عناد شبان فلسطين يقلب الاجندة


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4966 - 2015 / 10 / 25 - 20:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


الانتفاضة المقدسية العنيفة والبطولية التي خاضها شبان فلسطين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وفي الداخل الفلسطيني المُحتل، اعادت تدوير البوصلة إلى حيث يجب ان تكون، وارجعت مسألة العلاقة مع اسرائيل إلى نصابها الحقيقي: مقاومة ضد محتل مستعمر استيطاني. جاءت الانتفاضة في وقتها لأنها قالت الكثير ولأنها عنت الكثير. جاءت تحمل رسالة راسخة ومتجددة تؤكد خسران الرهان الصهيوني على قدوم اجيال فلسطينية عزيمتها اقل من اجيال النكبة والفداء والثورة، اجيال سوف تنسى ما حدث وتقبل بالوضع القائم الذي اساسه الهزيمة وقبول اشتراطات المستوطن الكولونيالي. في قلب التفكير الاسرائيلي الصهيوني تكمن المراهنة على الزمن الذي سوف يعمل، بحسب الامنيات الصهيونية، على خفوت الحقوق الفلسطينية، وخفوت المطالبة بها خلال عقود من اللجوء والشتات او تثبيت الامر الواقع العسكري والاحتلالي الباطش. من هاجر ولجأ الى خارج فلسطين لن يستيطع ان ينقل حرارة اللجوء والانتماء والذاكرة الى الجيل الذي يولد في المهجر، ولم ير يوما القرى والمدن والارض التي يحدثه عنها الآباء. سوف تشتغل آلة النسيان الجبروتية وتُدمج الاجيال الفلسطينية الجديدة في عوالم بعيدا عن فلسطين. اما تلك الاجيال التي تولد في داخلها، فتشتغل عليها آلة التهجير المباشر وغير المباشر، لطردهم تدريجيا من البلاد. الهبة المقدسية الراهنة لطمت هذه الاطروحة الصهيونية في وجهها، واجبرت الغالبية من الاسرائيليين على تأييد الانسحاب من القدس الشرقية. لسان حال الشبان الذين حموا الحلم الفلسطيني يقول كيف تأملون من النسيان، وتطلبون من يهود العالم بأسره ان يتذكروا اساطير وخرافات مر عليها ثلاثة الاف سنة، ويحملوها ليأتوا الى ارض فلسطين. الاطروحة الصهيونية بالغة الوقاحة لأنها هي ذاتها قائمة على الذاكرة وتقديسها رغم خرافاتها، وفي الآن ذاته تطالب من الفلسطينيين ان يقوم مستقبلهم على النسيان.
اللطمة الثانية التي وجهتها الهبة الشبابية المقدسية في وجه الفكرة الصهيونية تأتي من زاوية تكسير نظرية "الجدار الحديد"، التي جاء بها فلاديمير جابوتنسكي، احد قادة الفكر الصهيوني المتطرف، في عشرينات القرن الماضي. جابوتنسكي قال ان عرب فلسطين لن يقبلوا بمستوطنين غرباء يأتون من اقاصي الارض ويأخذوا ارضهم، وسوف يقاومون بكل قوة. ولهذا لا بد من اخضاعهم بالقوة الجبارة حتى يفهموا ان بينهم وبين هؤلاء القادمين جدار من الحديد لا يمكن قهره ولا اختراقه. وهم، اي الفلسطينين، لن يهدأ لهم بال ولن تخفت مقاومتهم الا بعد ان يدموا رؤوسهم وهم يضربونها في الجدار الحديد، ويقتنعون بالهزيمة. بعدها، وبعدها فقط، يمكن التفاوض معهم وبحسب شروطنا نحن. نظرية جابوتنسكي هذه احتلت مع الزمن قلب الاستراتيجيات الاسرائيلية، يمينها ويسارها، واثمرت لاحقا اتفاق اوسلو الذي جاء بحسب المقاس الاسرائيلي طولا وعرضا. كل ما جاء ويجيء خارج النص "الاوسلوي" خاصة بعد فشله المدوي، من انتفاضات، من حروب غزة المتلاحقة، من المقاومة السلمية او غير السلمية، وصولا الى الهبة المقدسية، هو تمرد على نظرية الجدار الحديد واعلان بأنها لم تنجح ولن تنجح طالما هناك شعب حي في فلسطين واجيال شابة متمسكة بفكرة المقاومة والهوية الوطنية.
