الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 27


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5087 - 2016 / 2 / 27 - 15:41
المحور: الادب والفن     

4 – بِنية الطريق: الخط البياني للإخفاق

أظهرنا إلى حد الآن الطريق الذي قطعته الشخصيات الرئيسية الثلاث، أبو قيس، أسعد، ومروان، حتى البصرة، قبل السفر إلى الكويت. في البصرة، تم عقد صفقة بينها وبين الشخصية الرابعة، أبي الخيزران، سائق شاحنة الماء، فأخذ أبو الخيزران على عاتقه مهمة نقلهم إلى الكويت عن طريق الصحراء مقابل بعض المال، لكن أبا قيس لم يكن مطمئنًا لشروط الرحلة:
"- اسمع يا أبا الخيزران، هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟" (ص 96)
يُبدي أبو قيس حذره من السائق، وفي الوقت ذاته اهتمامًا كبيرًا أكبر من أي شيء آخر بإنجاح الصفقة. يحزر أبو الخيزران ما يجول في خاطره، فيعمل على تبديد مخاوفه:
"- لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة، هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترًا، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترًا ستصعدون إلى فوق. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب! ستجدون أنفسكم في الكويت!" (ص 97-ص 98)
يبدو السائق واثقًا جدًا من صَنْعته: تلك السهولة التي يصف فيها العملية عبارة عن عنصر إقناع يستعمله ضد من هم أكثر منه ضعفًا. من يسمعه يتكلم يظن أن ليس هناك من مكدر غير المُقام السريع داخل الخزان. أضف إلى ذلك أن أبا الخيزران يتكلم بمصطلحات رياضية، خمسون مترًا، خمس دقائق، خمس دقائق أخرى، ليختصر الطريق الطويل، فيبدو الطريق كأنه خال من العقبات.
قليلاً قليلاً، يترك أبو قيس نفسه يقع أسير كلامه، ويتشبث بنوع آخر من الشك في اللحظة التي يقول فيها:
"...سأقول لك الحقيقة، وأرجو ألا تغضب: أنا أشك في أنك تملك سيارة." (ص 99)
نلاحظ أنه لا يشك أبدًا في السائق، مثلما كان ذلك في البداية، بل تُظهر كلماته جيدًا أنه يريد الوصول إلى الكويت مهما كلفه ذلك من ثمن، لهذا يريد أن يطمئن إلى وسيلة نقل تحقق له ما يريد، فها هو يقول:
"أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر دينارًا، وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء، لا أريد مزيدًا من المشاكل." (ص 99)
هذا التطور في كلام أبي قيس لافت للنظر على اعتبار أنه يكشف لنا إلى أية درجة يلتصق رجل عجوز بآخر "عون" يمكن أن يحوّل حياته.
كذلك يبدأ أسعد ومروان بالشك في أبي الخيزران، كيف لا يمكن فهم هذا عندما يتكلم السائق عن الكويت، وكأنه يتكلم عن جنة على الأرض؟ ولكن لا تلبث عقبات الطريق أن تختفي تحت قوة الكلمات، تحديات الصحراء الحارقة، مخاطر الحدود، ولا تبقى غير الثروة وحدها التي تعبئ الشخصيات.
