الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 21


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5081 - 2016 / 2 / 21 - 12:51
المحور: الادب والفن     

4 – بنية الحدث

أ – مكان الحدث

جرى تطبيق نفس تقنية التجريد والتشخيص على مكان الحدث، وبهذا الخصوص يمكننا تمييز نوعين من الأمكنة: العامة والتاريخية.
في حالة التجريد المحلي تظهر أماكن مثل المستشفى، ففي قصة "لا شيء" (23) مثلاً، يقتادون جنديًا إلى مستشفى المجانين، دون تحديد للمكان أو حتى لاسم المكان. إن هذا المستشفى "أيًا كان" هو في الوقت نفسه المستشفى بمعناه العام حيث يعالج المرضى. بإعطائه بُعْدًا كهذا، يسحب كنفاني منه خِفية كل أهمية بالنسبة للدور الذي يلعبه في القصة. وحسب العُنوان الذي تحمله القصة "لا شيء"، هذا المكان افتراضي، فهو لا يؤثر على مجرى الأحداث، لأن لا شيء يحدث فيه، ولا يُستخدم إلا كحجة لجعل الشخصية تتكلم، والحقيقة أن ما يهم هنا أكثر من المكان هو اعتراف الجندي.
لنوضح دلالات أمكنة أخرى مثل: المنعطف، التراب، الطريق، في قصة "الأخضر والأحمر" (24).
تتكرر هذه الأماكن باستمرار كلازمة موسيقية، إلا أنها غير محددة. "المنعطف" هو المجهول، القدر الذي يترصد بمن يتابع "طريقه المعتم" في "التراب"! أين؟ لن نكون مخطئين لو تجرأنا وقلنا: في أي مكان، لكننا نستطيع أن نبتعد أكثر لنقول إن "المنعطف" هو المعلوم، الموجود، وبالتالي لا يمكن تفاديه (25). من ناحية ثانية، التراب هنا ليس متطابقًا مع التربة الجميلة الناعمة، إنه بالأحرى "حار جاف"، وقد أُجبرت الشخصية القصصية على أن تعيش عليه ومنه تتغذى: "أن تأكل ترابًا وتتنفس وتشرب عصير التراب." (26)
هذه الكلمة "تراب" يجري تكرارها ثلاث مرات بعد ذلك، على نفس السطر، وتكمن أهميتها في تعييناتها المختلفة لا في دلالاتها. باستطاعتنا إثبات أن "المكان" يتطابق مع الدلالة التي يحملها، بينما الأحداث الناجمة عن تعيينات المكان وحدها المحدَّدة.
يمكن تطبيق نفس التفسير على "الطريق" عند السؤال: "أين سينتهي بك الطريق الضيق الشاق؟" (27)، فهو بالتالي الطريق الذي يجب علينا جميعًا أن نقطعه مرة واحدة في حياتنا.
من الملاحظ أن الراوي يستعمل صيغة الأمر عندما يتكلم عن هذه الأماكن الثلاثة، فهي ترمي إلى تحديد مرحلة أُجبرت عليها حياة كل فرد، يدعمنا في ذلك عُنوان القصة المفعم بالرمزية، فالأحمر هو الدم، إنه العرق والتعب اللذان يجب على الفرد إنفاقهما للحصول على الأخضر، على الأمل. باختصار، النتيجة هي التي تسيطر: الأخضر، لا الوسائل: الأمكنة.
يتبنى النوع الثاني من الأمكنة التاريخية تقنية التشخيص في "الأفق وراء البوابة" (28)، حيث ينزل البطل الرئيسي في فندق، قبل أن يعبر بوابة مندلبوم إلى القدس العربية. القدس وبوابة مندلبوم تحددان أحداث القصة، وتربطانها بسياق واقعي لا يمكنها معه أن تنطبق على سياق آخر.
كذلك في قصة "ثلاث أوراق من فلسطين" (29)، هناك ذكر لا للبلد فقط (العُنوان الرئيسي) بل وكذلك للمدن الثلاث (التي ظهرت في العناوين الصغيرة) الرملة في الوسط، الطيرة في نواحي حيفا، غزة في الجنوب.
تدعم هذه الأماكن العينية الطابع المحلي للمضمون، بمعنى أن للأحداث الدائرة روح المدن الثلاث، فما يجري لساكن معين من دائرة معينة لا يجري بالضرورة لساكن آخر من دائرة أخرى. ازدادت هذه السمة المحلية بروزًا عَبر القصص الثمانية مع ذكر اسم الحي والشارع والجامع والمستشفى، مثل حي الشجعية في غزة (30)، وشارع الكرمل في حيفا (31)، وجامع الشيخ حسن (32)، ومستشفى غزة (33).
وإذا وازينا بين قصتي "ورقة من الطيرة" و "أرض البرتقال الحزين"، رأينا كيف يشرح الكاتب ظروف الرحيل بدءًا من تداخل الأماكن العينية والأماكن المجردة.
تكشف "ورقة من الطيرة" عن الشخصية القصصية: مناضل فلسطيني قديم، يقف عند أحد منعطفات شوارع دمشق، ويروي للكاتب ذكرياته عن الوقائع التي سبقت احتلال فلسطين عام 1948، يقول كيف وقعت الهجرة، فتتكرر كلمة فلسطين ست مرات في فقرة (34).
يتكلم عن فلسطين ضائعة، وعمن أضاع فلسطين، ينتقد البيروقراطيين الذين لم يفعلوا سوى الكلام عن فلسطين، وهم يدخنون السجائر، ثم يذكر كيف امتد الكفاح، وأين. لم يكن الكفاح في القدس فقط بل وفي كل مكان(35)، معركة ميكور حاييم (36)، إضرابات العمال في مصفاة بترول حيفا (37)، الانتفاضات الشعبية في هادار ضواحي حيفا وفي الشوارع (38).
أَجبرت هذه الأحداث المحلية السكان على ترك يافا إلى عكا (39)، بينما انتقلت عدوى الهزيمة إلى كل البلاد، فأُرغم السكان من جديد على ترك عكا: "كانت الحبيبة عكا تختفي شيئًا فشيئًا من منعرجات الطرق الصاعدة إلى رأس الناقورة" (40)، "وحقول البرتقال تتوالى على الطريق" (41). ثم الوصول إلى رأس الناقورة على الحدود اللبنانية حيث "بدأ الرجال يسلمون أسلحتهم إلى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض" (42)، ويقطعون الحدود، "وعندما يصلون صيدا في العصر يصيرون لاجئين" (43).

