام دين عالميّ وليس فقط لبدو السعودية، وأقنعونا بأن القرآن كتاب علمي يحوي كل ما اخترعه وما سيخترعه الإنسان منذ الأبد وحتى الأزل.
تلك البرمجة لم تبدد جهلنا بل ذهبت بعقولنا، وإلا لتساءلنا: كيف يصوم مسلموّ الدول الإسكندنافية بناء على تلك الآية؟!
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
لم يخطر ببالي ذلك السؤال إلا عندما قادني مصباح بوذا السحري إلى عمق اللحظة التي أبلغني بها عامل الإستعلامات في فندقي بأنها العاشرة مساء!
أذكر أنني قرأت مرّة للمفكر الإيراني "علي سينا" قصة يروي من خلالها كيف ومتى فقد مؤسس الديانة البهائية إيمانه بالإسلام كدين، الأمر الذي أدى به إلى تأسيس دينه الجديد.
لست متأكدة من صحة هذه القصة، لكنّ مغزاها العميق يدفعني على أن أنشرها:
كان ذلك الشيخ إسكافيا وكان بسيطا وغارقا في إيمانه، مرّ عليه في محله المتواضع يوما المفكر الإيراني فلان الفلاني (لم أعد أذكر اسمه) والذي لا يؤمن بالأديان قاطبة وسأله: ياسيدي الشيخ، هل صحيح بأن النبي محمد قال بأن الكلب نجس والملائكة لا تقترب من مكان يوجد فيه كلب؟!
فرد الشيخ: نعم يا بني!
عندها سأل المفكر: وهل صحيح أن النبي محمد قال بأن المطر مبارك، وكل حبة مطر تسقط على الأرض يحملها ملاك؟!
فرد الشيخ: نعم يا بني!
فسأل المفكر: إذا من يحمل حبة المطر التي تسقط على الكلب؟!!
وهنا شعر الشيخ بأن صاعقة قد وقعت عليه، فكر مليّا وقال: سآتيك بالجواب غدا!
في صباح اليوم الموعود لم يأتِ الشيخ، يبدو أنه كان مشغولا بوضع دينه الجديد!
تحطم دين تحت وطأة سؤال واحد، وقامت على أنقاضه ديانة أخرى!
تلك هي الأديان قاطبة، لا يوجد دين إلا ويستطيع أبسط سؤال أن يطرحه أرضا، ناهيك عن الإسلام!!
لما نزلت آية الخيط الأبيض على محمد، ألم يكن الله يعلم بأن النهار قد يمتد في البلاد الإسكندنافية ليشمل اليوم كله؟!!
........................
لم أجد شيئا معفنا في الدانمرك....
لكن والحق يقال لم أر إنسانا سعيدا فيها، أو على الأقل تشير أسارير وجهه إلى الإنبساط.
قد لا يكون تقيمي عادلا، ربما هي قضية عادة وتقليد فأساريرهم لا تعكس ما بداخلهم.
قد لا يكون تقيمي عادلا من منطلق أنني قارنت أساريرهم ولغة أجسادهم بالأسارير ولغة الجسد التي يبديها الشعب الأمريكي.
عندما تلتقي عيناك صدفة بعينيّ الأمريكي يبتسم بعفوية وبلا تكلف ويلقي عليك التحية.
عندما تدخل متجرا...فندقا...مكتبا حكوميا...عيادة...أو مرفقا عاما في أمريكا يبادرك الموظف المسؤول بالتحية، ثم يرحب بك في المكان الذي تدخله.
وعندما تنهتي مهمتك معه يشكرك بأدب ويتمنى أن يراك مرّة أخرى في المستقبل.
يتبنى الأمريكيون عرفا يقول: الزبون دائما على حق!
هذا السلوك ينعكس بالإيجاب على العلاقة بين المستهلك والمنتج، وبالتالي ينعكس على مشاعر الناس بصورة عامة.
في الدانمارك لم أتلق تحية من أحد، ولم أر أحدا يبتسم، باستثناء القاعة التي كنا نتناول فيها طعام الإفطار في الفندق الذي نزلت فيه، ولم يكن بالنسبة لي غريبا أن يكون اسم تلك القاعة California Dine، وأن يكون معظم النزلاء أمريكان، يدل على ذلك اللغة واللهجة التي يتحادثون بها.
