العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الحادي عشر والأخير


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4962 - 2015 / 10 / 21 - 12:53
المحور: الادب والفن     

خرجت نادين مع عادل، قالت لنا بدورها، إنهما تنزها في أزقة الحي اللاتيني، وإنهما أخذا قهوة في شارع سان-ميشيل. كانت عاصفة الربيع في الشارع الجميل تتفجر اخضرارًا، كالقلب الذي يصرخ دون عنف.
سيارات مضيئة في النهار وعابرون.
خطوات مسرعة في الزحام ومتسكعون.
مصابيح قديمة وأكشاك عديدة.
بائعات فطائر وسجائر.
رأت نادين النافورة والتنينين اللذين يبصقان الماء، السياح المحتشدين حولها والحمَام. اعترف عادل لها أنه يحب الحي اللاتيني أكثر من أي مكان آخر في باريس، الحي اللاتيني هو باريس بالنسبة له! كان سعيدًا بوجوده فيه، ثم طَوَّرَ أفكاره عن السعادة. أجابته نادين أن السعادة بالنسبة لها هي أن تختار مهنتك، وأن تشعر بكونك حرًا بالفعل.
وافقها لكنه أضاف أن السعادة هي أن يلتقي كائنان، وأن يشقا طريقهما نحو المستقبل، حتى في عهد تكون فيه الفاشية في الأوج.
- بشرط أن يقاتلا ضد الفاشية.
وافقها مرة أخرى وما لبث أن قال:
- التغلب على الفاشية أو عدمه، عليه ألا يمنع سعادة فردين يتحابان. السعادة ممكنة حتى في أفجع مراحل تاريخ الإنسانية، وفي أضيق الأمكنة، كعش الزوجية مثلاً.
لم تشاطره نادين رأيه، ووصفت هذا بالأنانية المطلقة، بالانطواء، بِقِصَر البصر، مُقَدِّرة أن السعادة غير ممكنة إلا خلال المراحل الأكثر مآلاً للتاريخ الإنساني. في هذا الطور، السعادة يمكن تحقيقها، على نطاق واسع.
كان عادل يقصد شيئًا آخر:
- صحيح، لأكون صادقًا، أريد أن أحب لأجل كل هذا، لكن الرغبة لا تكفي، وكل بداية صعبة. زيادة على ذلك، كيف أجد من اصطفاها قلبي؟ وكيف تجدني؟ ثم هناك شروط: جميلة؟ متوسطة؟ ثورية أم نصف ثورية؟ ثرية؟ فقيرة؟ أنا لا أطرح هذه الأسئلة بالنسبة لي، وإنما بالنسبة للآخرين.
حكى لها قصة الحب التي عاشها في مدينة ليل، لو عمل منها كتابًا –على كل حال هو عامل حسابه على كتابتها يومًا- لتجاوزت قصته روميو وجولييت، رغم أن الحبيبة كانت أمًا لطفلين. إنها الشروط التي نتجرد أمامها: نحن لا ندري كيف نقبلها وفي الوقت ذاته نقبلها، لأننا قبل كل شيء كائنات من لحم ودم.
حكت لنا نادين كذلك أن عادل قد اعترف لها، في المترو، بإعجابه بها. في البداية، ظنت أنها سمعته خطأ، بسبب الضجيج. امتقع وجهه، وارتعشت شفتاه، فاكتفت نادين بالابتسام، دون أن تبدي أية ملاحظة.
- ستعيشين تجربة صعبة في بيروت، قال لها.
كانت المرة الأولى التي يتكلم فيها عن مهمتها، وأضاف متصنعًا الابتسام، أنه سيدعو من كل قلبه أن يكرهها الموت، وأن يحبها الكل.
- حاذري فقط من المثقفين، قال بنبرة أقرب إلى التهديد من الوعيد، المثقف، ثوري ما ثوري، كاتب ما كاتب، مثقف سلطة، لأنه يعرف، الكاتب خاصة، أن لا أحد يوجد ليقرأه، وعلى هذا الأساس، يُجري حساباته، ويُغري رهاناته. الكاتب العظيم إذن عظيم بعلاقاته لا بكتاباته، تغدو كتاباته عظيمة لأنه غدا عظيمًا، وهو أعظم من عظيم لشلته، وبالتالي ليشعر كل فرد من أفراد الشلة بأنه عظيم، وهلم جرا. لهذا واحد مجنون عندنا بقيمة سارتر لا يوجد، وإن وجد عوقب على جنونه بخنقه أدبيًا والتعتيم عليه إعلاميًا. أن تكون كاتبًا هامًا يعني أن تراهن على الخسارة، وهذا ما أفعل، فالشهرة ليست الحياة، النقود ليست الكون، أنا لي رؤيتي، وهذا يكفي. حتى أن الذين لهم رؤيتي سيخذلونني، على اعتبار أنهم أجياف الإيديولوجيا، وهم أجياف الإيديولوجيا لاغترابهم عن الواقع، أنا أعيش في كوكب، وهم يعيشون في كوكب آخر، فأجدني على الرغم مني وحدي.
عندما سألناها رأيها في عادل، لم تتردد عن الجواب أنها إلى حد الآن لم تجد رجلها، وأنها ستجده يومًا.
عند الساعة العاشرة مساء، رافقناها، أنا ومارتين، إلى المحطة، لتأخذ القطار إلى مارسيليا، ومن هناك، ستأخذ الباخرة إلى العاصمة اللبنانية. أعطيتها رسالة لأخي، وقبلتها. قبلتها مارتين، وابتسمت لها.
لم يتأخر القطار عن حملها، وهي تلوح بيدها، حتى اختفت، ولبيروت بدت، منذ اللحظة التي اختفت فيها، بداءة القادم من الزمن السحيق.
أضاءت المصابيح مثل ألف نجم تقاوم الليل، ورفعت رايات الحرب على أرصفة الرحيل.

