الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 5


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5066 - 2016 / 2 / 5 - 13:27
المحور: الادب والفن     

2 – انحطاط الجمال وارتقاؤه في الأدب العربي

أ) انحطاط الجمال العربي
بدأ الجمال التقليدي يتحول بين الحربين العالميتين، وقد احتل الكتّاب المِصريون المقام الأول في عملية التوجه الجديد نحو رفع مستوى الوصف اللغوي، وكل ما يتعلق في هذا المجال بالنُّظُم اللغوية التي لا يمكننا عزلها عن المتغير التاريخي إلا لضرورة نقدية وبشكل مؤقت، كما يرى دو سوسير. تميز الواقع التاريخي في ذلك العصر، مثلما ذكرنا في الفصل السابق، بالكفاح ضد الاستعمار في فلسطين، ولكن أيضًا في العراق وسوريا ومصر، وتمخض الاستعمار الجديد، بعد أفول نجم الإمبراطورية العثمانية العجوز، عن إخفاق النظام الإقطاعي القديم في هذه المنطقة من العالم. كشف هذا النظام عن عدم قدرته على مواجهة التحدي الحياتي، وكان التعبير عن عدم القدرة هذا بتنامي الضيق الاجتماعي. لأول مرة منذ قرون، بدأت الشرائح الشعبية تحتج على حالة الركود، وتطالب بتغيير الشروط الاجتماعية، فأدت الانتفاضات إلى استقلال بلدين عربيين، نعرض بشأنهما مقتطفًا من تقرير اللجنة الملكية البريطانية عام 1937، نقله إميل توما: "في شتاء 35-1936 شهدت المنطقة انبعاثًا في النشاط القومي في مصر وسوريا، وكان على درجة من الحيوية في القطرين بحيث حقق أهدافه خلال بضعة أشهر، وفاز القطران بالاستقلال القومي." (17)
إن للانطلاقة الرامية إلى الاستقلال في كل من مصر وسوريا محتوى اجتماعيًا موازيًا للثورة الفلسطينية عام 1936، وهي الحركة التي أصبحت قوة سياسية على الرغم من طابعها العفوي واللامنظم، كما يتابع المؤرخ إميل توما: "اندلعت (الانتفاضة) في مصر في شهر تشرين الثاني 1935 على شكل مظاهرات عنيفة اجتاحت القاهرة وغيرها من المدن، وأدت إلى مصادمات مع قوات الأمن وسقوط قتلى وجرحى، وإضراب عام في القاهرة جرى في 21 تشرين الثاني 1935، وتحرك شعبي ديناميكي أجبر المضربين على تأليف جبهة وطنية في 10 كانون الأول 1935، طالبت بإعادة دستور 1923، والاعتراف عمليًا باستقلال مِصر." (18)
جرت الأمور نفسها بخصوص سوريا حيث شُن إضراب عام سنة 1936، "وانتهى هذا الإضراب –كما يضيف الدكتور توما- بعد حوالي خمسين يومًا في مطلع آذار 1936 بعد أن تعهدت الحكومة الفرنسية بإعادة الحياة النيابية إلى سوريا، وعقد اتفاق مع حكومة قومية ينص على الاعتراف باستقلال البلاد." (19) لنربط هذه الانتفاضات بانتفاضات الشعب الفلسطيني كصفة نضالية للشعوب العربية عريقة، وكطريقة شعبية ناضجة للحصول على الاستقلال.
يجدر بنا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه التحولات داخل البنية الاجتماعية العجوز لنفهم التعديلات التي طرأت على القيم الثقافية القديمة، والعوامل التي كانت من وراء لغة أدبية جديدة. لقد وجدت تلك القيم القديمة نفسها متخلفة بالنسبة إلى التطور الاجتماعي، وبعيدًا عن كل تبسيط أصبحت اللغة المستعملة نظامًا أكثر تطورًا، له قواعده الخاصة ببنيته، وفي الوقت ذاته له دوره في تجديد علاقات هذه البنية الداخلية. وبالمناسبة نورد مثلاً على النمط الأدبي القديم عباس محمود العقاد الذي يدافع في كل إنتاجاته الأدبية عن القيم الميتة ممتدحًا العهود الإقطاعية البائدة ومقاتلاً كل أشكال الفكر المخالفة لفكرها.