وهكذا بكلمات تحل محلهم كفواعل، ينتمي ثلاثتهم إلى "نظام من الكلمات" تُصَنَّف فيه كل الشخصيات، لكنه تصنيف لن يكون حقيقيًا في ذاته، انتماؤهم إلى صنف ليس له معنى ووضعهم الجديد، فلم يعد الواحد منهم نمطًا، كل واحد منهم طريقة في التعبير، لأن الرواية على عكس الأسطورة التي لا تهتم سوى بالأطر التصنيفية، ولا تعمل إلا بمعايير التصنيف، أي بأنواع رمزية، الرواية عملية تعبير يتم التصنيف فيها على مستوى الكلمات، لهذا قلنا التصنيف ليس حقيقيًا في ذاته. ولهذا السبب، يغلب التعبير عن مروان وأسعد وأبي قيس، في الفصل الرابع، في مرحلة ما بعد النمط الذي وقفنا عليه في الفصول الثلاثة التواقتية، يغلب التعبير عن أبي قيس وأسعد ومروان كمواقف لا كرموز، كنظام من الكلمات مقابل نظام من الكائنات، فرأينا تردد أبي قيس في تصديق أبي الخيزران، فأسعد، والآن مروان:
"...اعفنا من تصديق رحلة القنص! يبدو لي أن الحاج رضا وجنابك تعملان بالتهريب..." (ص 100)
نلاحظ على الرغم من كل شيء أن مروان في موقف القوة، فالتعارض التصنيفي بينه وبين أبي الخيزران موجود في العلاقة التبادلية بينهما على مستوى اللغة داخل الرواية، من هو أبو الخيزران؟ مهرب في الماضي، سائق في الحاضر، موديله السردي بين السابق واللاحق، وفي هذه الحال يعمل التعارض بين السابق واللاحق –حسب جريماس- كتمفصل للمضامين بصفتها مضامين مطروحة ومضامين معكوسة: مروان يثير أبا الخيزران بما يطرح إلى حد الضيق، ولكن لا يدوم ذلك إلا لمدة قصيرة، لأن أسعد يعكس ما يطرحه مروان، ما يهمه فقط الوصول إلى المحطة الأخيرة:
"أنا شخصيًا لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك، فإنه لا يعنيني." (ص 82)
بحسب الكلمات المتبادلة كأن أسعد هو مروان أو مروان هو أسعد، فها هو مروان يطرح من جديد أمر التشكيك في نوايا أبي الخيزران "الحسنة":
"ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟" (ص 82)
وبسرعة يعكس ما يطرحه، كما فعل أسعد، ويقرر بحماس، والصفقة على وشك الإتمام:
"وأنا سأسافر معكما." (ص 101)
لأن مروان، كأسعد، وكما سنرى كأبي قيس، ثلاثتهم مضمون كلامي، يتراوح بين المضمون المطروح والمضمون المعكوس، ليس صِنافيًا حقيقيًا، (الصِّنافة علم قوانين التصنيف)، بل موقفي مفهومي (بالنسبة لموقف): يسأل أبو قيس، الذي يسيطر عليه الشك دومًا، أصحابه فيما لو كانوا "يعتقدون أن بوسعه مرافقتهم، فهو رجل عجوز." (ص 192) يُبدي هذا التردد تجاه نفسه جيدًا أنه يشك في قدراته الخاصة، هذا هو المضمون المطروح، وليس لأنه يشك في قدرات أبي الخيزران، ورحيله عَبر هذا الطريق يأتي لأنه الطريق الوحيد الذي ينفتح أمامه، وهذا هو المضمون المعكوس. المضمون الكلامي لأبي قيس، الذي لِمَعْنَاه آثار تحتوي على اسمه، "أبو قيس"، يتم الاحتفاظ به كصفة وثيقة الصلة بالموضوع –حسب جريماس- يتوقف عليها النظير العام للرسالة، أي لبعد العالم الروائي والذي به الرواية هي التجلي. بكلام بسيط، أبو قيس ليس ما تعنيه كلمة "أبو"، ليس ما تعنيه كلمة "قيس"، أبو قيس هو ما يقوله أو ما يقال عنه من كلام.
وما يثير الاهتمام، بالمقابل، أن أبا الخيزران كمضمون كلامي، هو ما يقوله أو ما يقال عنه من كلام، وهو كذلك ما يعبر عنه اسمه من معانٍ (يمكننا أن نطبق الشيء نفسه على أسعد ليس على أبي قيس ليس على مروان لاسميهما إحالات تاريخية لا نعتية) عندما ينكشف وجهه الحقيقي مع تساقط قناعه تدريجيًا، كلما توغلنا في الرواية. أبو الخيزران اسم على مسمى، دال على مدلول، فالخَيْزُران هو نبات من فصيلة النجيليات، كما يقول القاموس، وهو مشهور بكبر حجمه، وسرعة نموه، وقلة أزهاره، تُستعمل عوده لصنع الكراسي. إذن هو كبير في حجمه صغير في مقامه، سريع في نموه بطيء في انتشاره، قليل في زهره كثبر في ظلاله، واستعماله لصنع الكراسي دليل على خضوعه لكل من يريد الجلوس عليه. يضيف القاموس أن الخَيْزُران هو كل عود لين، فسميت الرماح بذلك لتثنيها ولينها، لكنه كمضمون لاسمه، التثني واللين صفتان للتحايل والانتهازية، فها هو يرد على أبي قيس بضحكة مغتصبة، وهو يأخذه من الذراع:
"له! له! يا أبا قيس، من الذي أوهمك أنك عجوز إلى هذا الحد؟ ربما أم قيس! له! يجب أن تأتي معنا." (ص 102)
تثير مجاملة/محايلة أبي الخيزران نفورًا عفويًا تجاهه، فنحن نحس بوقاحته وروحه النفعية، عندما يستعمل أبا قيس، الرجل العجوز، جارًا إياه عَبر مغامرة خطرة. وحتى قبل أن يبت أبو قيس في قضية سفره، يقرر أبو الخيزران عنه ذلك بسرعة، وتتم الصفقة عندما يؤكد أن على أبي قيس أن يأتي معهم.