ما هي دلالة الأمكنة في هذا العمل الأدبي كله؟

أوضح كنفاني عند ذكره لهذه الأمكنة وقائع تاريخية عينية بواسطة تقنية أدبية محضة، فعرض للأماكن التي جرى فيها الكفاح، ولمراحل الهجرة بالترتيب، ونتيجة لذلك، حددت الأماكن طريق الطرد من الوطن بالقوة، هذه الطريق التي يصفها كنفاني بالصعبة والشاقة في قصة "ورقة من الطيرة".
لنذهب بتحليلنا إلى نقطة أبعد عندما نقول إن عملية الطرد هي أيضًا صعبة وشاقة، وهي قابلة للانطباق على المكان: الطريق. أية طريق؟ طريق الشعب الفلسطيني الذي بدأ مساره إلى المنفى. نحن نجهل بدورنا إلى أين ستقوده هذه الطريق، ونعلم، في الوقت ذاته، أنها لا تفتح أفقًا واضحًا نحو المستقبل، لكنها ليست أيضًا بلا مخرج –زيادة على ما سبق تُظهر هذه الطريق امتداد الدياسبورا الفلسطينية- ففي قصة "قتيل في الموصل"، يهرب البطل من اللد، وينتهي به المقام في الموصل حيث يلقى حتفه (44).
طبعًا، يمكن لِمن قيل مثلاً في شخصية قصة "قتيل في الموصل" أن ينطبق على كامل الدياسبورا التي تعيش في وسط عربي، ثم كل أعمال كنفاني تذكر أماكن مثل الكويت، قطر، أبو ظبي، لبنان، الأردن... والتي هي عبارة عن مسرح أحداث الشخصيات القصصية.
وعلى العكس، لدينا في قصة "ورقة من غزة" وجه آخر للشكل، إذ يرحل البطل إلى الكويت أولاً ليجمع ثروة توفر له العيش في ساكرامينتو (ص ص 341-350)، هنا تتحدد الدياسبورا الفلسطينية ضمن سياقها الدولي.
حتى أننا يمكننا أن نقول إن هناك علاقة بنيوية بين هذين النوعين من الرحيل، ترتبط بظاهرة الاقتلاع، حيث تكمن بشكل جوهري كل مشكلة المنفى: حتى ولو كان المنفي في وسط عربي، فسيشعر بنفسه غريبًا بين أخوته. لهذا لن تبدل حالته، في وسط مختلف، شيئًا من الواقع.
على ضوء تفسيرنا هذا، نستطيع أن نفهم لماذا سعى كنفاني إلى استعمال التجريد والتشخيص في أعماله، فقد ساعده التجريد على إبراز قدر فرد يمكن أن يكون مطابقًا لقدر كل الأفراد، واستعمل التشخيص فيما يخص الشعب الفلسطيني فقط، مشاكله، معاناته، منفاه، دون أن يعني ذلك بالضرورة شيئًا لغيره من الشعوب. لهذا كان الأسلوبان المستعملان متكاملين، ولم يكونا متناقضين: عند توضيحهما الخاص يمتدان إلى العام.