فما هي هذه القيم القديمة؟ ما هو مستوى العلاقة اللغوية المولدة لهذه القيم؟
يعطي العقاد في وصف واسع للعصر الإسلامي الأول تحت عنوان "العبقريات" تمجيدًا "للشخصية العبقرية" التي تمتع بها الخلفاء الأوائل، أولئك الرجال المؤسسون الذين لا ننفي عنهم قوة الشخصية. لكن عدم التمييز بين صفة التأسيس العملي وصفة العبقرية المطلقة يكشف عن فكر العقاد المشوه، المكرس لصالح القديم، خاصةً عندما يعارض العالم الواقعي بعالم وهمي روحي مجرد: "وللعباقرة على الجملة ولع بعالم الغيب، وخفايا الأسرار، على نحو يلحظ تارة في الزكانة والفراسة، وتارة في النظر على البعد، وتارة في الحماسة الدينية، أو في الخشوع لله." (20)
لنفهم من هذه التصورات أنها تدور حول قيم شخص نادر واستثنائي تتالت عناصر اللغة فيها بثنائية اعتمدت على علاقات سياقية تكمن أولاً في التعارض والتناقض القائمين بين الفرد ومجتمعه (21)، وثانيًا في تقييم الخواص الأرستقراطية المقنّعة تحت شكل أخلاقي أرستقراطي. لقد أحس المنظرون العرب بسقوط هذه القيم الجمالية سقوط السلطة السياسية التي تمتلك هذه القيم كنتيجة مباشرة للتحولات الاجتماعية مثلما يبرز ذلك جلال فاروق الشريف عندما يقول: "وكان لا بد لأية تحولات في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي باتجاه إسقاط هذه السلطة من أن تؤدي إلى إسقاط سيطرة الكلاسيكية على الشعر العربي المعاصر." (22) لكننا نخفف من هذا الحكم القطعي اعتمادًا منا على العلاقات التي تتشكل بين الكلمات ذاتها وتفاعلات الوحدة اللغوية مع الوحدات الأخرى في بنية عمل ما.
أصبحت قيم ذلك الجمال التقليدي إذن بالنسبة لوقتنا الحالي متخلفة، بمعنى أن ذلك الجمال يعمل مباشرة بواسطة قيمه الماضية ضد قيم حقيقية ولغوية جديدة، حاولت ليلى بعلبكي –نضيفها هنا كمثل آخر- تزييف هذه القيم اللغوية والحقيقية الجديدة تزييف العملة في رواية "أنا أحيا"، وذلك عندما اختارت أبطالاً مشوهين، ادعت أنهم يرمزون إلى قطاعات اجتماعية تمثيلية، ففصلت الدال عن مدلوله، وانهار التوازن بينهما. لقد اعتبرت الكاتبة نفسها متمردة، وروايتها المذكورة، بل كل إنتاجاتها تقول عنها سلطوية صغيرة قلقة، تتكلم عن "أزمة الفرد في المجتمع الأوروبي" داخل المجتمع اللبناني بعد أن نسختها عليه، وتركت جانبًا المشاكل اليومية للفرد اللبناني، فليس باستطاعتها على أي حال أن تفهم هذه المشاكل بسبب بنيتها الفكرية العاجزة عن ربط بنية فكرية أخرى بقيمها، وكأنها تعيش في كوكب آخر، وكما يقال ليس من نفس المنظار يرى الواحد أو الآخر العالم، لكل تصوره الخاص، فما أفرزت بعلبكي سوى فكرها العاجز، وما أعطت سوى نموذج جمالي لم ينجح في التعبير عن العلاقات المكونة لبنيته. هذا التعبير لغوي قبل أي شيء آخر، إنه النفي للتماثل بالمفهوم "البارتي" (بالنسبة لرولان بارت) الذي يؤكد القيمة الاستكشافية فيه، والذي يتضمن تطابقًا بين اللغة والأدب، فاللغة لا تتوقف عن مصاحبة الخطاب، وذلك بمدها إياه مرآة بنيتها.


يتبع ب) ارتقاء الجمال الجديد