العصافير لا تموت من الجليد القسم الثالث الفصل الخامس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4967 - 2015 / 10 / 26 - 10:00
المحور: الادب والفن     

لم نُقِمْ في فندق على حساب البلدية، كما وعدونا، وقضينا نهارنا بين أنقاض بيوتنا المحترقة. في المساء، انعطفنا على أنفسنا، في الأسود الدامس، كل واحد في زاوية. ومن وقت إلى آخر، كانت تصلنا الأصداء المختنقة لتضرعات أم أندريه، أصداء يقطعها السعال الحاد لأنطوان.
في اليوم التالي، ذهبنا إلى البلدية، وحصلنا على نفس الجواب: فنادق الحي مليئة بالنزلاء الصينيين الذين يأتون لا ندري من أين! وفي أماكن أخرى؟ أجابونا أنهم من المستحيل إرسالنا إلى الهيلتون! حين عودتنا، قررنا ترميم ما يمكننا ترميمه بأنفسنا، دون انتظار شركة التأمين، المتواطئة مع متعهدي بناء ناطحات "للعِرق الأصفر" محل سُكنانا. هم لديهم الأموال، ونحن لدينا الآمال. شمرنا عن سواعدنا، بعد أن تشاركنا في شراء الأدوات والمواد اللازمة.
بعد عدة أيام، أعدنا أبوابنا ونوافذنا، وجلونا جدراننا.
خلال كل هذا الوقت، كان حسين يسكر بين جدرانه الأربعة شبه المهدمة. وبينما كنا نعمل، كان يأتي، بوجهه الباهت، ويرفع نحونا إصبعًا مهددة: لو سمعناه، وأحرقنا عيادة مومس الطبيب البيطري هذا لما حصل شيء!
في رأيه، البيطري هو من دبَّر كل شيء، لأن حسين لديه البرهان القاطع على أنه يرسل أسلحة إلى الكتائب.
ثم أنهى بتهكم:
- لو كان عادل هنا، لأضاف إلى الكتب التي ينوي كتابتها كتابًا آخر مفيدًا، يا مومس الفيلسوف!
وأطلق ضحكة مختنقة.
أخبرني أن أخاه قد هرب مرة أخرى من سجون الأراضي المحتلة، فأمسكه "إخوتنا العرب" على الحدود، وأعادوه من حيث أتى.
- الأحوال صعبة! تابع، خؤونة! مومس غائط! الطوق يضيق حولنا، في بيلفيل، في بيروت، في الأراضي المحتلة. إنه-الخراء-الأسود-للجميع!
بدا حسين دميمًا ومغتربًا، كان يرى عالمًا ينسجم مع تعاساتنا، نحن، أطفال الشهوة.
فجأة، صاح:
- لكن انتظر، يا مومس المومس! انتظر قليلاً، وسترى. ما دامت البنادق تتكلم، النصر أكيد.
جرع كأسه، وحكى لي أنه لا يمكنه التفاهم مع جاك، الذي سرقه، بينما هو، سعى لإنقاذه من قدره الرديء. اكتشف أنه لوطي، وانتهى به الأمر إلى طرده. لا ينقصه سوى هذا، أن يعاشر المماحين!
- حتى ولو أيد جاك قضيتنا، قال، يومًا ما أصوله البرجوازية هي التي ستغلب، وسيبقى مومسَ غائطٍ قذر! منحطًا! رجعيًا!
كنت أعرف أنه يخلط كل شيء، فلم أعبر عن احترامي للاختيار الجنسي لجاك. بعد أن أغمض عينيه مرتين بقوة، سألني عن أخبار مارتين.
- لا خبر، قلت.
أوسعني شتمًا، وضرب بقدمه الأرض:
- يجب ألا تنتظر المعجزات، يا مومس المومس! يجب أن تشتري سلاحًا، وأن تجدها بنفسك، بقوتك، دون أن تعتمد على أحد، مع احتمال أن تقتل الذين يعارضونك. يجب ألا تعمل مثل هذا الغائط رونيه، قتلوا ابنه، ولم يفعل شيئًا.
أردت أن أقول له إننا نعد لشن إضراب عام في كل فرنسا، لأجل ابن رونيه، لأجل ألبير وبيير ومارتين، ولأجله! فضلت السكوت، وأنا أراه يشرب كالمرحاض، دون أن يستطيع الارتواء أبدًا.
بدا لي أن الجدار الذي يسد الرَّدْب من وسطه يتحدانا هذه المرة أكثر من أي وقت. تذكرت مارتين التي اقترحت عليّ ذات يوم أن نفتحه. كان ذلك في يوم عرسنا. قلت لنفسي: نعم، لِمَ لا نفتحه؟ نزلتُ، ووقفتُ طويلاً أمام الجدار. ذهبتُ بعد ذلك إلى المستشفى، وعلمت أن بيير، طائر الحرية ذاك، قد مات. كانت الحيلة التي قتلته لا الإغراء.
خلال اجتماع الخلية، صوتنا على الإضراب بالإجماع، ووجدتني عند سقوط الليل، جنبًا إلى جنب جورج الأشقر وشارل والمارتينيكي، ونحن نلصق على الجدران نداء الحزب من أجل الإضراب. كان الأشقر قربي، وهو يغطس الفرشاة في الصمغ، ويسحبها إليه.
- سنصيب مصالحهم في الصميم، قال بشجاعة، سنزرع في بنوكهم الرعب، ليرجعوا عن إغلاق المصنع، عن هدمه،...
- عن حرقه كما حرقوا المواد الأولية، قاطعه المارتينيكي.
- ...عن هدم قناة سان-مارتن، وليعيدوا لنا ألبير ومارتين.
واجتر لنفسه: "تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم..." بلا نهاية.
كرست الصحف صفحتها الأولى لنجاح إضرابنا، ونداء نادين. اتجهت الأنظار نحونا، ونحو تل الزعتر. بعد عناء الظمأ، أسقى الأمل قلوبنا. عند المساء، لم يكن دوري لحراسة المصنع، فعدت إلى البيت، وتعشيت مع مارتا. تحدثنا طويلاً عن نجاح حركتنا، ونداء منظمات السلام، لإرسال الصليب الأحمر كما طلبت نادين، لإنقاذ الجرحى، طيور الحرية الآخرين.
رجت مارتا:
- عسى الحرب أن تتوقف، عسى مارتين أن تؤوب.
عند منتصف الليل، سمعتُ طرقات على الباب، فسارعتُ بفتحه، وفي الضوء، رأيت مارتين.