هذا الشعور انتابني في معظم الدول الأروبية التي زرتها. فمنذ أشهر كنت أزور البيت الذي ولد فيه بيتهوفن في ألمانيا والذي أحالوه إلى متحف.
غصّ المدخل بالكثير من التحف والمعروضات التي تحمل صورة بيتهوفن، وبإمكان الزائر أن يشتري أيّا منها كتذكار.
أخترت كأسا عليه صورة بيتهوفن، فأنا من هواة جمع الكؤوس، وناولت السيدة البائعة بطاقة الإئتمان كي أدفع الثمن.
قبل أن أوقع الفاتورة، قلت لها: آسفة لقد تذكرت، هل بإمكانك أن تضيفي ثمن ثلاثة بطاقات دخول؟!!
لم أكد أنهي عبارتي حتى صرخت صوتا وكشرت عن أنيابها بطريقة أثارت الرعب في نفسي: كان المفروض أن تقولي ذلك من قبل!
هززت رأسي دون أن أرد احتراما لجهلي بثقافة الألمان!
في أمريكا لا يمكن....أقول لا يمكن أن يحدث أمر كهذا، وإن حدث في مليون سنة فسيقيم الزبون الدنيا على البائع ولن يقعدها حتى يتأكد من أن الشركة قد عاقبته أو طردته!
في سويسرا دخلت مطعما وطلبت بيتزا، وجاءتني الوجبة تختلف تماما عما طلبت فقلت للنادل بأدب: هذا ليس ما طلبته!
ولم يدعني أكمل حتى رد بعنجهية: بل هذا ماطلبتيه! ثم أدار ظهره ومضى.
في أمريكا من حقك أن تردّ الوجبة التي لم تعجبك وتنال غيرها بدون إضافة ثمن الوجبة الأولى، وأحيانا يعفون الزبون من ثمن الوجبتين لأنهم أضاعوا مزيدا من وقته.
ومع هذا قد لا يكون تقيمي لهم عادلا، إذ لا أستطيع أن أقيّم شعبا من خلال زيارة امتدت بضع أيام، ولكن هذا ما شعرت به على الأقل.
ليست فقط أسارير الوجه الصبوح ما أفتقدته في الدانمراك، وإنما الدينامكية التي يتحرك بها الشعب الأمريكي، والتي تضفي عليك شعورا بالنشاط والهمة.
في صبيحة اليوم التالي كنت على موعد مع جريدة Jyllands-Posten، وهي نفس الجريدة التي نشرت الرسوم الكاريكاتورية لمحمد المرّة الأولى.
بعيدا عن أجواء المقابلة التي أجرتها معي، انفردت والصحفي في حديث جانبي عن طبيعة الحياة في الدانمراك.
أبدى استيائه من نظام الضرائب ونظام المساعدات الحكوميّة، فالدولة الدانماركية، بناء على قوله، تجبي ضرائب عالية جدا من مواطنيها قد تصل إلى نسبة 52% من الدخل أو ربما أكثر.
التعليم والطبابة في الدانمارك خدمات مجانية تقدمها الدولة لمواطنيها، ولكن نظام المساعدات التي تمنحها للعاطلين عن العمل وارتفاع نسبة الضرائب ـ بناء على رأيه ـ يشجع الناس على الكسل والإعتماد على مساعدات الدولة، وقد ساهم ذلك الأمر في انخفاض انتاجية الإنسان الدانماركي!
هذا مافسّر لي، إلى حد ما، مشاعر الكآبة التي لمستها في وجوه الدانماركيين!
فإدراك الإنسان، أي إنسان، بأنه منتج ومعطاء يضفي عليه إحساسا بالإرتياح واحترام الذات.
...................
للنملة وكرها، والنملة تحب ذلك الوكر!
ومن قال بأن الدانماركيين لا يحبون الدانمارك؟!!
هل تكفي شهادة شكسبير ببلادهم لتكون مبررا لرفضهم الحياة في ذلك البلد؟! طبعا لا!
يقول شكسبير على لسان هاملت (أمير الدانمارك) في مسرحية Hamlet، التي تقع أحداثها في الدانمراك:
"هناك شيء معفن في دولة الدانمرك"
اشتهرت تلك العبارة من خلال شهرة المسرحية، حتى صارت علامة فارقة كالجبنة الدانماركية!
يؤكد معظم المحللين لأعمال شكسبير بأنه قد قصد النظام الملكي الدانماركي، فهو قد قال "دولة الدانمارك" ولم يقل "الدانمارك"!
