العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4949 - 2015 / 10 / 8 - 12:28
المحور: الادب والفن     

عرفنا من الجريدة أن ماري انتحرت، فسقط الخبر علينا كالصاعقة. كان يوم السبت، وكنا كلنا في البيت. عادل هو من أعلمنا، بكلمات موضوعية تخلو من أي انفعال، ووصف موتها بنقض أسس المجتمع. حمنا حولنا، فمن سيقول للأم؟ وما لبث أن وصل بعض رجال الشرطة على رأسهم ضابط، وأخبروها. طلبوا منها الذهاب إلى المستشفى، لأخذ الجثمان، فسقطت المرأة فاقدة الوعي، تحت قدمي العذراء.
ذكر تقرير الطبيب جروحًا في البطن وتحت القلب، فكيف انتحرت؟ بقي ذلك لغزًا غامضًا إلى الأبد.
حررتُ مع لحسن تقرير الوفاة، وكنا كلنا حاضرين في الموكب، ما عدا البرتغالي الذي فضل شد نفسه ببرغي على نافذته. بكى لحسن، وشعرتُ بزفراته كطعنات خنجر في القلب. لم أعد أتحكم بنفسي، فتركت دموعي تسيل. اجتمعنا كلنا عند الأم، بصمت. سمعنا ابتهالاتها، وتأوهات مارتا وامرأة لحسن، في الغرفة الأخرى. عملت إيزابيل لنا قهوة للمرة الثالثة، فلم يشرب لا لحسن ولا حسين. نهض حسين، وذهب مبكرًا إلى عمله. أخذت أوديت فنجانًا، لكنها لم تشرب، وقدمته لابن العم الذي اعتدى عليها. قال لحسن إنه كان يريد إحضار حلويات صنعها بنفسه، لكن الوقت لم يكن لأكلها.
لم تغادرني صورة ماري لحظة واحدة، تذكرتُ اليوم الذي جاءت فيه عندنا، خائفة من الموت. شدت نفسها على صدري، وشددتُ أصابعها بين أصابعي. تذكرتُ اليوم الذي استرقتُ فيه النظر إلى ساقيها الجميلتين، عندما كانت تصعد الدرج، واليوم الذي مشينا فيه معًا في شارع بيلفيل. كانت تلك أحلى لحظات حياتي. تذكرتُ أيضًا أنها كانت حبلى، وأن الطبيب ذكر جروحًا على البطن وتحت القلب. انقبض قلبي، وانفجر شيء في رأسي. رأيت أختي، الحبلى، وهي تركض في حقل سنابل، يتبعها ملاك الموت، وهو يلوح بسكينه. رأيت أختي، وهي تصرخ، وهي تجمد في مكانها فجأة. رفع الملاك سكينه إلى ما لا نهاية، وغرسه في بطنها، فتفجرت منه الأنهار. ثم، غرس سكينه في قلبها، ومن جديد في بطنها، لينبثق الطفل الوليد ميتًا، فيستبسل بطعنه حتى اللحظة التي تكف فيها أختي عن الصراخ وعن الحراك إلى الأبد. بعد ذلك، استمتع ملاك الموت بأنفاس الحياة، ومسح سكينه الدامي بالسنابل.
عقدت ألسنتنا الدهشة، عندما رأينا البرتغالي يأتي لتقديم تعازيه للأم. جلس في زاوية، ونظر طويلاً إلى الأرض. ثم، رفع رأسه، ورأينا عينيه المبتلتين بالدموع. من جديد، خفض رأسه، وحدق طويلاً في الأرض دون أن ينطق بكلمة واحدة. فجأة، ناحت الأم، وسمعناها تقول، وهي تضم أندريه:
- لقد عدت، يا ولدي! لقد عدت إليّ، يا ولدي الحبيب!
تفجرت الدموع من عيني جان، فأخذ عصام يطبطب على ظهره للتخفيف عنه، لكنه دفع يد صديقه عنه بعيدًا، ونبر دون أن نتوقع ذلك:
- لماذا لم يقتلوني أنا بدلاً من ماري؟!
- ماري انتحرت لعلمك، قال عصام.
- أنت تعرف جيدًا أنهم قتلوها!
- أنا لا أعرف...
- قتلوها، قتلوها...
- ...لا جيدًا ولا سيئًا أي شيء!
- ...قتلوها! المسكينة!
- هل أنت تحبها أيضًا؟
- أنا لا أستأهل حبها.
- أنت إذن...
- أنا لا أستأهل...
- ...تحبها.
- ...حُبَّ أحد لأنني...
- أنت تحبها، أنت تحبها.
- ...قتلتُها بيد غيري.
- ماذا تقول؟
- قتلتُ أمي قبلها بيد غيري.
- أفصح، يا مومس المومس!
- يدي البريئة هذه يد مجرمة، كم من واحد وواحدة قَتَلَتْ!
- قتلتَ ماري؟ قتلتَ أمك؟
- ماري اليوم، وأمي منذ أعوام.
- أنت تهلوس!
- دعني إذن أهلوس، يلعن دين، لأحتمل فاجعتي بأمي أمس، وبماري اليوم، فقط...
- ماذا تقول، يا...
- ...لِأَحتمل.
- ...مومس المومس؟!
- فقط لِأَحتمل.
- يا مومس المومس! يا مومس المومس!

* * *

عندما عاد حسين حوالي منتصف الليل ثملاً تمامًا، كان الضوء الآتي من حجرة البرتغالي يُعَكِّرُ الظلام الدامس. انتبهَ إلى شيء يتأرجح خلف النافذة، فتردد، ونظر من حوله. كان الرَّدْب كله ينام. سعل، وبصق، وترنح. نظر مرة أخرى من حوله، وكأنه يبحث عن أحد خفيّ، وهمهم: حورية! عاد يسعل، ويبصق، وقلبه الآن على حافة شفتيه، إلا أنه لم يقئ. قرر أخيرًا الذهاب ليلقي نظرة. صعد الدرج الخشبي إلى الطابق الأول، فالثاني، وألقى نظرة على نافذة جارنا الغريب. ارتعدت فرائصه، وفكر أن الكحول هو السبب. فتح عينيه على سعتهما، ورأى أن البرتغالي قد شنق نفسه فعلاً. استغرقت بضع ثوانٍ زمنًا طويلاً، وبدافع الذعر، أطلق صرخة مختنقة.


يتبع القسم الأول الفصل الخامس عشر