والآن تبدأ أولى مراحل الرحلة الثلاث، إنها بداية الطريق الحقيقي:
"لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجًا كثيرًا، فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هوادة فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر." (ص 105)
نلاحظ أن الركاب يحاولون إظهار تآلفهم مع المناخ الحارق عندما يعتبرون هبات الهواء كالمَنِّ الساقط عليهم من السماء، بينما هم في الحقيقة في نار الجحيم، والهواء مصطنع، فمضمونهم الكلامي، كما سبق لنا القول، موقفي، تبعًا للموقع الذي يكونون فيه، وهو زائف أو سَلبي، بعيد عن كل منطق ما عدا التعاقب المنطقي للطريق، فمتابعتنا لتساقط القناع عن الوجه الحقيقي لأبي الخيزران يكشف ضمنيًا عن هذا التعاقب المنطقي للطريق. وبإمكان القارئ أن يقف على الخطر الذي يتهدد الركاب الثلاثة دون أن يدركه هؤلاء، بل على العكس، يظهرون سَلبيتهم تجاهه:
"هل تتصور؟ إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار، فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل الجنة. أما الملائكة هنا، فهم رجال الحدود." (ص 105-ص 106)
يتقمص أبو الخيزران شخصية الإله: السراط الذي وعد الله به خلقه، يصبح السراط الذي وعد أبو الخيزران به ركابه. إن السراط المعني هو الطريق الذي اقترضه الركاب الثلاثة، والذي هو، في الواقع، مصيرهم الحقيقي. ومن الواضح أن أبا الخيزران من يحجز لهم جهنم (الصحراء المُحرقة) أو الجنة (الكويت المُغنية). من ناحية أخرى، إذا كانت الملائكة مخلوقات مفضلة عند الله، تصبح شرطة الحدود، ضمنيًا، شريكًا متواطئًا مع أبي الخيزران، فيعامله النص معاملته للمهرب في وظيفته، ويعتبره النقد اعتباره للمهرب في مضمونه، لكنه ليس المضمون ذاته في اعتبار الركاب الثلاثة، ضحايا الطريق الذي أخذوه وإياه. بالنسبة لهم أبو الخيزران سيد اللعبة، على الأقل في بعض المواقف هو سيد اللعبة، وفي بعضها هو ضحية كغيره من ضحايا اللعبة. ما يفترضه اسمه قاموسيًا من سَلبي وعكس سَلبي، يوائم تصنيف العالم الروائي (يقول جريماس العالم الأسطوري) حسب أبعاد ثقافية أساسية جوهرية يمكنه أن يحتوي عليها.

كيف يرى الركاب الثلاثة أبا الخيزران كبعد ثقافي يمثله كل واحد؟

يرى أسعد في هذا الرجل رجلاً سعيدًا، فأسعد كمضمون كلامي شيء، وكبعد ثقافي شيء آخر، كمضمون كلامي هو الكلمات التي يتم وصفه بها في الرواية، وكبعد ثقافي هو الرؤية التي يتم وصفه هو بها للأشخاص والأشياء في الرواية.
هكذا يرى أسعد أبا الخيزران:
"كنت أقول لنفسي إن حياتك رائعة، لا أحد يشدك من هنا، ولا أحد يشدك من هناك، وتطير أنت منفردًا حيث تشاء، تطير، تطير، تطير..." (ص 106)
إن ما يقوله أسعد عبارة عن تبرير لشخصه، فحسب ثقافته هكذا يجب أن يكون هو "الثوري" الفاشل، الذي هرب من مسئولياته، والذي يرغب، على التحديد، في أن "يطير، يطير، يطير، منفردًا حيث يشاء". بناء على ذلك، وجهة نظره أنانية، دون أن يعرف محدثه يعطيه الصورة التي يتمنى إعطاءها لنفسه. أبو الخيزران الشخص المخصي رأى فيه أسعد الرجل "الطائر" بينما هو الرجل المحروم من عالم الحب، فبحسب تحديد لهيجل "الحقيقة هي اللاحقيقة"، وبمعنى آخر المظهر لا يعكس الجوهر دومًا، لكنه البعد الثقافي لأسعد، أسعد كبعد ثقافي ينطبق عليه تحديد هيجل إثباتًا، فالنفي الفلسفي هو البعد الثقافي لهيجل، هيجل كبعد ثقافي.