لم أعد أذكر المسرحية بالتفصيل، لكنني لم أر شيئا معفنا في الدانمرك، أو ربما أحتاج إلى زمن أطول كي أصل إلى مواطن العفن!
في أكثر من مناسبة، وخلال إقامتي، لمست حبّ الدانماركيين لبلادهم رغم استيائهم من كثرة الضرائب ونظام المساعدات الحكوميّة الذي ذكره لي الصحفي الدانماركي عندما قابلني.
كنت أتناول طعام العشاء مع رئيس ما يدعى Free Press Society، وهي المؤسسة التي دعتني إلى المؤتمر الذي نظمته واستضافه البرلمان في مبناه.
أثناء العشاء سألته: هل زرت يوما كاليفورنيا؟
فردّ: لقد عشت خمسة سنوات في شمال هوليوود!
ـ خمس سنوات؟ هل اشتقت لها؟
وبلا تردد صاح: لا....ولن أشتاق لها في حياتي!
يبدو أن حبه للدانمارك يحول دون اشتياقه للبلد الذي عاش فيه خمس سنوات، وربما لنفس السبب رفضت حقيبتي أن تغادر نيويورك، أفليس للأشياء أحاسيسها أيضا؟!!
يقول مثل إنكليزي: Beauty is in the eyes of the beholder
أي: أن الجمال في عينيّ من ينظر!
تلك هي الحقيقة، فالأشياء ليست كما هي وإنما كما يراها الناس، ولذلك تختلف الآراء حيال قضية واحدة!
رغم ذلك، يختلف الأمريكيون عن غيرهم في تلك النقطة بالذات، فهم يتبنون مواقف أكثر إيجابية عندما يعبرون عن آرائهم ببلاد زاروها وعن شعوب تعرفوا عليها.
لم أسأل سائحا أمريكيا يوما عن بلد زاره أو عاش فيه وأجابني بتلك السلبية الفظّة.
قابلت مرّة عالمة أنثروبولوجيا أمريكية زارت مصر في مهمة علمية استطلاعية، سألتها عن رأيها في مصر والمصريين فأجابت: "مصر دولة جميلة جدا وشعبها طيب للغاية، ولكن تؤلمني جدا الطريقة التي يتعامل بها المصريون مع طبيعة بلادهم" وتابعت تقول: "يحرقون القمامات في الأحياء ويشخّون في النيل بلا أدنى إحساس بالمسؤولية، فالطبيعة في مصر ملوثة للغاية"
عبرت عن حقيقة مشاعرها ولكن بطريقة أكثر أدبا ورقة.
عام 1991 قرأت مقابلة مع الصحفي الأمريكي Terry Anderson الذي اختطفه وأسره حزب الله في لبنان في منتصف الثمانينات، واستمر أسره عدّة سنوات. كانت المقابلة مباشرة بعد انعتاقه من الأسر، قال:
"أفضل ساعات عمري تلك التي قضيتها وأنا أراقب غروب الشمس من على شرفتي المطلة على البحر في بيروت، إنّ لبنان من أجمل الدول التي رأيتها في حياتي"
لم يمنعه العذاب الذي ذاقه في الأسر، وخلال سنوات، من أن يعبّر عن إعجابه بلبنان.
قرأت مرة كتاب ممتع للغاية بعنوان : What have you learned from life? أي: ماذا تعلمت من الحياة؟!
الكتاب عبارة عن مجموعة مقابلات أجراها الكاتب مع أناس تتراوح أعمارهم بين الـ 5 سنوات والـ 95 من العمر، ونشر فيه أجوبتهم.
أحد تلك الأجوبة كان: لقد علمتني الحياة بأنه ليس من العدل أن تزور بلدا وتتوقع أن تراه صورة طبقة للأصل عن وطنك الذي تحبه!
...................
لقد تجذرت في الثقافة الأمريكية قناعة بأن أهمية الحدث، أي حدث، تأتي من الطريقة التي تتفاعل بها مع الحدث وليس من تداعياته.
وهذا ما يساعدهم على تبني مواقف إيجابية في أكثر الظروف حلكة.
منذ حوالي عشر سنوات نشب حريق في شمال كاليفورنيا وألتهم حيّا بأكمله، كنت أستمع إلى مقابلة مع أحد الأشخاص الذي خسر بيته بما فيه، فقال:
لقد خسرت بيتي برمته، وقضيت ليلتي في العراء وهذا ما ساعدني على الإستمتاع بمراقبة القمر والنجوم!