الرسالة الاساسية الثانية لهذه الهبة التي تعيد وصل حلقات الانتفاض والمقاومة ضد اسرائيل واحتلالها هو عفويتها الشعبية وانطلاقها من قلب الرفض الفلسطيني العارم، بعيدا عن القيادات السلطوية، والحزبية، وغيرها. لم توجها اية بيانات صادرة لاحقا بعد ان تفاجأ اصحابها بما يحدث على الارض، ولم يستطع ولا يستطيع احد ان يعلن امتلاكه او قيادته لها. بل ربما امكن لنا ان نقرأ على هامش متنها الاساسي المقاوم، إدانة مبطنة لكل تلك القيادات التي خيبت آمال الفلسطينين على اكثر من صعيد، اهمها صعيد بناء التوافق الفلسطيني وانهاء الانقسام الذي قدم خدمة تاريخية لإسرائيل لم تكن تحلم بها. الانتفاضة المقدسية اشتغلت بعيدا عن الزحام السياسي والتنافسي والتفاوضي والاوسلوي، وتوجهت نحو البوصلة الحقيقية والعدو الحقيقي.
الرسالة الثالثة اقليمية تعيد ترتيب مسألة الاولويات والقضايا، وتعمل على إعادة فلسطين وقضيتها وحقوقها على رأس الاجندة السياسية. في غمار الحروب والتنافسات الاقليمية والحطام الذي ينتشر في المنطقة ضاعت فلسطين، وتحالفت التدخلات الخارجية وحروبها، مع الغباء الاصولي والاطماع الايرانية المتعاظمة على إزاحة فلسطين عن المشهد، واحلال قائمة طويلة من القضايا والازمات التي شغلت الدول والرأي العام. يتحمل اولئك جميعا ومن دون استثناء إغراقنا واغراق المنطقة في وحل الصراعات والحروب الداخلية التي لا طعم لها، والتي كلها خدمت ولا تزال تخدم اسرائيل. انتفاضة القدس وشبانها في طول وعرض فلسطين اعادت وهج فلسطين ومركزيتها الى تلك الاجندة التي لا تني تريد التخلص من عبء تلك القضية والانتهاء منها. رسالة الانتفاضة للجميع، بما فيهم بعض العرب الذين بلغ عندهم "الملل" من فلسطين درجة التخلي عنها والتركيز على غيرها من القضايا، تقول ان دفن الرؤوس في الرمال ليس بإستراتيجية، وانه ما لم تتحقق الحقوق الفلسطينية في التحرير وحق تقرير المصير، فإن المنطقة كلها لن ترتاح او تنعم بالاستقرار.
الرسالة الرابعة للهبة المقدسية البطولية كانت دولية، وهي نسخة موسعة عن الرسالة الاقليمية، وموجهة لصناع القرار في دول المتروبول، وهم في جلهم ممن يريدون الانتهاء من فلسطين وقضيتها، او تناسيها، والالتهاء بالاجندات الاخرى التي كانت في مجملها نتيجة سياساتهم الخرقاء. انتفاضة القدس اربكت الاهمال الدولي والقت خطابا من ساحات القدس كان اهم من كل خطاباتنا فوق كل المنابر، جوهره ان الحقوق الفلسطينية لا يمكن ان يتم نسيانها، ومن دون ان تنجز على الارض فإنه لا استقرار في المنطقة. وان كل مرحلة وكل جيل من اجيال فلسطين عنده العبقرية الخاصة به لمواصلة المقاومة من اجل تلك الحقوق، وضد مغتصبيها الاحتلاليين ومن يعاضدهم ويؤيدهم من قريب او بعيد.