ويتأكد هذا البعد الثقافي في وقت لاحق عندما يكشف أبو الخيزران لأسعد عن نواياه الحقيقية:
"أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود..." (ص 114)
يسقط القناع، ويظهر أبو الخيزران على حقيقته كبعد ثقافي، وبالتالي كصنف من أصناف العالم الروائي (نحن هنا بعيدين جدًا عن مفهوم النمط الذي عرضناه في الفصول الأولى). كان بإمكان الركاب أن يفكروا، ويبدلوا رأيهم، فيعدلوا عن إتمام الطريق، لكن شيئًا من هذا لم يحصل، فالتحولات السردية مرهونة بتحولات العناصر السردية، وتحولات العناصر السردية مرهونة بتحولات الأبعاد الثقافية، بتحولات الفواعل/الأبطال كأبعاد ثقافية، هذه التحولات التي لن تكون إلا عند نهاية طريق الفاجعة. لهذا السبب ينزلون في الخزان حتى عندما ينذرهم أبو الخيزران قائلاً: "سيصبح الخزان من الداخل فرنًا حقيقيًا." (ص 115)
وفي الواقع، هم لا يتأخرون عن الاعتراف بأقوالهم:
"هذه هي جهنم! إنها تتقد!" (ص 116)
"لا أعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن!" (ص 116)
"إنها بئر ملعونة..." (ص 116)
هذا هو أول اتصال لهم "بجهنم"، كما يقولون، فتكون التحولات اللغوية داخل المواقف الثقافية لا تحولات المواقف الثقافية، مما يبرر ذلك على مستوى المتطلبات البنيوية، يعني كيف يتم بناء هذا الاتصال لغويًا؟ وهم إذ يقبلون بذلك، يقبلون بأن يتكدسوا في الخزان، بأن يخاطروا بحياتهم، يثبتون في نفس الوقت إلى أية درجة هم مستعدون للذهاب من أجل أن يصنعوا ثروة، لنرى في الموقف الثقافي أن المفهوم لم يتبدل، المضمون بلى.
يكمل أبو الخيزران توقيع أوراقه من حرس الحدود بسرعة، ويتحرك بسرعة إلى الطرف الآخر، ليُخرج الركاب نصف موتى:
"كان وجه أسعد محمرًا ومبتلاً، وكان بنطاله مغسولاً بالعرق، أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ، فبدا وكأنه ملطخ بالدم. نهض مروان، وهبط السلم الحديدي بإعياء، كانت عيناه حمراوين، وكان صدره مصبوغًا بالصدأ، وحين وصل الأرض، وشع رأسه فوق فخذ أبي قيس، ومدد جسده ببطء إلى جانب العَجَل... ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أن أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن أنهما ميتان." (ص 121-ص 122)
والحال هذه، هل بإمكاننا أن نتخيل "رجوعهم" بعد أن عرفوا خطورة سفرهم؟ هل سيزن الركاب نتائجَ خطرٍ كهذا ليبحثوا عن حل آخر؟ ليبدلوا رأيهم؟
لا يبدو ذلك، فالمضمون لا يتبدل إلا بتبدل المفهوم، وها هم يتابعون طريقهم، ويشرعون في المرحلة الثانية من رحلتهم، التي تبدأ بالفصل السادس تحت عنوان "الشمس والظل":
"شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة، كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد أحد منهم يهتم بتجفيف عرقه. فرش أسعد قميصه فوق رأسه، وطوى ساقيه إلى فخذيه، وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة. أما مروان، فقد اتكأ برأسه على كتف أبي قيس، وأغمض عينيه. وكان أبو قيس يحدق إلى الطريق مطبقًا شفتيه بإحكام تحت شاربه الرمادي الكث." (ص 129)
معرفتنا للبناء الروائي في هذه اللحظة الحاسمة من لحظات الرواية لا تقوم على أساس التحولات الثقافية، معرفتنا للبناء الروائي تقوم على أساس كودات واضحة عن العياء واليأس: عالم صغير موهن أمام سلطة الصحراء وقدر الشمس المسلط، فالركاب يقعون فريسة عجز فيزيائي ونفسي بعد أن اختفت الشجاعة والحيوية التي أظهروها في بداية الرحلة، وأصبح اليأس وحده "الحافز" المشروع على الاستمرار.