وتحضرني هنا قصة طريفة رواها لي صديق، وهو طبيب مشهور جدا مختص في الجراحة العصبية وتحديدا في جراحة الدماغ، ويعمل في مستشفى تابع لأكبر جامعة أمريكية في كاليفورنيا.
يعيش في قصر في منطقة بالم سبرينغ، ويشتهر قصره بحديقته الغناء والتي لا مثيل لها.
صديقي هذا يعود في اصوله إلى سكان جزيرة هايتي، وهو قصير القامة، نحيل وداكن البشرة، أشعث الشعر، خشن المعالم ولكنه يمتلك قلبا لا أصفى منه وروحا لا أحلى منها، ناهيك عن ذكائه الخارق!
يقضي عطلة نهاية الأسبوع في حديقته حيث تغوص يداه عميقا في تربتها، يقلع عشبا ويزرع غرسا، ويبدو صورة طبق الأصل لنمط من العمال المكسيكان الذين يعملون في صيانة الحدائق في كاليفورنيا.
يحدثك عن تربة حديقته وأزهارها ونباتاتها كما لو كان يحدثك عن طبوغرافيا الدماغ الذي يجيد سبر أغواره بمبضعه، دائما يقول: لو لم أكن طبيبا مختصا في جراحة الدماغ لكنت جيولوجيا مختصا بعلم طبقات الأرض.
في أحد الأيام ـ حسب روايته ـ كان منهمكا كالعادة في أعمال الحديقة، وكان يبدو كجرذ خرج لتوه من وكر موحل.
توقفت سيارة فاخرة في مدخل قصره، وترجّلت منها سيدة يحيط بها حارسان من القياس الضخم.
تمعن في معالم وجهها وعرف للتو أنها الفنانة الأمريكية ايلزابيت تايلور. أقتربت منه وسألته: تأسرني تلك الحديقة بجمالها، هل تقبل أن تعمل في حديقتي مقابل الأجر الذي ترتأيه؟!!
فرد صديقي الطبيب بوداعة: لا أعتقد أنك قادرة على دفع ما تدفعه لي العائلة في ذلك القصر، مشيرا إلى قصره.
سألت ايلزابيت بغرور واضح: وماذا تدفع لك؟!
فردّ مبتسما: أنام كل ليلة مع صاحبة القصر!
أدركت ايلزابيت ما قصده للتو، فاحمر وجهها وقالت بخجل: هل بإمكاني أن أعانقك؟!
ردّ صديقي الطبيب: وهل يستطيع عامل بسيط في حديقة أن يرفض طلبا للسيدة ايلزابيت تايلور؟!!
يتابع صديقي: غادرتني ايلزابيت وعلى ثيابها آثارا من الغبار العالق في ثيابي، بينما تأججت رائحة عطرها في منافسي!
............
يوم كنت طالبة في الجامعة، أثناء مغادرتنا لإحدى القاعات ركضت طالبة وراء المدرس وهي تصيح: استاذ...استاذ لديّ سؤال!
فالتفت المدرس ورائه كالمجنون صائحا: يا قليلة الأدب! لا تناديني استاذ فأنا دكتور!
هل بإمكان أحد منا أن يتصور موقف ذلك المعتوه لو أن فنانة بمستوى أم كلثوم سألته إن كان يقبل أن يشتغل عاملا في حديقتها؟!!
الحياة موقف، ومواقفنا من أحداثها تدمغ هويتنا وتحكي عنا الكثير.
لم يعجبني موقف السيّد الدانماركي رئيس مؤسسة Free Press Society من الخمس سنوات التي عاشها في هوليوود، أو على الأقل لم تعجبني الفظاظة التي عبّر بها عن ذلك الموقف.
موقفه هذا ، وطريقة تعبيره عن ذلك الموقف، يحكيان عنه وعن عاداته وتقاليده أكثر بكثير عمّا يحكيان عن حقيقة هوليوود!
أعرف أنني تشعبت في الحديث عن رحلتي إلى الدانمارك، لكنها رغبتي في أن أغوص مع قارئي في عمق كل لحظة منها على الطريقة البوذية، وليس فقط أن أمرّ عليها مرور الكرام.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والأخيرة.