الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 43


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5103 - 2016 / 3 / 14 - 11:13
المحور: الادب والفن     

3 – التوازي القائم بين البِنيتين: بِنية المحاكمة وبِنية القتل

سنُظهر الآن حركة التلاحق الدرامي، ومن أجل ذلك، سنُجري تحديد المراحل بمعالجة كل واقعة على حدة، مثلما فعل كنفاني، وهو يقترح جمع مشاهد المسرحية الثلاثة في مشهد واحد، لهذا سنفحصها عَبر هذا المِنظار، على اعتبار أنها مشهد واحد:
1 – نحن في المحكمة: تدور محاكمة المتهم حول قتل الشيء. لا نعرف كيف وقعت عملية القتل، لكننا نعلم، بفضل فلاش-باك، تفاصيل الاتهام. وفي كل مرة يكون فيها لجوء إلى فلاش-باك، يجري تسليط الضوء على نصف المشهد (حجرة المتهم) وعلى العكس، حسب إظهار هذا أو ذاك.
2 – فلاش-باك: حديث بين السيدة والمتهم فيما يخص الجنين.
3 – عودة إلى المحكمة: يستغل رقم1 ورقم2 مسألة الجنين ضد المتهم.
4 – فلاش-باك: نعلم كيف سقط الشيء عند المتهم من النافذة. لا يستطيع الشيء احتمال نور النهار، فيغطيه المتهم بقميص، ويأخذ بضربه.
5 – تضيء المحاكمة فجأة: يأمر رقم1 ورقم2 المتهم بالتوقف عن ضرب الشيء.
لدينا انطباع حتى الآن بأن مشهد الاتهام يدور من جديد، وأن الحاكِمَيْن يشاهدان من بعيد حتى لا يقال إنهما يشاركان فيه فعلاً. ومن الملاحظ أن هناك إجراء فنيًا –تَكَرَّر عدة مرات- يَرْبِط قاعة المحكمة بحجرة المتهم، وذلك بفضل الشيء: مثلاً عندما تبدأ المحاكمة بين رقم1 ورقم2 والمتهم، يأخذها الشيء عند نهايتها ليبدأها مع المتهم.
يحاول الحاكمان إلصاق كل التهم على المتهم، فيدحض كل البراهين، ولا يقف الأمر عند ذلك، إذ يقيم علاقة صداقة بالشيء محاولاً إقناعه وإثبات أنهم جردوه من كل صفة إنسانية. وفي الحال، يتدخل الحاكمان ليمنعا المتهم من التأثير على الشيء.
6 – فلاش-باك: السيدة وأمها عند المتهم. تكتشفان الشيء. تتخلص السيدة من أمها، وتعود لتخبر المتهم بمن يهتم بشراء الشيء بثمن ضخم.
7 – تضيء قاعة المحكمة: يشجع الحاكمان المتهم على البيع.
8 – عودة إلى حجرة المتهم: تحاول السيدة وأمها دفع المتهم إلى قُبول اقتراح البيع.
لأول مرة يدعو المتهم الشيء ب "القبعة"، ونلاحظ أن على رأس الأم قبعة أيضًا، الشيء الثاني الذي سقط من المركبة الفضائية. يرفض المتهم رفضًا قاطعًا الاقتراح، ويتحدث عن الماء والسماء مع الشيء. يتفقان على سرقة قبعة الأم، والرحيل معًا لبناء عالم جديد على الأرض الجرداء التي يملكها جد المتهم تحت دلالات معروفة.
9 – يملأ الضوء قاعة المحكمة: يتهم الحاكمان المتهم بالسرقة المتعمدة، فيدحض كل برهان، إذ ما الأمر إلا لأجل "مضاعفة قيمة الشيء المسروق مئات المرات..." (ص 67) ويؤكد ألا هدف لهما سوى عرقلة "سير العالم نحو الأفضل." (ص 68)
10 – يأتي ساعي البريد المتهم: ببرقية من أحد المختبرات الكبرى التي تقترح مليون ليرة ثمنًا "للسر-الشيء" الذي يمتلكه. أكداس من الرسائل تصله أيضًا من الجامعات المعامل الجمعيات الشركات... أمريكية وإنجليزية وفرنسية... إلى آخره. المبالغ المقترحة ترتفع بسرعة، مبالغ باهظة، لكن المتهم لا يرجع عن اتفاقه مع الشيء.
11 – بفضل تقنية تعاقب الشخصيات تُسَلَّط الأضواء على وجه السيدة التي تصرخ: "جنون!" وَتُسَلَّط الأضواء على وجه أُم السيدة التي تصرخ: "غبي! أحمق!" وعلى الشيء الذي يلاحظ ارتفاع الأسعار، وعلى وجه ساعي البريد الذي يطالب بحصة من كل هذا، وعلى وجه رقم1 الذي يذكِّر المتهم بأن هذا الاقتراح وحده من سينقذه من الورطة... إلى آخره، وَيَعتبر معارضو المتهم كلهم أن رفضه عبارة عن جنون. تقنية التعاقب هذه تلقي الشخصيات "بالمِظلات" بين الجمهور، فتصبح القاعة الخشبة والخشبة القاعة.
