العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الرابع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4955 - 2015 / 10 / 14 - 11:13
المحور: الادب والفن     

أخيرًا، نجح لحسن في إقناع أخيه بالعمل معه، في المخبزة. كان عليه أن يُقنع المعلم أولاً، ونجح بعد التخلي عن عدة امتيازات: ألفا فرنك فقط في الشهر، غير مصرح بهما، وبالتالي لا تأمين صحي ولا حقوق اجتماعية أخرى، اثنتا عشرة ساعة عمل في اليوم.
- ألفا فرنك! صاح أخو لحسن محتجًا.
- هذا أفضل، قال لحسن لأخيه، من أن تغدو لصًا أو مقامرًا.
- ألفا فرنك في الشهر لعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم!
- اعتبر نفسك سعيدًا! أنا، بدأت بخمس عشرة ساعة في اليوم و...
- ألفا فرنك!
- ...ألف فرنك في الشهر. حتى أنني كنت أدفع ثمن الخبز الذي أصنعه بيديّ هاتين.
- ألفا فرنك!
- إما أن تقبله هكذا أو ترفضه، قال الأخ الكبير ليوقف كل احتجاج.
أما أبناء عمه الثلاثة، فعمل أولهم نجارًا، ثانيهم كناسًا، ثالثهم تسلطت عليه عجوز ثرية جاءت لتعالج كلبها من الزكام عند الطبيب البيطري. رفض كل العروض من نوع حارس في الليل، منزه كلب، مرافق مجنون. قال إنه يفضل البقاء عاطلاً عن العمل طالما أنه لا يجد عملاً يعادل أو يفوق العمل الذي كان يمارسه في الرباط، وهو لا يبالي بالعمل في مؤسسة عامة، أو شركة، أو وزارة!
داومت العائلة صاحبة التلفزيون على ازدرائنا، وهي تعيش كما لو لم نكن موجودين في الحي أو كما لو، هي وحدها، التي كانت تسكن الحي مع تلفزيونها وَجِيرة الطبيب البيطري. نَمَتْ علاقاتها بطبيب الدواب، الجاذب للكلاب إلى رّدْبِنا: في إحدى المرات، قام بزيارتهم، وأخذ فنجان قهوة. ادعى بالعمل في حينا لأنه لم يكن عنصريًا، ولأنه كان ديمقراطيًا. هذا ما حكته المرأة العجوز لابن عم لحسن، حتى أنها تساءلت إن لم يكن دون جوان عصرنا. في الواقع، لم يكن له أي زبون ذكر، حتى أنه غازلها عدة مرات، منتظرة الأكثر من طرفه. ومع الأسف، الأسف لأجلها، توقف عند ذلك. هذا من المحتمل لأن معظم زبوناته عجوزات، ومما لا شك فيه أنها كانت تعتبر نفسها الأجمل بينهن! ثم، أكدت أنه دون جوان العصر عن حق وحقيق، عشيقاته الشابات يعددن بالعشرات.
حكى لنا المغربي كذلك أنها كانت تنفق على كلبها أكثر مما تنفقه على نفسها: لحوم خاصة، أطباق خاصة، حلويات! عشر مرات أكثر من النقود التي كانت تكرسها لأناس مثله، هو الذي يبيعها المتعة، المسكين!
ومن القصص التي تحوي العجب العجاب على التأكيد أن الكناس، ابن العم الثاني للحسن، ترك مهنة المهانة التي له، وقرر الذهاب إلى بيروت. عندما سألناه السبب، أجاب:
- أريد القتال كما يفعل أفضل الرجال!
كان أبو لحسن الأسعد في العالم.
- عندما كنتُ في مثل سِنّه، كانت لي الحمية نفسها، قال. ذهبتُ لأقاتل في الصحراء الغربية، وَجُرْحُ كَتِفي هذا لهو الميدالية التي حفرها الوطن بإزميله في لحمي.
- أنت فخرنا، يا عمي!
- كان علينا أن نمنع فلول البوليساريو من التسلل خلف مواقعنا، فركبنا سفن الرمال، وأبحرنا غير مبالين بالخطر المحدق بنا. لم نأبه بالعاصفة، جعلنا من أعمدة الدمار والموت أعمدتنا، وانقضضنا على الأعداء، فأبدناهم كلهم عن بكرة أبيهم.
