رعب - المشهد السابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5033 - 2016 / 1 / 3 - 16:06
المحور: الادب والفن     

أمي ماتت منذ خمس سنين، أعرف سبب موتها، لكني أخذت جثمانها إلى المستشفى للتشريح، تركته في الطابق التحت الأرضي، ووجدت نفسي في الطابق الأخير. ابتسمت الممرضات لي، وأنا أدخل الحمام لأحلق، ففتحت عليّ الباب إحداهن، وضمتني من ظهري. فرشنا على السطح بساطًا، وجلس بيننا حفيدي. نهضت الممرضة، فقلت لحفيدي أن يناديها لأنني نسيت اسمها
ألكسندروفيتش، نادتني الممرضة، وهي تنظر من فوق، يأخذون سيارة أمك الحمراء إلى المحشر
ونحن في السرير، سألتها عن اسمها، فبكت
ونحن نأكل بوظة، سأل حفيدي لماذا لم تشأ جدته المجيء معنا، جدته تحب البوظة
ونحن نركب سيارة أمي الحمراء، سألتنا أمي إذا كانت البوظة لذيذة
تمشينا، أنا وحفيدي، في شارع الشانزلزيه، وأنا أحمله على كتفيّ
انظر! صاح حفيدي مشيرًا إلى الممرضة، وهي على وشك الإلقاء بنفسها من أعلى قوس النصر
سقطنا، أنا وحفيدي، من أعلى قوس النصر، ونحن نصرخ من الرعب، فاستيقظتُ من نومي
كان موعد تبولي ككل مرة على الساعة الثانية وإحدى وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل، ساعتي البيولوجية مضبوطة هكذا منذ سنوات وسنوات، أقوم، وأنا يسحقني النعاس، وأشخ، أحيانًا أرغم نفسي على الشخ، تحت مداحل رغبتي في النوم، فلقيامي ثمن غال يجب عليّ أن أدفعه، ولو ببضع قطرات. بعد ذلك، أعود إلى السرير كفوج من الجنود المنهزمين، المثخنين بالجراح
أبقى مفتوح العينين، جسدي كالحديد، والعالم كالزجاج، لا أفكر، أو أنني أفكر أنني لا أفكر، فأسقط في التوهم، وهذا ما يدعى خداع الحواس
تسحقني مداحل رغبتي في النوم، فألعن، وأتوسل، أتمرد، وأخضع، أبكي دون دمع، أمر الدموع الدمع دون دمع، وأستسلم
أنظر في الظلام، ولا أنتظر، الانتظار والاستسلام شيئان متعارضان، ينتهي أحدهما بابتداء الآخر، أو يبدأ أحدهما بانتهاء الآخر
تهجم الصور
مشانق
أعدها: 47 مشنقة
مشانق تعلو كأعناق التنين، وتبصق النار
مشانق تعلق بها رؤوس الأنبياء
والأقمار
فتضيء فوانيس الحرية
في العواصف
مشانق
حقائق
حرائق
حدائق
أسمعُ أنغامًا رومانسية "لبرامز"، فأرتعد
أدفن رأسي في مخدتي، فتطاردني صور الموسيقيين، وهم يقومون بنفس الحركات الميكانيكية، على الكمان، على البوق، على الكونترباس، نفس الحركات المضحكة في كل هذا المصاب، نفس النوتة، وبالتالي نفس النغمة
أنغام صامتة
أنغام أراها تحت مداحل رغبتي في النوم، فقط أراها
كالمشانق في العواصف
أشمها
لها رائحة الغبار
رائحة الغضب
غبار باريس كغبار مكة للأنغام رائحة الحرية
تحت الدكتاتورية
دكتاتورية الدكتاتورية ودكتاتورية الديمقراطية
أنغام تصرخ بالصمت، وحركات، لا شيء غير حركات، كاريكاتورية كحركات الجلادين، لهذا يعجز الجلادون عن الجد إلا بحد السيف
بعد ساعات طويلة من عدم القدرة على العودة إلى النوم، تفتح أفعى ضخمة من فصيلة البواء فمها، وتأخذ بالتهامي من قدميّ، فساقيّ، فكفليّ، وأنا كلي استسلام، وكلي حبور، وكلما دخلتُ بجسدي في حلقها، كلما غبتُ بوعيي عن كل ما هو حولي، حتى يزلق رأسي أخيرًا في جوف الرحمة
بابا! هل نمت جيدًا؟ تسألني ابنتي الصغرى
كالعادة، أهمهم متثائبًا
كالعادة! كالعادة! تتهكم ابنتي الوسطى
أنا نمت كالطفل الوليد، تقول ابنتي الكبرى بمرح
بابا لا ينام جيدًا لأنه يفكر كثيرًا، تعود ابنتي الصغرى إلى القول
والله لا أفكر، أرد بعصبية
بابا! لا تكذب، تقول ابنتي الوسطى
بابا لا يكذب، تدافع عني ابنتي الكبرى
بابا يكذب، تصر ابنتي الوسطى على رأيها
ككاتب، شيء طبيعي ككاتب، تبرر ابنتي الكبرى
بابا مولع بالكذب، تؤكد ابنتي الوسطى
حياتنا كلها كذب، ترمي ابنتي الصغرى
هذا صحيح، أقول، حياتنا كلها كذب
حياتنا غائط! تقول ابنتي الكبرى
هذه السنة، لم يكن لنا قلب على الاحتفال برأس السنة، قالت ابنتي الصغرى
حياتنا غائط! تعيد ابنتي الكبرى القول
كما تقولين، تؤيد ابنتي الوسطى
يفعلون كل شيء لتكون حياتنا غائطًا، قلتُ
أترى بابا؟ تقول ابنتي الصغرى، أنت لا تنام جيدًا لأنك تفكر كثيرًا
الكبار الذين يتحكمون بمصائر البشر، أضفتُ
حياتنا غائط! تقول ابنتي الكبرى للمرة الثالثة
كما تقولين، تؤيد ابنتي الوسطى من جديد
يشنقون السعوديين، وحياتنا ليست غائطًا؟ تتساءل ابنتي الصغرى
يشنقون السعوديين
الحياة
يشنقون الحياة
باسم الكذب
يشنقون السعوديين باسم الكذب
أبناء الكذب يعدمون السعوديين باسم الكذب
المشانق هي الحقيقة، هتفتُ
الوحيدة
حقيقتنا
كل الحقائق
حقيقة الحقائق
بابا! أحبك، تقول ابنتي الكبرى، وهي تطبع قبلة على خدي
ونحن أيضًا نحب بابا، قالت ابنتاي الوسطى والصغرى، وهما تطبعان قبلتين على خديّ


يتبع المشهد الثامن