* * *

قال لنا والد لحسن:
- المحظوظون هم المثخنون بالجراح!
لم نفهم، فأوضح:
- بأنامل نادين تبرأ الجراح، وبتحنانها تلتئم!
ضحكنا، وقلنا:
- في هذا العمر يصبو المرء كما يصبو في ذاك العمر!
ضحك، وقال:
- في ذاك العمر يصبو المرء كما لم يصبُ في أي عمر!
- ماذا تعني، يا جدنا؟
- لم تعرف الجراح الصبابة إلا تحت أنامل الألمانيات!
- الألمانيات! كيف؟
- عرف النازيون كيف يجعلون العالم أجمع غيورًا من نسائهم، أجمل النساء في العالم الألمانيات كنَّ، وكنَّ من الجمال إلى حد الإرهاب، فاقتحمن علينا الوجود، وحولن أحلامنا إلى كوابيس. كانت الشقراوات لهم آلهاتٍ لنا، ونحن عندما كنا نقاتل الألمان لم يكن ذلك لتحرير فرنسا، كان ذلك لاحتلال ألمانيا، وخاصة احتلال فراش الألمانيات. لما لم نقدر على تحقيق ما نصبو إليه، أسقطنا أنفسنا في بؤس خيالاتنا، بل وأكثر، فعلنا ما لا يفعله حتى الذين زين لهم الشيطان، فأطلقنا الرصاص على أكتافنا، وفي ظننا أننا بأنامل الألمانيات سنُبْرِئها.
لمس جرح كتفه، ودمعة حارة تسيل على خده.
قلت لمارتين:
- لأناملك نفس السحر عليّ.
- أنتَ أيضًا مستعد لتطلق الرصاص على كتفك؟
- من أجل أناملك.
- لكل واحد جنونه.
- تعتبرين هذا جنونًا؟
- لكل واحد طريقته في الجنون.
- لكل واحد.
- هواه المضاد للعقل.
- هل تعرفين ماذا كانت تفعل أمي عندما يأتي الجنود إلى دارنا؟
- ماذا كانت تفعل؟
- كانت تطبخ لهم.
- الأكل لا علاقة له بالسياسة.
- ليستردوا قواهم.
- كانت تعاملهم كأبنائها.
- ليقدروا على الصمود.
- الجنود؟
- الجنود.
- ليصيروا القدوة.
- لم تكن تحبهم.
- لم تكن تحبهم، كانت تطعمهم، وكانوا يحبون أكلها، الفائح برائحة القرفة، ولا يتركون حبة رز واحدة في أطباقهم، وكانوا ينسون أنفسهم، فيدعونها أحيانًا ماما أو أمي، فتبتسم لهم.
- لا بد أنه لذيذ طبيخ أمك.
- وأحيانًا كانت تناديهم باسمي، فتقول أنت يا سالم، أو باسم أخي، فتقول أنت يا سليم، أو أنت يا عبد السلام، إنه...
- الهوى المضاد للعقل.
- ...لَجُنون.
- لكل واحد جنونه.
- إنها رائحة القرفة، رائحة الدم والمني والأم، رائحة تخترق مخنا منذ لحظة الولادة، ولا تتركنا حتى لحظة الموت. رائحة القرفة، رائحة الأساطير، رائحة الكتب المقدسة، رائحة الأنبياء، رائحة الملوك، رائحة العصافير، رائحة العظمة، رائحة الغزو، رائحة القهر، رائحة الغيرة والحسد والتنافس، رائحة المستحيل، رائحة العناكب. كانت لأمي رائحة العناكب، كانت تجذب الجنود برائحتها إلى حضنها، وتجعلهم يقذفون بين ثدييها، كانت لذتها أن يقذف الجنود بين ثدييها، أن يلوثوا حلمتيها، أن يغمضوا أعينهم بخجل، وهم يرون أنهم أخطأوا المكان. رائحة القرفة، رائحة الاغتصاب والاقتحاب والالتهاب، فتطلب منهم أن يغسلوا أيديهم بالنار، أن يُسَكِّنوا شهواتهم بالنار، أن يشعلوا ماءهم بالنار. وبعد ذلك، كانت تعد لهم القهوة، فيشربونها، ويشكرونها، يتمدد بعضهم على الأرض، ويغفو قليلاً، وبعضهم يدخن سيجارة، يعرضون على أمي، فتقول إنها لا تدخن، لكنها تأخذ سيجارة، يشعلونها لها، وهي لا تدري ما تفعل، فيستعيد أحدهم السيجارة من فمها، ويشعلها لها، ثم يضعها في فمها، ويقول له: اسحبي! فتسحب، بينما تنفجر بالسعال، وهم ينفجرون بالضحك...


يتبع القسم الثالث الفصل الأول


* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".