- وهذا الجرح كيف، يا عمي؟
- هذا الجرح؟
- جرح كتفك.
- جرح غائر!
- كيف جرحوك، يا عمي؟
- من؟
- فلول البوليساريو.
- ألم يخبرك أبوك؟
- لم يخبرني.
- كل الناس...
- لم يحك لنا أبي أبدًا عن جرحٍ في كتفك.
- ...يعرفون الحكاية.
- حكاية الجرح؟
- وإلا حكاية ماذا؟ حكاية جرح كتفي لم تزل حتى اليوم تدور على ألسنة الرواة في ساحة جامع الفْنَا! لكن دومًا ما كان أبوك يغير من شجاعتي واستبسالي! أنت لم تطلع على أبيك، أنت طلعت على عمك!
- رجل وَنِعْمَ الرجال، يا أبي، قال لحسن. هذا ما يعني الرجل! رجل! رجل! عن حق وحقيق!
وهذه الأصداء: رجل، رجل، رجل، رجووووووول... لللللللللللللللللل!...
زغردت زوجة لحسن، فكانت لمرزوق مناسبته. جاءني هاربًا من أصداء الرجولة، وطلب مني أن أكتب رسالة توصية لأخي عبد السلام.
- مم أنت خائف؟ سألته.
- من لا شيء، أجاب.
- المقاتلون لا حاجة لهم برسائل توصية.
- هل أقول لك الصدق؟
- أنت خائف.
- من كل شيء.
- لا أحد ضربك على يدك لتذهب.
- ضربني.
- من؟
- الجبان أبي.
- تقول عن أبيك جبانًا!
- وأنا طلعت عليه. ثم هناك...
- لا أحد يطلع على أحد.
- ...الجرح.
- جرح عمك؟
- آه! كم أتوق إلى جرحٍ مثله.
- إذا أردت جرحتك أنا، ولا حاجة لك إلى القتال.
- أعرف، لكن...
- بضربة صغيرة من موساي.
- ...ليس الأمر واحدًا، ليست المتعة...
- كما تشاء.
- ...واحدة.
- ماذا تريدني أن أكتب لأخي عبد السلام؟
- أن أعمل في الصفوف الخلفية.
- والجرح؟
- سينتظر. الحرب في بيروت لن تتوقف غدًا.
- أنا أفهم معزة هذا الجرح عندك.
- جُرح يتبدل، يتلون، يتكلم، ينادي، يمشي، ينط، يصرخ، يزعق، يسب، يلعن، يراضي، يعادي، يداعب، يلاعب، يتملق، يتألق، يضاجع، يصارع، يعبر المحيطات، يقطع القارات، يختصر المدارات، ويبقى شابًا يافعًا لا يكبر، ولن يكبر! تنبثق منه الصقور والأسود والظباء، تزحف منه الثعابين والعقارب والآيات، تعوم فيه الدلافين والقروش والحيتان! تهيمن بأمره الآلهة والملوك والرؤساء! إنه أقوى من كل شيء، أقوى من الزمان، أقوى من المكان، البراكين، الزلازل، الثورات! الأخوّة، الصداقة، المساواة! آبار النفط، بحار الدم، آبار الماء! المفاعلات النووية، الصواريخ العابرة للقارات، الشركات المتعددة الجنسيات! أقوى من القوة في عصرٍ القوةُ فيه كل شيء! يكون بأمره الليل والنهار، الموت والحياة، المني والطمي! هذا الجرح تاريخنا، هزائمنا به انتصارات، انحطاطنا تقدمٌ وازدهار، جهلنا علمٌ واختراعات، إنه مستقبل الإنسانية، المستقبل كما يراه العلماء والأنبياء والزبالون الذين أنا واحد منهم والدجالون والطبالون والاقتصاديون وقامعو الكلمات والممحونون والعذراوات ومخرجو أفلام البورنو وغائطو الثقافة وقادة الأحزاب من عباقرة الحيض ومستثمرو الأديان وفروج النساء.



يتبع القسم الثاني الفصل الخامس



* يرجى من الناقد والقارئ اعتماد هذه النسخة المزيدة والمنقحة وباقي روايات المرحلة (مدام حرب، المسار، النقيض، الباشا، الأعشاش المهدومة، العجوز، الشوارع...) التي أعدت كتابتها منذ عدة سنوات في "الحوار المتمدن".