ب – زمان الحدث

سبق أن رأينا غسان كنفاني يستشهد بأماكن وأحداث تاريخية محددة في أعماله، فهو يهتم كثيرًا بالعامل الزمني ليؤرخ ويتابع تطور الهجرة ابتداء من نكبة 48، ونجده يحدد بواسطة الفلاش باك في "أرض البرتقال الحزين" يوم وساعة النكبة: "وأتى يوم 15 أيار بعد انتظار مُرّ، وفي الساعة الثانية عشرة تمامًا لكزني بقدمه: قم فاشهد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين." (ص370)
يوضح كنفاني بشكل أدق التسلسل التاريخي للأحداث في قصة "قتيل في الموصل" عندما يقول في مقدمته إنه كتبها عام 1959 ليهديها إلى صديقه م الذي ذهب إلى الموصل وانقطعت أخباره، لكنه لم ينشرها لأن قصة صديقه لم تنته في نظره، فأراد أن يكون إهداؤه كالتالي: إلى صديقي م وقبره يغتسل بالشمس الحقيقية (ص 379)، وكان عليه أن ينتظر حتى 8/3/1963.
يبدي الكاتب هنا دقة في اتباع التسلسل التاريخي، أولاً: لأنه ينوي الحفاظ على تاريخ فلسطين. ثانيًا: لأنه انتظر أن يصبح صديقه م ثوريًا، ويكتشف حقيقة قضيته: القبر الذي يغتسل بالشمس الحقيقية. ثالثًا: لأنه يبني سلوك بطله على أساس علاقاته به، علاقاته التي هي علاقات النص السابقة واللاحقة ما بينها، فحسب عالم اللسانيات جريماس، تُعتبر الوَحدة الخطابية، التي هي القصة كتسلسل تعبيري، بوظائفها وإسناداتها، وهي بهذه الوظائف والإسنادات تتظاهر بالقيام لغويًا بمجموعة من التصرفات ذات هدف. بصفتها تسلسلاً تعبيريًا، تمتلك القصة بُعدًا زمنيًا: التصرفات التي تجد نفسها موزعة فيه (في هذا البُعد الزمني) تحافظ ما بينها على علاقات سابقة ولاحقة.
ويقوم نوع آخر من التقنية الزمنية بتحديد عدد السنوات التي انقضت منذ نكبة 48: في قصة "أبعد من الحدود" يقول البطل: "إنه سؤال صغير يمكن للمرء أن يطرحه ولو بعد خمس عشرة سنة." (282) إذا أخذنا العام الذي كُتبت فيه القصة (1962) لاحظنا أن هناك خمس عشرة سنة تفصلنا عن النكبة. تتكرر هذه الطريقة في قصة "الأفق وراء البوابة" التي كُتبت عام 1958 حيث يقول البطل: "يجب أن أضع حدًا للكذب الطويل الذي مارسته مختارًا أو مرغمًا، لست أدري، طوال عشر سنين." (292)
قصة "السلاح المحرم"، تدور أحداثها في فلسطين قبل 1948، مقابل ذلك، قصة "ورقة من الطيرة"، تدور أحداثها عام 1948، بينما ترقى قصة "ورقة من الرملة" إلى شهر تموز 1948. تشير هذه التواريخ الثلاثة إلى أهمية السنة المعينة والمستعملة كمرجع لتحديد بداية ونهاية عصر بقي أثره عميقًا على الشعب الفلسطيني أجمع. البعد الزمني الذي تقام عليه القصص كحكايات درامية، حسب جريماس، ينقسم ثنائيًا إلى قبل مقابل بعد، قبل النكبة وبعد النكبة، هذا القَبْل مقابل البَعْد الخطابي يطابق ما نسميه "انقلاب الوضع". على مستوى البنية الضمنية، انقلاب الوضع ليس شيئًا آخر سوى قلب إشارات المضمون (تقول أحداث قبل 1948 غير ما تقوله أحداث بعد 1948، الأولى عن رغد العيش والثانية عن شقائه، وفي السياق الكنفاني الأولى عن الكفاح والثانية عن المنفى، أحداث مفروضة كمضمون)، وهكذا توجد علاقة متبادلة بين المستويين، بين قبل (المضمون المقلوب) وبين بعد (المضمون المفروض).