12 – تنطفئ الأضواء تمامًا لتشتعل في حجرة المتهم رويدًا رويدًا: يطلب الشيء من المتهم أن يسقيه، لكنه مشغول بالرد على الرسائل. يُلِح الشيء في طلب الماء، والمتهم مستمر في عدم اكتراثه، إلى أن يتقوض الشيء بالتدريج. يقترب المتهم منه، فيشاهد أنه مات.
13 – عودة إلى قاعة المحكمة: يؤكد رقم1 قتل المتهم للشيء عندما لم يسقه. يرفض المتهم التهمة، ويطالب بمحاكمة أصحاب الجريمة الحقيقيين، كاشفًا بالإثباتات التي يقدمها عن تواطؤ الحاكِمَيْن، وعند هذه اللحظة فقط يُبَرِّئ الحاكمان ساحته. يرفض المتهم ذلك، فيؤكد الحاكمان البراءة، ويخرجان من المحكمة.
14 – ظلام.
15 – تُسَلَّط الأضواء على المتهم والشيء: الشيء يبدأ بالتحرك. يتقدم المتهم منه، ويحمله للمرة الأولى بين ذراعيه قائلاً "هيا بنا أيها الصديق، ليس أمامنا إلا أن نخرج معًا." (ص 76)
آخر كلمات المسرحية.
ما نراه حسب هذا التقديم أن دور الحاكم يمضي من أيدي رقم1 ورقم2 إلى يدي المتهم، كذلك فإن تعاقبًا مسرحيًا متلاحمًا يمضي من حجرة المتهم-الماضي إلى قاعة المحكمة-الحاضر، والعكس بالعكس، فَتُوَضِّح هذه الأفعال المسرحية أصلَ الاتهام وتطورَهُ اللاحق.
وبما أن مضمون المسرحية عبارة عن محاكمة، لدينا حشد من البراهين والأدلة التي تضفي نوعًا من الدقة والصرامة على الاتهام حتى ولو بدت اعتراضات الحاكِمَيْن متناقضة.
ترتكز الخُِطة الفنية على: عدم ترك الفرصة لإقامة حقيقة-مضادة لدى الخصم، وخصوصًا عدم المطالبة بأدلة للدعم، وهذا، في الواقع، ما ينجم عن مثل هذه المحاكمة الغريبة من نوعها، حيث لم نستمع إلى شهود، ولم يكن للمتهم محامٍ للدفاع عنه.
ويثبت الإقرار ببراءة المتهم أن البِنيتين، بِنية المحاكمة (رقم1 ورقم2) وبِنية القتل (المتهم والشيء) لا تلتقيان عند نهاية المسرحية بل تبقيان متوازيتين، لأنهما قائمتان على قاعدة من التناقض والتعارض الواضحين منذ البدء.
لقد اعتمدت كل المشاهد على عنصر المفاجأة لا المطابقة، وبكلام آخر، لا يحاول المتفرج أن يرى إذا كان بإمكانه أن يطابق التجربة التي يعيشها الممثل على تجربته الخاصة به هو. هذه الملاحظة تقوم على حقيقة أن المسرحية لا تسعى إلى بث المشاعر واللعب بالأحاسيس، إنها تطرح مشكلة، وتعطي مادة للتفكير. أضف إلى ذلك أنها تجتاز خشبة المسرح إلى قاعة المسرح، حيث تتحطم الفواصل بين ممثل ومتفرج، ليصبح الممثل مخاطِبًا مماثلاً للمتفرج، والمتفرج مشارِكًا في دورة الأحداث. لقد جرى تركيز كل اهتمامنا في المشهد، وكأننا شاخصون إلى شيء ما، مُبدين اهتمامًا تواقًا إلى المتابعة.
كل هذا نتيجة "أثر التبعيد" الذي يرتكز على إعادة نقل تطورات الحياة الحقيقية على المسرح من جديد، وبشكل نرى فيه أن سببيتها، على التحديد، تكون واضحة على الخصوص، وهي التي "تشغل بال المتفرج". (60)
ويسمح الضوء القوي أو الضعيف أحيانًا بأن يبرز بشكل أفضل خصائص كل شخصية أو بأن يُلقي إلى جانب حدثًا لم يعد هامًا، كما ويساعد الضوء على استنهاض الحس النقدي لدى المتفرج والحضور الذهني، خاصة إذا كانت الأحداث متداخلة ومختلطة كأحداث هذه المسرحية.



المراجع
(60) برتولت بريشت: شراء النحاس، منشورات لارش، باريس 1970، ص 176.


يتبع 4 – أبعاد الفكرة الرئيسية للمسرحية