* * *

شيمون وسليم وهما في طريقهما إلى علبة ليل للمثليين...
- هذا الكعب العالي، لم أعتد عليه، قال شيمون.
- ولن تعتاد عليه، قال سليم.
- ليس هذا لأني لست امرأة.
- بل لأنك لست امرأة.
- مساء الخير، يا بنات! قال لهما أحد العابرين.
- هل سمعت؟! عَبَّر شيمون عن دهشته.
- طبعًا بالباروكة والتنورة الضيقة والماكياج، قال سليم، لكنك أنت، لن تكون سوى أنت.
- خنشور مستهتر.
- أنت، فقط أنت، فكل هذا تنكر لا غير.
- خنشور مستهتر، يا ماخور!
- إن كنت ترى الأمور هكذا.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- مساء الخير، يا بنات! قال لهما عابر آخر أراد مرافقتهما.
- تابع طريقك، وإلا قَطَّعتك إرْبًا بقضيبي، نبر شيمون بصوته الخشن.
- لقد أرعبته، المسكين! قهقه سليم.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- وممن أنت غضبان؟
- من لا أحد.
- إذن لا تُخْفِ عواطفك.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- أنت بالفعل لا تخفيها.
- عنكَ.
- هل نسيت العابر الذي أرعبته؟
- سليم، أنا لا أقدر على التخفي، أنت تقول التنكر.
- هذا لا يبدل شيئًا من ميولك الجنسية.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- إذن العب اللعبة، تنكر وكن ذاتك.
- هذا أنت.
- هذا أنا، وأنت تعرف السبب.
- السبب، السبب، أنا أعرف السبب، لهذا لا يمكنني أن أتنكر وأكون ذاتي مثلك، أن أتنكر شيء، وأن أكون ذاتي شيء آخر، خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- لأنك تعتقد أن كل هذا لك، أنني أنا لك كذلك.
- ماذا تريدني أن أعتقد غير ذلك؟
- لو كنتُ مكانك، لاعتقدت مثلك.
- أرأيت؟
- لكني لن أكون مكانك.
- لا توهمني أنك تخليت لي عن كل شيء.
- أنا لا أوهمك.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- هل ترى أينها سنغافورة؟
- لا أريد أن أرى، أريد أن أقضي أمسية مستهترة خنشورية معك.
- لا، بجد.
- أرى أينها سنغافورة.
- لا توجد أرض هناك.
- عرفت إلى أين تريد أن تصل، يا ماخور!
- انتظر قليلاً.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- اتركني أقول كلمتين فقط.
- قل، يا ماخور!
- الأرض عندهم مستنبتات زجاجية بعدة طوابق، يزرعون فيها كل الخضروات، وكل الفواكه، وكل الزُّروع.
- لا مفهوم للأرض عندهم كما هو عندنا.
- لا للأرض كمفهوم بالأحرى.
- والناس، أين تضعهم؟ في المستنبتات كذلك؟
- في ناطحات سحاب، ولكل واحد شقته ببلاش.
- والماء؟ ستأتي به من أين؟ من التوراة؟ من القرآن؟
- من تحلية ماء البحر.
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور!
- لما نشطب على الأرض كمفهوم، نشطب على كل الصراعات ليس فقط بيننا وبينكم بل وعلى كل الصراعات في العالم. انظر كيف يتصارعون كالبرابرة في بيروت! انظر كيف يتصارعون كالبرابرة في باريس! انظر كيف نتصارع كالبرابرة في القدس!
- سنغافورة.
- سنغافورة، نعم، سنغافورة، لا شيء هناك سوى الماء.
وما أن اجتازا عتبة علبة الليل الضاجة بالليل والموسيقى حتى اختطفتهما الأيدي، وفصلتهما عن بعضهما.
- هل فكرت في هذا، يا ماخور الماخور؟ صاح شيمون بسليم.
- فكرت، صاح سليم بشيمون.
- ماذا فكرت؟
- أن تفكر.
- ماذا، يا ماخور...
- أنني لست فقط لك، أن كل هذا ليس فقط لك.
- ...الماخور؟
- خنشور مستهتر، يا ماخور الماخور! قلده سليم.


يتبع القسم الثالث الفصل السادس


• يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".