إلى جانب هذا الزمن التاريخي يوجد زمن تجريدي: "أيار يبرعم في جبينه وكفيه وأضلاعه" (الأخضر والأحمر ص 353)، "كل لحظة، كل ساعة، كل يوم، ووراءه كان يجري جدول الدم كأنه يلاحقه، كأنه قدره" (ص 358)، "عند منعطف أيار قبل سنوات وسنوات" (ص 359)، "صار عمرك أربع عشرة سنة، أربعة عشر أيار من فوقك" (ص 360/عام 1962). يرمز شهر أيار إلى شهر النكبة، مما يؤكد مرة أخرى ملاحظتنا السابقة حول أهمية هذا التاريخ كمرجع. ويتركز التجريد على هذا الشهر مشيرًا، في نهاية الأمر، إلى الانسحاق والقدرية بصورة عامة. تتطابق هذه الخاصية في السرد، حسب جريماس، مع بيان الوقائع، فالمضمونان النموذجيان اللذان أحدهما مفروض والثاني مقلوب، يضمان مضمونين آخرين في علاقة متبادلة ورابط تحويلي واحد بينهما كما هو عليه في المضمونين النموذجيين. أيار كمضمون مفروض هو شهر النكبة، وكمضمون مقلوب هو شهر الربيع، لشهر النكبة مضمون الانسحاق والقدرية، ما هو مفروض، ولشهر الربيع مضمون البراعم والزهور التي هي براعم الدم وزهوره، ما هو مقلوب.
من ناحية أخرى، عندما يذكر كنفاني السنوات أو الأيام لا يحدد التاريخ بالضبط: سنوات وسنوات، كل ساعة، كل يوم... إلى آخره، فما يهمه تحديد إشكالية وصفه للعالم القصصي ككلود ليفي-شتراوس، المركِّزة على الميزات الشكلية لبنية "لازمنية"، تكون عامة وتاريخية في وقت واحد.
بإمكاننا أن نقف على تعاقبية واضحة بين زمان مجرد وزمان مشخص: "صار عمرك أربع عشرة سنة، أربعة عشر أيار من فوقك"، لتَبِين العَلاقات المتبادلة بين التجريد الزمني والتشخيص الزمني. هنا أيضًا يمنح التجريد العصر المعني بُعدًا لازمنيًا واسعًا يجعل من شهر أيار، شهر البؤس الفلسطيني، شهرًا للبؤس، مما يقودنا إلى القول بوجود تأكيدات تاريخية لا شك فيها، نستطيع أن نحدد بواسطتها توقيت التاريخ الفلسطيني، ومع الأسلوب الرمزي والمجرد أحيانًا، بوجود تأكيدات لاتاريخية، كونية.


المراجع
(23) ص 395.
(24) ص ص 353-365.
(25) ص 354.
(26) ص 359.
(27) ص 358.
(28) ص ص 281-296.
(29) ص ص 319-350.
(30) جاء ذكره مرتين ص 342 و 349.
(31) ص 333.
(32) ص 337.
(33) ص 346.
(34) ص 330.
(35) ص 332.
(36) ص 331.
(37) ص 334.
(38) ص 333.
(39) ص 363.
(40) ص 364.
(41) ص 364.
(42) ص 367.
(43) ص 367.
(44) ص ص 379-391.


يتبع 5 – البنية السردية
أ – بنية الحوار