وهكذا كبنية شكلية، يبدو كود اليأس كما يبدون وكأنهم مأخوذون في دائرة مفرغة: يهربون من بؤس المخيم الذي تركوه من ورائهم، ومن الطبيعة الشرسة التي تنتصب أمامهم في وقت واحد. لم يعد بإمكانهم أن يقاوموا، وكأنهم يعلنون مسبقًا أنهم مهزومون، وهم لهذا السبب يتركون أنفسهم للأحداث تتقاذفهم:
"كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم وحطامهم وآمالهم وبؤسهم وبأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم، كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول. وكانت العيون كلها مغلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية." (ص 129)
هنا يكثف كود اليأس كل مضامين البعد الثقافي للفواعل، فيبدو "عالمهم الصغير الموهن" (ص 129)، ما ترمز إليه الشاحنة، وقد أصبح القدر المهدد للفلسطيني المنفي، الذي يخوض صراعًا خطيرًا مع قدر حقيقي "مجهول وجبار" (ص 129). نحن هنا في صميم البعد الميتافيزيقي للطريق الخاطئ، وكنتيجة لذلك، تفلت منهم قيادة قدرهم، لأنهم ضحايا قوة عظمى، يحاولون الالتصاق بعيونٍ "مشدودة إليها بحبال غير مرئية" (ص 129). أبو الخيزران ضحية كذلك، حتى ولو بدا أنه يتحكم بوضعه، فله أحلامه ومطامعه التي يتوقف تحقيقها حسب إرادة هذا القدر المجهول!
الأحداث اللاحقة التي تتوالى بسرعة تلفت الانتباه إليها، فكل حدث عبارة عن تركيب دلالي، وكل دلالة عبارة عن مضمون يُستثمر في صالح الحدث الأخير: الموت اختناقًا.
قبل الوصول إلى حدود الكويت، يخاطب أبو الخيزران الركاب:
"لنسترح قليلاً قبل أن نبدأ التمثيلية مرة أخرى." (ص 132)
وها هم ينزلون من جديد داخل الخزان، لأن في استثمار دلالة نزولهم إكراهًا لهم كموضوع لكود اليأس. ولهذا السبب، الذي هو إكراه الأبطال على فعل ما لا يقدرون عليه، يتأخر أبو الخيزران في مكتب رجال الجمارك عندما يطلب الجمركي منه أن يحكي له عن علاقته بإحدى الراقصات:
"فكر فيها ليل نهار، ركّب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممضي، كانت فكرة أن صديقًا له قد ضاجع عاهرة ما فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام." (ص 138)
المسافة أسلوبية هنا بين كود اليأس وكود الجنس، للتشويق، ولتبرير الحدث الأخير، وذلك بوضعه بين محورين سرديين على صعيد الشكل وعلى صعيد المضمون: الشكل عَبَّر عنه هذا القطع بين دخول الفواعل الثلاثة في الخزان ودخول أبو الخيزران في مكتب رجال الجمارك. المضمون عَبَّر عنه "هذا الخروج عن الموضوع" لسلطات الحدود وكيف ترى العالم عَبْر الجنس، وبسبب الجنس يتهدد خط الرحلة كله، فبعد أن تحرك أبو الخيزران بالشاحنة، وذهب ليفتح الخزان، كان الركاب الثلاثة قد ماتوا اختناقًا، ليقول التركيب الكودي لمضمون الاختناق إن السلطة هي العامل الأساسي الذي أدى إلى هذه النهاية المأساوية.
هكذا كانت حدود الكويت للركاب مانعًا لا يمكن اجتيازه، وعليها تحطمت كل أوهامهم، وهكذا كانت خاتمة فصل من فصول رواية لمجموعة من الناس المنفيين الذين ربطتهم فيما بينهم ثقافة المنفى.
الآن نجد نفسنا في المرحلة الثالثة من الرحلة، بعد أن توقف الطريق للركاب الثلاثة، ولم يزل مستمرًا للسائق:
"قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجهًا إلى خارج المدينة النائمة..." (ص 147)
يتقدم أبو الخيزران تدريجيًا في الصحراء الغارقة في العتمة، يلقي الجثث حيث تُلْقِي البلدية قاذوراتها، ويسحب النقود من جيوبها بعناية، ثم يعدو على رؤوس أصابعه، لتنبثق هذه الفكرة في رأسه:
"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟" (ص 152)
لصرخة أبي الخيزران هذه دلالة رمزية سنحللها في وقت لاحق.


يتبع 5 – أبعاد الموضوعة الأساسية للطريق كعنصر بِنيوي